ذكر "معهد ستيمسون" الأمريكي أن تركيا بمحاولات تحقيق توازن ما بين الأمن والدبلوماسية، فإنها تنتهج مسار سياسة مزدوجة تجاه العراق، بما في ذلك عبر تعزيز ارتباطها الطويل مع إقليم كوردستان، معتبراً أن الضغوط التي تمارسها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على العراق للحد من اعتماده على إيران، تؤمن لأنقرة نافذة استراتيجية أوسع لتعميق انخراطها عراقيا.
وأوضح التقرير الأمريكي ، أنه مع تواصل حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط بسبب تفاقم النزاعات العسكرية والتحولات الديناميكيات إقليمياً، فإن نهج تركيا تجاه العراق تبلور بشكل ملحوظ، حيث ان أنقرة سعت منذ العام 2020، الى تطبيع علاقاتها مع الحكومة المركزية في بغداد لتعزيز ارتباطها الطويل مع حكومة اقليم كوردستان.
وبحسب التقرير، فإن السياسة التقليدية لأنقرة تجاه العراق، ركزت على الحفاظ على وحدة أراضيه والتعامل مع التهديدات الامنية التي يمثلها حزب العمال الكوردستاني، مضيفاً أن الاستراتيجية التركية إزاء العراق تتشكل من خلال السياسة الداخلية، بما في ذلك صراع أنقرة الطويل مع الأقلية الكوردية التركية، والاضطراب الداخلي في العراق وصراعات القوى، والديناميكيات الجيوسياسية الإقليمية، خصوصا تأثير إيران في العراق وانهيار نظام الأسد في سوريا، مضيفاً أنه في نهاية المطاف، فإن السياسة التركية تجاه العراق توجه بشكل أساسي من خلال اعتبارات أمنية، تعكس دوافع داخلية واستراتيجية إقليمياً.
وأشار التقرير إلى أن علاقات تركيا مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني تظل قوية، حيث تجاوزت التوترات التي تلت استفتاء الاستقلال في العام 2017 والذي لم تتحقق أهدافه، مضيفاً أن علاقات أنقرة مع الاتحاد الوطني الكوردستاني، المنافس للحزب الديمقراطي الكوردستاني، تظل أكثر تعقيداً بسبب اعتبار أنقرة بأن قيادة بافل طالباني، في الاتحاد الوطني تتسامح مع أنشطة حزب العمال الكوردستاني.
ورأى التقرير أن هناك إمكانية لحدوث تحول في العلاقات التركية - العراقية بعد النداء الذي وجهه زعيم حزب العمال الكوردستاني عبدالله أوجلان، المسجون منذ فترة طويلة، في 27 شباط/فبراير 2025، لإلقاء السلاح وحل الحزب، وهو ما قد يفتح الباب أمام سياق جديد ليس فقط على الصعيد الداخلي وإنما على الصعيد الإقليمي أيضاً.
وتابع أن أنقرة عززت في الوقت نفسه علاقتها الأمنية مع بغداد عبر اتفاقيات تبادل المعلومات الاستخبارية والعمليات العسكرية المشتركة، بما في ذلك مذكرة التفاهم الأمنية التي صنف العراق بموجبها حزب العمال الكوردستاني كـ"منظمة محظورة"، وهو موقف أعاد العراق التأكيد عليه خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد في نيسان/أبريل 2024، في حين وافق العراق على تحويل القاعدة التركية في بعشيقة، إلى مركز تدريب وتعاون مشترك بين تركيا والعراق.
وإلى جانب ذلك، لفت التقرير إلى أن أنقرة كثفت من نشاطها الدبلوماسي من خلال الاجتماعات المتكررة مع المسؤولين العراقيين، بما في ذلك القيادات السنية، مضيفاً أن تركيا تسعى إلى مأسسة العلاقات الدبلوماسية وتخطي العلاقات الشخصية القائمة على القيادات، للحد من آثار التغيرات السياسية المستقبلية في العراق.
لكن التقرير لفت إلى أن الضغط الأمريكي على العراق للحد من اعتماده على إيران، يمنح تركيا نافذة استراتيجية أكثر اتساعا لتعزيز انخراطها.
وبعدما لفت التقرير إلى أن العمليات العسكرية التركية في العراق بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي من أجل تفكيك بنية حزب العمال الكوردستاني، أشار إلى أن العام 2023 شهد زيادة كبيرة في هذه العمليات، لكنه قال إن الاتفاق الأخير على نقل السيطرة على قاعدة بعشيقة الى العراق، يظهر رغبة تركيا في الحد من المخاوف العراقية المتعلقة بالسيادة ومأسسة التعاون الأمني الثنائي.
إلا أن التقرير قال إن تركيا كثفت أيضاً خلال العام الماضي، من عملياتها ضد قيادات حزب العمال الكوردستاني في منطقة السليمانية، التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكوردستاني، موجهة تحذيرات مباشرة لبافل طالباني، لقطع علاقاته مع الحزب أو مواجهة العواقب، كما أنها أوقفت الرحلات الجوية إلى السليمانية كوسيلة للضغط في العام 2023.
وأضاف التقرير أنه فيما يتعلق بالصعيد الداخلي، فإن تحولات كبيرة حصلت فيما يتعلق بسياسة تركيا تجاه الكورد، مشيراً إلى أن دعوة أوجلان لحل الحزب تنسجم مع الديناميكيات الإقليمية، خصوصاً في ظل تراجع موقع الحزب نتيجة العمليات العسكرية التركية المكثفة، لافتاً إلى أن التعاون المتزايد بين تركيا وكل من بغداد وحكومة إقليم كوردستان، فرض قيوداً على حركة الحزب أكثر.
ولهذا، ذكر التقرير أن سياسة تركيا تجاه الكورد، بدأت تدخل مرحلة جديدة، ميزتها تعزيز التنسيق المزدوج المسار مع العراق ومع حكومة الإقليم، واستراتيجية المزج ما بين الوسائل العسكرية والدبلوماسية.
إلا أن التقرير قال إن في وقت تتنقل انقرة في هذا المشهد الجيوسياسي المعقد، فإن التحولات المحتملة في السياسة الأمريكية واستراتيجيات إيران الإقليمية، ستؤدي أدواراً حاسمة في تحديد نتائج الانخراط التركي في العراق وسوريا.
تحديات استراتيجية
وبحسب التقرير الأمريكي، فإن استراتيجية تركيا، تواجه 4 تحديات رئيسية:
أولا، موازنة العلاقة بين بغداد واربيل. وقال التقرير إن التوترات متواصلة بسبب قضايا اتحادية عالقة، خصوصاً فيما يتعلق بعائدات النفط والسيطرة على الأراضي، مضيفاً أن علاقة تركيا الوثيقة مع طرف تؤثر على علاقتها مع الطرف الآخر، وهو ما يستدعي اتباع دبلوماسية دقيقة.
ثانيا، الخصومات الكوردية الداخلية. وقال التقرير إن استمرار النزاع بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني، يؤدي إلى تعقيد الأهداف الاستراتيجية التركية في الشمال العراقي، مما يوفر مساحة عملياتية لحزب العمال الكوردستاني برغم الضغط العسكري الذي تمارسه تركيا.
ثالثا، الهشاشة الداخلية في العراق. وقال التقرير إن العراق لا يزال هشاً سياسياً وأنه من المتوقع أن تعيد الانتخابات في 11 تشرين الثاني/نوفمبر إشعال الصراعات الداخلية على السلطة، وهو ما قد يعرقل المسار الحالي للعلاقات التركية العراقية.
رابعا، محدودية القدرة الأمنية. وقال التقرير إن ضعف قدرة العراق على تنفيذ الاتفاقيات الأمنية، يتجلى من خلال صعوبة تطبيق اتفاق سنجار للعام 2020 بين أربيل وبغداد من أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة ذات الأغلبية الايزيدية والتي دمرها تنظيم داعش، مضيفاً أن ضعف قوات الأمن العراقية ساهم في اتخاذ تركيا قرارها باستئناف العمليات العسكرية ضد حزب العمال الكوردستاني.
وبحسب التقرير فإن التوترات الجيوسياسية الإقليمية، خصوصاً بين الولايات المتحدة وإيران، تؤثر على الحسابات الاستراتيجية لتركيا في العراق الذي لا يزال ساحة للصراع الجيوسياسي رغم محاولات قيادته الالتزام بالحياد إقليمياً.
واعتبر التقرير أن النفوذ الإيراني الراسخ في السياسة العراقية، في ظل تنامي العلاقات الأمنية التركية، يخلق تنافساً استراتيجياً حتمياً، ويظهر هشاشة المكاسب التركية في العراق.
وأضاف التقرير قائلاً إنه برغم التحديات الخطيرة التي يواجهها النفوذ الإيراني بسبب سياسة الضغط الأقصى التي اتبعتها إدارة ترامب، وتردد بغداد المتزايد في الارتباط بإيران إقليمياً، إلا أن السياسة الأمريكية تضيف عنصراً من عدم اليقين، خصوصا إذا نفذت إدارة ترامب خططها لسحب القوات من سوريا.
وخلص التقرير الأمريكي إلى القول إن السياسة التركية إزاء العراق خلال السنوات الـ5 الماضية هيمن عليها نهج "المسار المزدوج"، مشيراً إلى أن تركيا أضافت التعاون مع الأطراف العراقية إلى علاقاتها الكبيرة مع إقليم كوردستان، كما استثمرت في كل من الأدوات الدبلوماسية والعسكرية، وهو توسع سمح لها بقدر أكبر من القدرة على التكيف مع التحولات السريعة داخلياً وإقليمياً.
إلا أن التقرير نبه إلى أن لهذه المقاربة حدودها، مضيفاً أن قدرة تركيا على الاحتفاظ بهذه الاستراتيجية، ستعتمد على مدى قدرتها على التحرك فيما بين هذه التحالفات الإقليمية المتغيرة، وعلى قدرتها على إدارة الديناميكيات السياسية الداخلية، وتحقيق التوازن بانخراطها في العراق، مع القيود الجيوسياسية الأكثر اتساعاً.