حين قررت السلطات الكويتية وقف إصدار جوازات السفر المعروفة محليا باسم "مادة 17"، فإنها أصدرت عمليا حكما يقضي بتقييد حرية التنقل لعشرات الآلاف من الأشخاص غير محددي الجنسية.
"كنا نطالب بحقنا في المواطنة واليوم نجد أنفسها لا نستطيع حتى السفر خارج البلاد"، هكذا تحدث شخص مقيم في الكويت من غير محددي الجنسية لموقع "الحرة" مشترطا عدم الكشف عن هويته لحساسية القضية.
وحالة هذا الشخص واحدة بين عشرات الآلاف ممن يطلق عليهم في الكويت "البدون" الذين كانت السلطات الكويتية تصدر لهم وثيقة للسفر تسمى "جواز مادة 17"، قبل أن توقفها مؤخرا.
"والبدون" في الكويت فئة من غير محددي الجنسية يطالبون بالمواطنة منذ عقود مضت، لكن الحكومة تعتبرهم "مقيمون بصورة غير نظامية".
وتقدّر الحكومة الكويتية عدد "المقيمين بصورة غير قانونية" بحوالي 83 ألف شخص خلال عام 2021، لكن منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقول إن عددهم قد يصل إلى 106 آلاف شخص.
"تأثير عميق"
والخميس، أعلنت الداخلية الكويتية أن الوزير فهد يوسف الصباح، وجه "بوقف جواز مادة رقم (17) الخاص بالمقيمين بصورة غير قانونية، وجميع المعاملات المقدمة الخاصة به، باستثناء الحالات الإنسانية - العلاج والدراسة".
وأوضحت الوزارة الكويتية أن كل من لديه جواز سفر "مادة 17" يعتبر "ملغيا"، مطالبة أصحاب الحالات الإنسانية بمراجعتها.
ولم تكشف الكويت عن أسباب إيقاف إصدار هذه الوثيقة التي تمكن حاملها من السفر والتنقل خارج البلاد، لكن الداخلية قالت في بيانها إن الإجراء يأتي "في إطار المزيد من الدراسة والتدقيق من قبل جهات الاختصاص".
والأحد، أفادت صحيفة "القبس" المحلية، نقلا عن مصادر في وزارة الداخلية لم تكشف عن هويتها، بأن القرار مستمر "لحين تعديل الشروط (الحالية لاستخراج هذه الوثيقة) ووضع آلية جديدة سيعلن عنها قريبا".
وبحسب الصحيفة ذاتها، فإن السلطات "تعمل على رفع سحب جوازات المادة 17 عن الحالات المرضية المستعصية المستمرة في العلاج بالخارج"، وذلك شريطة إرفاق تقرير حكومي كويتي معتمدا بالحالة وتقرير المستشفى الخارجي الذي يتعالج فيه المريض.
كذلك، ذكرت الصحيفة أن استمرار العمل بهذه الجوازات للطلاب الذين يدرسون في الخارج، لكن السلطات لن تصدرها للطلاب الجدد الذين يتطلعون للدراسة خارج البلاد للمرة الأولى.
وكان القرار الحكومي أثار جدلا واسعا في الدولة الخليجية، بين مؤيد يطالب بمعالجة أزمة "البدون" من جذورها، وآخر معارض يرى أن التأثير سيكون كبيرا على تلك الفئة من الناس، التي تضم أبناء مواطنات كويتيات.
ويرى المستشار الحقوقي الدولي، أنور الرشيد، أن قرار وزارة الداخلية في الكويت بإيقاف إصدار هذه الوثيقة "يؤثر تأثيرا عميقا" على حياة آلاف الناس من غير محددي الجنسية.
وقال الرشيد لموقع قناة "الحرة" إن هؤلاء الناس يشعرون "بهم كبير باعتبارهم بلا هوية" قبل أن يأتي هذا القرار ليفاقم مشكلاتهم، بحرمانهم من التنقل.
وتساءل الحقوقي الكويتي البارز عن أسباب عدم معالجة هذه القضية المستمرة منذ عام 1961 قائلا: "لماذا لم يُنهَ أمرهم... المشكلة الآن وصلت للجيل الثالث والرابع من هذه الفئة".
ولطالما تقول الحكومة الكويتية إن هؤلاء قدموا من بلدان مجاورة بغرض الاستفادة من الامتيازات المخصصة للكويتيين.
وفي تصريحات لوسائل إعلام محلية تعود لعام 2022، قال رئيس "الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية" في الكويت، صالح الفضالة، إنهم يعلمون أصول جنسيات أغلب "البدون".
وبحسب منظمة العفو الدولية، فإن عشرات الآلاف من غير محددي الجنسية ولدوا في الكويت، ولدى العديد منهم وثائق تثبت أن آباءهم وأجدادهم ولدوا في الدولة الخليجية الثرية أيضا.
وبموجب اتفاقية حقوق الطفل، والكويت طرف فيها، فإنه يحق لجميع الأطفال الحصول على جنسية، بحسب المنظمة ذاتها التي تشير إلى أن "هناك عشرات الآلاف من عديمي الجنسية البدون في الكويت، الذين يفتقرون إلى نفس المستوى من الخدمات التي يحصل عليها المواطنون الكويتيون المعُترف بجنسيتهم".
وتواصل موقع "الحرة" مع السفارة الكويتية لدى واشنطن لطلب التعليق على قرار وزارة الداخلية إيقاف إصدار جواز "مادة 17"، والأسباب التي دعت الحكومة لاتخاذ مثل هذه الخطوة، دون الحصول على رد حتى ساعة النشر.
"إجراء استراتيجي"
لكن الحكومة طالما تؤكد أنها حرصت على تقديم "الخدمات والتسهيلات في كافة المجالات الإنسانية والاجتماعية، خاصة مجال التعليم والصحة" لهذه الفئة من الناس.
وتشمل تلك الخدمات، التي نشرها "الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية" الرعاية الصحية والتعليم المجاني وإصدار رخص القيادة وفرص العمل ورعاية ذوي الإعاقة وعقود الزواج والطلاق.
وفي هذا الإطار، أشاد الصحفي الكويتي، جاسم الجريد، بقرار سلطات بلاده قائلا إنه "إجراء استراتيجي" يمثل "بداية لمعالجة هذه المشكلة من جذورها".
وقال إن الدولة لم تحل هذه المشكلة منذ سنوات طويلة، لكن الحكومة الحالية عازمة على إنهاء الأزمة "خلال سنوات"، كما رجح الجريد، الذي أشار في حديثه لموقع "الحرة" إلى أن "البدون مارسوا عبثا وانضموا للمعارضة ضد الأمير".
وأوضح أن هذه الفئة "نزلوا للساحات وطالبوا بإقالة رؤساء الوزراء ومارسوا تحركات عبثية لا يعطيهم القانون الكويتي الحق فيها، ويجب أن يكون هناك إحكاما أمنيا عليهم".
وتمنع المادة 12 من قانون الاجتماعات العامة والتجمعات لعام 1979 غير الكويتيين من المشاركة في التظاهرات العامة، ولطالما صدرت أحكام سجن بحق ناشطين غير محددي الجنسية خرجوا للاحتجاج للمطالبة بالجنسية.
وأضاف الجريد: "أطلعت شخصيا على أوراق عدد كبير من الحالات التي تثبت أن هؤلاء غير مولودين بالكويت ... لكنهم يرفضون الإفصاح عن هوياتهم، والبعض يرفض إجراء فحص الحمض النووي لإثبات نسبه".
ودلل الصحفي الكويتي على حديثه بتناقص أعداد "البدون" في الكويت قبل الغزو العراقي عام 1990، وبعده "بفارق كبير جدا".
وتشير الإحصائيات الحكومية إلى أن عدد غير محددي الجنسية عام 1990 بلغ 220 ألف شخص قبل أن يتناقص تدريجيا إلى 83 ألفا قبل 3 أعوام.
ومع ذلك، يرى الرشيد، من جهته، أن القرار الجديد من شأنه التأثير على حياة أبناء المواطنات الكويتيات أيضا، مؤكدا أنه اطلع على حالة لطفل من غير محددي الجنسية والدته مواطنة اضطرت إلى إلغاء سفرها لأن ابنها لا يملك حق التنقل.
وباستثناء شخص واحد، فإن ما يقرب من 10 أشخاص من المتضررين من قرار الحكومة بإلغاء جوازات "مادة 17"، رفضوا التحدث لموقع "الحرة"، خوفا من "الانتقام".
وقال ذلك الشخص في حديثه المقتضب إن "الوضع تغير في الكويت والناس أصبحوا خائفين من التعبير عن آرائهم كما هو الحال سابقا".
"قنبلة صوتية"
والشهر الماضي، قالت منظمة العفو الدولية إن السلطات الكويتية تصعّد من قمع المنتقدين هذا العام من خلال مقاضاة الأفراد، وفرض أحكام بالسجن عليهم، استنادا فقط إلى خطاباتهم أو كتاباتهم.
وقال الباحث المعني بشؤون الكويت في منظمة العفو الدولية، ديفين كيني، "إن الارتفاع الكبير في الملاحقات القضائية للنشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان والبرلمانيين بسبب تصريحاتهم الانتقادية للحكومة يظهر أن السلطات الكويتية تصعّد حملة قمع حقوق الإنسان، بما فيها الحق في حرية التعبير".
ويأتي ذلك بعد قرار أمير البلاد الجديد، الشيخ مشعل الأحمد الصباح، بحل مجلس الأمة ووقف العمل ببعض مواد الدستور لمدة 4 سنوات، في أعقاب أزمة سياسية أدت إلى تعثر الإعلان عن تشكيلة الحكومة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية، التي جرت في 4 أبريل الماضي
وهذه المرة الثالثة التي تُعلق فيها الحياة النيابية في تاريخ الكويت، حيث تتمتع الدولة الواقعة بالقرب من إيران والعراق بحياة سياسية نشطة، ويحظى برلمانها الذي ينتخب أعضاؤه لولاية مدتها 4 سنوات بسلطات تشريعية واسعة، ويشهد مناقشات حادة في كثير من الأحيان.
وبينما استغرب قرار سلطات بلاده بعدم منح "البدون" وثائق للسفر، فإن الرشيد لا يستبعد أن تكون هذه الخطوة بمثابة "قنبلة صوتية".
وقال: "اعتدنا إلقاء قنبلة صوتية لكي ينشغل المجتمع في الحديث عنها عندما يتم يكون هناك أمر يتم التحضير له"، مضيفا: "من يتخيل أن يصل الحال بالكويت، وهي الواحة الوحيدة بمنطقة متصحرة ديمقراطيا، إلى هذا الحال".