• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

العراق والإسلام السياسي (٦) .. مرجعيات تركت بصمتها في التاريخ السياسي للعراق

العراق والإسلام السياسي (٦) .. مرجعيات تركت بصمتها في التاريخ السياسي للعراق

  • 12-08-2024, 10:47
  • مقالات
  • 77 مشاهدة
د. صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 
 
١١ آب ٢٠٢٤

مرجعية السيد محسن الحكيم

في تلك الفترة ظهرت نشاطات ومواقف سياسية جديدة لبعض الشخصيات الإسلامية سواء على مستوى المرجعية كما في مرجعية السيد الحكيم أو غيره من الفقهاء. إذ افتتح الإمام الحكيم (١٨٨٩-١٩٧٠) عهد مرجعيته بموقف صارم تجاه البلاط الملكي والحكومة العراقية وصل إلى حد التوتر والمواجهة. وهو موقف تجنبته المرجعيات السابقة لأنها كانت تحافظ على علاقة هادئة مع الحكومة. ففي فترة مرض السيد أبو الحسن الأصفهاني وسفره للعلاج خارج العراق عام 1946 زار النجف الأشرف الوصي على العرش الأمير عبد الإله (١٩١٣-١٩٥٨) ورئيس الوزراء نوري السعيد (١٨٨٨-١٩٥٨). وكان من عادة المراجع أن لا يزوروا الملك أو رئيس الوزراء في محل إقامته ، ولا هم يزورونهم في مكاتب المرجعية، بل يلتقي الجانبان في الصحن الحيدري. جاء ممثل الحكومة وطلب من السيد محسن الحكيم أن يقوم مقام المرجع الأصفهاني، فذهب السيد الحكيم ومعه اثنان من كبار العلماء هما السيد علي بحر العلوم والشيخ عبد الكريم الجزائري (١٨٧٢- ١٩٦٢) (١)، فتم اللقاء. وطرح السيد الحكيم مجموعة من مطالب الناس تتعلق بمصالحهم ، ودعا الوصي ورئيس الوزراء لتنفيذها، فوعدوه بتنفيذها. ومرت فترة من الزمن إلا أن شيئاً من تلك الوعود لم ينفذ.(٢)
وفي عام 1946 نفسه انتقل السيد أبو الحسن الأصفهاني (١٨٦١-١٩٤٦) إلى جوار ربه، وحزنت عليه النجف والمدن العراقية والإسلامية ، وجاءت الوفود معزية إلى مجالس الفاتحة. والغريب أن الحكومة العراقية لم تبعث أحداً للتعزية. الأمر الذي أثار غضب الحكيم حيث انتقد الحكومة  واصفاً إياها بأنها لا تحترم العلماء . وسرعان ما وصلت انتقادات الحكيم إلى الحكومة، فأرسلت وفداً إلى النجف الأشرف للمشاركة في مراسم أربعين الفقيد.
بقيت علاقة السيد الحكيم متوترة مع البلاط والحكومة حيث شهدت تصعيداً آخر. ففي  عام 1949 قام الملك الشاب فيصل الثاني (١٩٣٥- ١٩٥٨) (كان عمره 14 عاماً، ولم يتوج بعد) بزيارة إلى النجف الأشرف فرفض السيد الحكيم استقباله . وعندما أصر عليه متصرف كربلاء عبد الرسول الخالصي (كانت النجف قضاءً تابعاً للواء كربلاء) انتفض الحكيم قائلاً: نحن لسنا جزءاً من زخرف الحضرة حتى يأتي الملك ويطلعونه على الزخارف .... وأنا لست مستعداً أن أكون جزءاً من زخرف الحضرة. (٣)
لقد أسس السيد الحكيم نمطاً جديداً في العلاقة بين المرجعية والدولة العراقية. إذ لم تعد علاقة مجاملة وزيارات تقليدية، بل صارت تتضمن طرح مطالب ومناقشة أمور عامة، بل ومتابعة تنفيذها. فلم تعد المرجعية جهة ضعيفة منكفئة على دروس الحوزة والفتاوى الفقهية وتحديد بداية الشهور العربية ورمضان ومحرم وذي الحجة.
ومن التشكيلات التي تبناها ودعمها الإمام الحكيم هو حزب الدعوة الإسلامية الذي تأسس عام 1957 بشكل سري. وكان يضم علماء ومثقفين من بينهم ولداه السيد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم، إضافة إلى السيد مرتضى العسكري والسيد محمد باقر الصدر والسيد حسن شبر والسيد عبد الصاحب دخيل.
كما رعى الحكيم (جماعة العلماء في النجف) و (جماعة العلماء في بغداد والكاظمية). وهو تجمع سياسي إسلامي علمائي تأسس في النجف بعد شهرين تقريباً من ثورة 14 تموز 1958 . وكانت الجماعة تضم اثني عشر شخصاً من الصف الثاني بعد المراجع. وكان أعضاؤها من العلماء العراقيين والعرب المهتمين بأهمية نهضة المسلمين ونشر الوعي الإسلامي السياسي، ومواجهة الأفكار والتيار العلمانية التي انتشرت آنذاك . وكانت الجماعة تصدر منشوراتها في الاحتفالات والمناسبات العامة لإطلاع الجمهور على مواقفها تجاه الأحداث. وقد حظيت الجماعة بتأييد المراجع الذين أصدروا بيانات علنية دعماً لها أمثال السيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محمود الشاهرودي والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد محمد جواد الطباطبائي التبريزي وآخرون. (٤)
وعندما تعرضت الجماعة إلى هجمة من قبل أجهزة حكومة عبد الكريم قاسم (١٩١٤- ١٩٦٣) ، سارع الإمام الحكيم إلى منحها الشرعية . إذ أصدر فتواه التي جاء فيها أنها ((من أهم الوظائف الشرعية التي يجب القيام بها في سبيل إعلاء كلمة الدين وترويج مبادئه الشريفة)). كما شجع الجماهير على تبني هذه الجماعة حيث طلب منه في نفس الفتوى بأنه (( على عامة المسلمين العمل على مؤازرتهم والوقوف إلى جانبهم في تحمل أعباء هذه الدعوة الدينية المباركة)). وأضاف الحكيم بأن (( جميع ما أصدره فريق من أعلام أهل العلم أيدهم الله تعالى باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف وما يصدر منهم من نشرات وغيرها ما يتضمن الدعوة إلى الدين والإسلام لهو من أهم الوظائف الشرعية)). (٥) وقد أصدرت الجماعة مجلة (الأضواء) التي كانت تعرض فكرها ومواقفها الرامية لتأكيد أن الإسلام ممكن أن يصبح نظاماً يطبق في المجتمع والدولة.
ورغم علاقة الحكيم بحكومة قاسم بدأت إيجابية ، وأنه أرسل تهنئة لقاسم بعد قيام الجمهورية. كما أن قاسم زار الحكيم عندما رقد في المستشفى ، لكن الأمور لم تسر على ما يرام حتى حدثت بعض الأحداث. إذ عارضت مرجعية الحكيم قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959 الذي عدته مخالفاً للشريعة الإسلامية في قسم من مواده المخالفة صراحة لبعض النصوص الشرعية مثل مساواة الذكر والأنثى في الميراث، وألغى ضرورة الحصول على موافقة ولي الزوجة أو حضور القاضي في عقد الزواج. وأن هذه المواد تخالف الدستور المؤقت الذي وضعه قاسم بنفسه والذي ينص على أن الإسلام دين الدولة.
كما انتهزت المرجعية الدينية تدهور العلاقات بين قاسم والحزب الشيوعي فأصدر السيد محسن الحكيم في 12 شباط 1960 فتوى بحرمة الانتماء للحزب الشيوعي ، وأن الشيوعية كفر وإلحاد وترويج لهما . وأصدر فتوى بحرمة اللحم المأخوذ من القصاب الشيوعي . ساند المراجع الآخرون فتوى الحكيم بصدد الشيوعية وأيده كبار الفقهاء كالسيد الخوئي والشاهرودي وعبدالله الشيرازي والشيخ مرتضى آل ياسين والسيد محمد جواد الطباطبائي التبريزي والشيخ عبد الكريم الجزائري . وبقي السيد الحكيم ماضياً في سياسة القطيعة مع قاسم.  وقد حاول قاسم تلافي التدهور الذي أصاب رصيده السياسي، فقام بزيارة إلى النجف لكنه فشل في لقاء المرجعية الشيعية لأن السيد الحكيم رفض ذلك الطلب.  وقد أضعف موقف المرجعية قاسماً حيث استفاد أعداؤه القوميون من عزله عن الشعب ثم إسقاطه.
أحدثت الفتوى ضجة كبيرة وتأثيراً في الأوساط الجماهيرية خاصة وأن الحزب الشيوعي يشارك في المواكب الحسينية ، فجاء السيد الحكيم ليكشف القناع عن عقيدة الحزب الإلحادية. وقد قام الشيوعيون بشن هجمات إعلامية ضد السيد الحكيم ، لكنهم فشلوا من إسقاط احترامه وهيبته في أعين المؤمنين. كما اتهموا السيد الحكيم بأنه أصدر الفتوى تعاطفاً مع الإقطاعيين الذين حرمهم قانون الإصلاح الزراعي من الهيمنة على الملكيات الواسعة من الأراضي الزراعية. وتعرض السيد الحكيم لمحاولة اغتيال أثناء زيارته للعتبة الحسينية المقدسة في كربلاء.
وعندما وصل حزب البعث للسلطة عام 1968 بدأ بمحاربة نشاط المرجعية ، ووصل الأمر إلى اتهام نجله السيد مهدي الحكيم (١٩٣٥- ١٩٨٨) بالتجسس لدولة أجنبية. في عام 1970 توفي الإمام الحكيم ليتولى السيد أبو القاسم الخوئي المرجعية من بعده.

 مرجعية السيد محمد باقر الصدر
يعد السيد محمد باقر الصدر (١٩٣٥- ١٩٨٠) من أكثر المراجع تأثيراً في الواقع العراقي قبل سقوط النظام عام 2003 . إذ كان مؤسس حزب الدعوة الإسلامية عام 1957 ، وأكثر الفقهاء انتاجاً ومعرفة وفلسفة . وكان تأثيره كبيراً على المستويات الحوزوية والثقافية والفكرية والشبابية في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وبسبب مواقفه ضد الحكومة تعرض للاعتقال عدة مرات ، إضافة إلى دفاعه عن الجماهير التي تعرضت لظلم وقمع حزب البعث والسلطة الحاكمة. وكانت له مواقف مشهودة في انتفاضة صفر 1977 ، وكذلك انتفاضة رجب 1979 التي جاءت بعد تأييده العلني للثورة الإسلامية في إيران.

فتوى حرمة الانتماء لحزب البعث
وفي ظل تصاعد المواجهة بين السيد الشهيد محمد باقر الصدر ونظام صدام ، أخذ السيد يفكر بالتصعيد لأن النظام لن يكف عن ملاحقة واعتقال المؤمنين ولن يكف عن القضاء على الحوزة العلمية والحركة الإسلامية . ففي عام 1979 اجتمع السيد الشهيد مع مجموعة من مساعديه وطلابه، وأخبرهم بأنه أصدر فتوى بتحريم الانتماء لحزب البعث. وأن قراره جاء في استفتاء قدمه إليه أحد مقلديه بصدد زوجته المعلمة حيث فرضوا عليها الانتماء لحزب البعث كشرط ضمن الانتماء لنقابة المعلمين، فأفتاه السيد بالحرمة وأن عليها ترك عملها لو توقف ذلك عليه. وأن السيد الصدر أعلن فتواه تلك في اليوم التالي للاجتماع.
ولما انتهى العمل ببناية الجامعة الفرعية في النجف وبدأت مرحلة قبول الطلبة تمهيداً لافتتاحها ، جاء بعض الطلبة إلى السيد الخوئي واستفتوه في جواز الانخراط في الجامعة، فأحالهم على السيد الصدر الذي أفتى بعدم الجواز، فطلبوا منه الفتوى كتابياً بخطه وتوقيعه حتى يعرف أهل النجف رأيه في ذلك، فكتب السيد الصدر بتحريم الانتماء لحزب البعث، وكشف النقاب عن حقيقة حزب البعث الذي أسس لهدم شريعة الإسلام. وما أن أخذ بعض الطلبة هذه الفتوى حتى طبعوا منها آلاف النسخ ووزعوها على أهالي النجف.
وعندما حان موعد افتتاح الجامعة وحضر أحمد حسن البكر (١٩١٤-١٩٨٢) ونائبه صدام (١٩٣٧-٢٠٠٦) وعدد كبير من الوزراء وضباط الجيش والحرس الجمهوري ومحافظ النجف فوجئوا بعدم وجود حشود شعبية لاستقبالهم كالعادة، فتحيروا وغضبوا على المحافظ لأنه تهاون في تعبئة الجماهير. لكن المحافظ أخرج لهم من جيبه نسخة من الفتوى ، وما أن قرأوا الفتوى حتى جن جنونهم.
وكثرت الاستفسارات من الذين كانوا قد انتموا لحزب البعث قبل صدور الفتوى فأجابهم السيد الصدر (( يجب أن نفرق بين براءة ذمة المكلف المكره على الانتماء لحزب البعث أمام الله، وبين النتيجة العملية التي تترتب على ذلك والآثار الخطيرة التي ستنتج على صعيد الواقع. فعلى الثاني لو أن المؤمنين وغيرهم أيضاً أكرهوا على الانتماء لحزب البعث بسبب الضغط الوظيفي أو الدراسي أو غير ذلك، فإنه وبمرور الزمن ستنشأ الأجيال، فتجد أن الانتماء لحزب البعث أمر طبيعي لا يتحرج منه من الناحية الدينية)).
وفي استفتاء آخر يقول السيد الصدر : (( إن من يتمكن من توفير مستلزمات حياته المعاشية عن طريق التجارة والعمل، فيجب عليه ذلك)). وكان يجيب أولئك الذين لا تسمح لهم الظروف بالخروج من الحزب بأنه (( يجب عليكم العمل من داخل الحزب لتفتيته بأي شكل ترونه مناسباً)).
ومن الطبيعي أن يتسرب خبر الفتوى إلى السلطة، فبعثت جواسيسها لتسجيل الفتوى من لسان السيد الصدر لإدانته بها فيما بعد. ولم يكن السيد الصدر حذراً من ذلك. وقد طلب منه أحد العلماء أن يحتاط في الجواب ويقتصر على الأشخاص الموثوقين تماماً، فكان جوابه (رحمه الله) : (لا ضير من ذلك، فأنا أريد أن يعلم الجميع أنّ الانتماء لحزب البعث حرام، ولتعلم السلطة بموقف المرجعيّة الرافض لحزبها وعقائدها) . كما كان يجيب آخرين بقوله ((إذا كنت تستطيع أن تعمل بروح علي بن يقطين فلا بأس)).
بعثت الفتوى القلق والخوف الكبير في السلطة لأن الصدر يضع حاجزاً دينياً وشرعياً أمام تمدد حزب البعث وتسلطه على كل الشعب وفي كافة الميادين. لكنها آثرت تأجيل المواجهة لحين استكمال محاصرة الصدر التي كانت حلقاتها قد بدأت. وقد تلقى الصدر تهديداً من أحد أزلام النظام الذي قال له: (( إنّ تحريمكم الانتماء لحزب البعث يكفي لإدانتكم وإنزال عقوبة الإعدام بحقّكم‏ )).
وقد انعكس أثر الفتوى على الطبقات الشعبية في كافة المجالات وخاصة الجامعات والمدارس الثانوية ودوائر الدولة. وحدثت بعض التصادمات مع البعثيين في بعض مدارس مدينة الصدر (الثورة سابقا). وفي محاولة لتهدئة الوضع ، اضطر صدام إلى زيارة المدينة وسط احتفال حاشد ، وألقى كلمة أكد فيها على اهتمام الدولة بمدينة الثورة ابتداءً من ذلك اليوم، إلا أن الجماهير راحت تهتف: (الخاين شعبه نكص إيده)، فما كان من صدام إلا أن ينسحب.

خطة إعدام الصدر
لقد أدرك حزب البعث أن استمرار الفتوى سيولد ضغطاً معنوياً ودينياً على أتباعه وعناصره، إضافة إلى تقليص مساحة الحزب تدريجياً. لذلك كان مطلب إلغاء الفتوى واحداً من مطالب السلطة كي تفرج عن السيد الصدر. فقبل إقدام النظام على إعدامه أعاد التفاوض معه في محاولة لإسكاته أو تحييده أو إسقاطه في أعين الناس، فأرسل صدام إليه أحد رجال الدين هو الشيخ عيسى الخاقاني، الذي اجتمع بالسيد الصدر وذكر له شروط صدام مقابل فك الحصار عنه وعودته للحياة الطبيعية وهي:
1-رفع الفتوى بحرمة الانتماء لحزب البعث والافتاء بجواز ذلك.
2-عدم دعم الثورة الإسلامية والبراءة من العلاقة بالإمام الخميني.
3-البراءة من حزب الدعوة الإسلامية والافتاء بتحريمه.

رفض السيد الصدر هذه  الشروط رفضاً قاطعاً . بعد ذلك أرسل صدام مبعوثاً آخر هو السيد علي بدر الدين ، وهو رجل دين شيعي لبناني، فعرض عليه تنازل النظام عن شروطه السابقة والاكتفاء بفتويين هما:
1-تحريم الانتماء لحزب الدعوة الإسلامية
2-جواز الانتماء لحزب البعث.
فكرر السيد الصدر رفضه ، وعاد مبعوث صدام مرة أخرى حاملاً معه تنازلاً آخر حيث قال له : (( إن الرئيس يبلغك تحياته ويقول: إننا نكتفي منك بفتوى واحدة من الفتويين السابقتين)) وأضاف ((إذا أصدرتم مثل هذه الفتوى ، فستفك الحكومة عنكم الحصار، ويزوركم السيد الرئيس بنفسه، ويهدي إليكم سيارته الخاصة، وتنفتح لكم الدنيا)).
غضب السيد الصدر وسخر من هذا العرض التافه، ثم طرد مبعوث صدام، وأمره بعدم المجيء إليه مرة أخرى. وهذا ما يؤكد موقف السيد الصدر من أمرين:
الأول: أن لن يفرط بحزب الدعوة الإسلامية أو يمنع الجماهير من الانتماء إليه.
الثاني: أنه بقي مؤمناً بحرمة الانتماء لحزب البعث ولن يتنازل عن فتواه ولو كلفه ذلك حياته.

لم يطق النظام صبراً وهو يشاهد نفوذ الصدر يتسع وينمو ، خاصة وأنه وراء تأسيس حزب سياسي سري هو حزب الدعوة الإسلامية. فقام باعتقال السيد الصدر في السابع من نيسان 1980 ، وبعد يومين من الحجز في القصر الجمهوري ببغداد ، تمت تصفيته وأخته السيدة آمنة الصدر في التاسع من نيسان 1980.
غاب الصدر عن المسرح السياسي لكنه ترك تياراً واسعاً داخل العراق وخارجه. وانتشرت أفكاره في العالم العربي ، وترجمت كتبه إلى عدة لغات. واستمر خطه الفكري والسياسي مؤثراً في أوساط المعارضة الإسلامية المنتشرة في إيران وسوريا وأوربا وأمريكا. وبعد سقوط النظام عادت الأحزاب الإسلامية التي رفعت لواء الصدر إلى العراق ، واستقطبت الجماهير التي عرفتها بالجهاد والصدق والتضحية.

مرجعية السيد الخوئي
في عام 1970 استلم السيد أبو القاسم الخوئي (1899-1992) مقاليد المرجعية بعد وفاة الإمام الحكيم. وقد اتسمت مرجعيته بالانكفاء على تدريس طلبة الحوزة العلمية والإفتاء للمقلدين. كما أولى اهتماماً ملحوظاً لإنشاء المدارس العلمية ودور الأيتام ، ولعل مؤسسة الإمام الخوئي في لندن أشهرها والتي كانت تدير المؤسسات التعليمية والدينية والاجتماعية خارج العراق.
 ويعد الخوئي من أكابر الفقهاء الذين قام بتدريس أكبر عدد من الفقهاء والمراجع . واتسعت رقعة تقليده لتضم أغلب الدول التي يتواجد فيها الشيعة كالعراق والخليج وإيران والباكستان والهند وآذربايجان وأفغانستان.
وللفترة الممتدة لأكثر من عشرين عاماً (1970-1990) لم يحدث أي احتكاك أو مواجهة بين مرجعية الخوئي والسلطات العراقية رغم بعض المضايقات التي يقوم بها عناصر الأمن في النجف الأشرف من خلال الطلب منه إبداء رأيه بالحرب العراقية الإيرانية (1980-1988). لكن الخوئي كان يرفض إعطاء كلمة سلبية واحدة ضد إيران ، ويتحمل الأذى ويصبر حفاظاً على الحوزة العلمية من بطش النظام. وعندما قام نظام صدام بتهجير آلاف من طلاب الحوزة العلمية في عامي 1970 و1980 إلى بلدانهم الأصلية بهدف إضعاف الحوزة ، تحمل الخوئي هذه الممارسات .
ولكن في آذار 1991 بعد الانتفاضة الشعبانية حيث سقطت محافظات الفرات الأوسط والجنوب بأيدي الثوار. وانهارت السلطة في هذه المحافظات ، وعمت الفوضى والاستيلاء على الدوائر الحكومية والمباني والمخازن العامة. أصدر الخوئي بياناً دعا فيه العراقيين إلى الحفاظ على الأرواح وعدم التعدي أو التسرع باتخاذ قرارات فردية . ولما لم تستقر الأوضاع اضطر الخوئي إلى إصدار بيان ثان اختار فيه نخبة من العلماء ليتولوا تنظيم الأمور ومنع الناس من تجاوز الأحكام الشرعية. استمر عمل هذه المجموعة من العلماء طوال فترة الانتفاضة التي قاربت الأسبوعين. وانتهت بعدما ضرب النظام المدن العراقية ومنها المدن المقدسة كالنجف وكربلاء حيث تعرضت إلى القصف بصواريخ أرض-أرض. كما قتل أكثر من مائتي ألف إنسان قتلاً تحت الأنقاض أو بالرصاص والقذائف أو دفناً أحياء في المقابر الجماعية.
وقد تعرض منزل الخوئي إلى عملية اقتحام ، واعتقل السيد الخوئي ، وأقتيد عنوة إلى بغداد يوم 30 آذار 1991 . بعد ذلك تم اعتقال أفراد أسرته وأقاربه من الرجال والنساء، حتى بلغ عددهم (106) أشخاص من ضمنهم ابنه الأصغر إبراهيم. وضع الخوئي بعيداً عن أسرته في مديرية المخابرات العامة حيث تعرض للإهانات والتهديد بقتل أفراد عائلته المعتقلين. (٦) وقد أعدم النظام اثنين من أفراد أسرته وهما السيد محسن والسيد حسن الميلاني .
وبعد ليلتين أجبروه على لقاء صدام ، وتسجيل حديث تمت فبركته فيما بعد ليبدو أنه يهاجم الانتفاضة ورجالها وذلك في 20 آذار 1991. بعد ذلك أعيد إلى النجف الأشرف حيث وضع تحت الإقامة الجبرية.
أدى اعتقال الخوئي إلى احتجاجات واسعة في أنحاء العالم حتى وصل الأمر للأمم المتحدة التي أرسلت وفداً دولياً برئاسة صدر الدين أغا خان لزيارة الخوئي عام 1991 . لكن ذلك لم يمنع النظام العراقي من تشديد الإقامة ، ومنع زيارة اللجنة الطبية التي كانت تزوره كل شهرين أو ثلاثة . كما منع من السفر إلى خارج العراق تحت أي سبب . ومنع قدوم أية لجنة طبية من دولة أجنبية. وبسبب ما عاناه الخوئي توفي السبت الموافق  8 آب 1992 في مدينة الكوفة. وقد أجبر النظام ذويه على دفنه ليلاً تحسباً لأية اضطرابات في النجف الأشرف. وقد تم إعلان حظر التجول في النجف الأشرف ليوم كامل. كما منع إقامة مراسم التشييع حتى من قبل ذويه. وفي يوم الأحد 9 آب 1992 قام سلطات المدينة بإجبار الأسواق والمحلات التجارية على فتح أبوابها خشية حدوث إضراب عام قد يمتد إلى بقية المدن.

الهوامش
١- عبد الكريم بن علي بن الشيخ كاظم الجزائري عالم وفقيه شيعي شهير. ولد في النجف الأشرف في 12 جمادى الآخر 1289 هـ . تولى المرجعية لأكثر من ثلاثين عاماً. شارك في حركة الجهاد ضد الاحتلال البريطاني عام 1915 حيث قاتل في جبهة الحويزة. كما شاركك في ثورة العشرين 1920 وكان من أقطابها. وكان مستشاراً لأبي الحسن الأصفهاني. رفض تولي وزارة المعارف فأسندت إلى السيد هبة الدين الشهرستاني. توفي في 16 صفر 1382 هـ في النجف الأشرف.
٢- محمد هادي الأسدي (الإمام الحكيم) / ج 1 / ص 162
٣- محمد هادي الأسدي (الإمام الحكيم) / ج 1 / ص 164
٤- عدنان إبراهيم السراج (الإمام محسن الحكيم) / ص 68
٥- عدنان إبراهيم السراج (الإمام محسن الحكيم) / ص 68
٦- هادي الجبوري (الشيعة والخوئي) / ص 116

أخر الأخبار