• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

العراق والإسلام السياسي (٧) .. مرجعيات أخرى في النجف الأشرف

العراق والإسلام السياسي (٧) .. مرجعيات أخرى في النجف الأشرف

  • 12-08-2024, 20:50
  • مقالات
  • 78 مشاهدة
د. صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 
 
١٢ آب ٢٠٢٤

مرجعية السيد محمد صادق الصدر

يعد السيد محمد محمد صادق الصدر (  1943 - 1999) أحد تلامذة السيد محمد باقر الصدر وابن عمه. تخرج من كلية الفقه عام 1964 ثم التحق بالدراسة في الحوزة العلمية. ودرس لدى كبار الفقهاء كالسيد الخوئي والسيد محسن الحكيم. بلغ مرحلة الاجتهاد وله من العمر 34 عاماً عندما أجازه السيد محمد باقر الصدر بالاجتهاد. كما تزوج ثلاثة من أولاده ببنات السيد محمد باقر الصدر.
وبرز في السبعينيات من خلال مؤلفاته وأبرزها (موسوعة الإمام المهدي) من أربعة مجلدات. وبعد وفاة السيد الخوئي عام 1992 أعلن الصدر مرجعيته وتصديه للشأن العام. وقد امتازت مرجعيته بأمور غير متعارف عليها بين مراجع التقليد طوال القرون الماضية مثل:

أولاً: إقامة صلاة الجمعة في مسجد الكوفة
 إذ أقام صلاة الجمعة بنفسه وكان يلقي الخطبتين. كما أمر وكلائه بإقامتها في بغداد والمحافظات. وهي ظاهرة جديدة على الوسط الشيعي لأن الفقهاء اعتبروا وجود الحاكم العادل شرطاً في إقامة صلاة الجمعة. وهذا لم يتوفر منذ استشهاد الإمام علي عليه السلام.  
امتازت خطب الجمع بالبساطة مع عدم الإخلال بعمق المفاهيم التي يطرحها ، كان يستخدم لغة الشارع المبسطة بعيداً عن لغة أساتذة الحوزة ومصطلحاتها . إن معظم المراجع يجد صعوبة في مخاطبة الجماهير بأسلوب وخطاب تفهمه لأنهم اعتادوا على التعامل مع طلابهم ودروسهم الفقهية العميقة .

ثانياً : الانفتاح عل كل الشرائح الاجتماعية
اعتمد الشهيد الصدر الثاني منهجاً تغييرياً يشمل جميع الشرائح الاجتماعية في المجتمع العراقي ، فلم يقتصر خطابه الجماهيري على أوساط الحوزويين أو المتدينين أو الحاضرين في صلاة الجمعة –رغم تنوع انتماءاتهم الاجتماعية- بل استطاع بفهم عميق بمكونات مختلف الطبقات الاجتماعية ومتابعة دقيقة لنمط تفكيرها ، أن يخاطبها بالأسلوب الذي تفهمه ، بما يقربها من الالتزام بالإسلام وتعاليمه . وخصص لها جزءً من خطبه رغم كثرة المطالب والقضايا الملحة التي كان عليه طرحها ، وخاصة العقائدية والأخلاقية والسياسية . ويتضمن الانفتاح التسديد ونقد الظواهر السلبية في ذلك الوسط ، وترشيده من أجل التكامل باتجاه الأهداف الإسلامية إضافة إلى الرعاية والاهتمام بمصالحه . و من هذه الشرائح :

1- الوسط الحوزوي : أراد السيد الصدر إصلاح الوسط الحوزوي قدر الإمكان كي يتحمل هذا الوسط مسؤوليته العظيمة وتأثيره في المجتمع . ولكي يتمكن من أداء رسالته يجب أن يتخلص من بعض الأعراف والتقاليد التي تشكل حاجزاً بين الحوزة وجماهير الأمة . ولذلك انتقد بعض المظاهر السائدة في الوسط الحوزوي مثل تقبيل الأيدي حيث خصص لها قسماً من خطبة الجمعة .

2- سدنة العتبات المقدسة : من المفارقة أن إدارة الأوقاف الشيعية كانت بيد وزارة الأوقاف العراقية ذات الصبغة السنية . ورغم أن الأضرحة والمراقد الشيعية تضم مؤسسات ضخمة ومبان وممتلكات عديدة وموظفين كثيرين لكن المرجعية كانت بعيدة عن الإشراف عليها أو التدخل في شؤونها . وتستولي وزارة الأوقاف على واردات الأوقاف الشيعية من نذور وهدايا ، كما تستوفي الأوقاف الحكومية رسوماً على المقابر الشيعية . وأكد قانون رقم (130) لسنة 1964 على أن الأموال الموروثة والموهوبة إلى جهة رسمية أو شبه رسمية تعفى من ضريبة التركات ، مما يعني أن الأملاك الموهوبة للمؤسسات الشيعية يدفع عنها ضريبة التركات التي تصل إلى أكثر من 35% لأن المؤسسات السنية فقط هي التي تعتبر رسمية أو شبه رسمية . ورغم حصولها على عائدات الأوقاف الشيعية إلا أن وزارة الأوقاف غير معنية بخدمات وصيانة المساجد الشيعية ، حيث تلتزم وزارة الأوقاف العراقية بدفع أجور الماء والكهرباء والخدمات ورواتب المؤذنين والعاملين للمساجد السنية فقط بينما يقوم المصلون الشيعة بتحمل نفقات مساجدهم . ولا تبني الدولة أي مسجد في المدن الشيعية بل تبني مساجد للسنة وترسل موظفاً دينياً سنياً كإمام للجامع ، وتدفع له راتباً. ( ١)
كما تقوم وزارة الأوقاف بتعيين موظفي العتبات المقدسة أو ما يسمى بـ(الكليدار) . وغالباً ما تتوارث هذه الوظيفة عائلات محددة ، وتتصرف بأموال النذورات والهدايا.
ويؤكد على ضرورة أن تشرف الحوزة والمرجعية الشيعية على هذه الأوقاف فيقول ( إن المراقد المقدسة هي مراقد دينية ، والمفروض أنها يجب أن تكون تحت إشراف الجهة الدينية المختصة كالحوزة وبالأخص المرجعية ، وينبغي أن تكون بل يجب أن تكون تحت إشراف المرجعية). (٢)

3-  الشباب :  يعتبر المجتمع العراقي مجتمعاً شاباً حيث تشير إحصائيات تلك الحقبة (1999) إلى أن 44% هم دون 14 عاماً و 53% بين 15-64 عاماً ، و3% فقط فوق 65 عاماً . (٣) وهذا يشير إلى الدور الهام الذي يلعبه قطاع الشباب في المجتمع العراقي . فكان يهتم بالشباب وتربيتهم واستقبالهم والإتصال بهم . ويسلط الأضواء على المواقف العظيمة للشباب في خطب الجمعة .

4- النساء : يبلغ عدد الإناث في العراق ما يزيد عن 11 مليون من مجموع عدد السكان البالغ 22 مليون نسمة . (٤) وقد لعبت المرأة العراقية دوراً مشرفاً في المواجهة الطويلة بين الشعب والسلطة . وقد استشهدت الكثير من النساء تحت التعذيب ،كما حكم على أخريات بالإعدام . وأبرز مثال هي الشهيدة السيدة آمنة الصدر (بنت الهدى) شقيقة المرجع السيد محمد باقر الصدر التي اعتقلت معه واستشهدت معه بعد تعرضها للتعذيب الوحشي . وكان للمرأة العراقية دوراً رائعاً في الانتفاضة من خلال المساندة والدعم والمعنوي والمادي للمجاهدين . ولعل حجاب المؤمنات في الشارع العراقي يمثل أقوى تحد للسلطة العلمانية التي حاولت القضاء على ظاهرة الحجاب بشتى الأساليب دون جدوى . لذلك اهتم الشهيد الصدر الثاني بمخاطبة المرأة العراقية من خلال التأكيد على المسؤوليات المناطة بها سواء داخل الأسرة أو خارجها . ففي خطبة خصصها بمناسبة ذكرى الزهراء (ع) تطرق السيد محمد الصدر إلى النظرة الاسلامية الأصيلة للمرأة منتقداً بعض الأفكار والنظرات المتخلفة المتداولة بين بيع الأوساط الاجتماعية حيث تنظر للمرأة نظرة دونية حيث يقول ( نتحدث عن المرأة والنظرة الشرعية تجاه هذا القسم الهام من المجتمع الذي يمثل حوالي نصف المجتمع . والذي يجب أن لا يهمله الفرد والمجتمع والشريعة أو يسقطه عن نظر الاعتبار كما في بعض النظرات المتلفة أنها كأنما ملحقة بالحيوانات . والقرآن ليس هكذا ، إنما احترم الرجال والنساء معاً ).

5- الموظفين : من أجل القضاء على أي مصدر للقوة لدى الشعب قضى النظام العراقي على غالبية النشاط الاقتصادي الذي يدار من قبل القطاع الخاص ، إذ هيمنت الدولة على التجارة الخارجية والداخلية والمعامل والمصانع والشركات والبنوك . وفي عامي 1969 و1980 وما بعده قام النظام العراقي بتهجير مئات التجار الشيعة إلى إيران بعد مصادرة أموالهم وعقاراتهم ومنشآتهم الصناعية والتجارية ، وسلب منهم حتى وثائقهم . وذلك لقطع الطريق أمام أي دعم مادي قد يتلقاه الإسلاميون من أولئك التجار ، وتجفيف المصادر المالية للمعارضة الإسلامية .
 وبسبب هيمنة الدولة على مجمل النشاط الاقتصادي تنامى عدد العاملين والموظفين في الدوائر الحكومية بشكل كبير . فجرى ربط قطاع كبير من العاملين في المجتمع بالدولة حيث صارت هي مصدر رزقهم الوحيد ، فأصبح الموظف يحرص على لقمة عيشه ويحتمل كل الضغوط الممارسات السلطوية ضده وضد الشعب دون أن يبدي معارضة قوية . وأنيطت بالموظف مهام أخرى في دائرته إضافة إلى وظيفته ، و تم إخضاعه للضغوط النفسية والمعيشية بهدف الانتماء إلى حزب السلطة ، ليمارس مهنة المخبر وكاتب التقارير على الآخرين . كما أن جميع المناصب العليا في الدوائر الحكومية يستحوذ عليها أفراد من أقارب السلطة أو من قريتها أو من المحسوبين عليها ، والمدافعين عنها . وليس إصلاح هذه الفئة بالأمر الهين - رغم وجود قسم من الموظفين غير راضين عن السلطة – لكن السيد الصدر الثاني لم يغفل مخاطبتهم لما يلعبونه من دور هام في حياة الناس ، لأن ما من أحد إلا ويراجع دائرة حكومية في أية قضية أو أمر .

 6- العشائر العراقية : تقع مدن النجف وكربلاء في الفرات الأوسط حيث تحيط بها العشائر العراقية المستقرة هناك . وخلال القرن التاسع عشر توطدت العلاقة بين المرجعية الدينية والعشائر . وكان العلماء الشيعة يتوسطون بين العشائر الثائرة وبين السلطات العثمانية المحلية لإنهاء ثوراتها . (٥) ونشأت روابط وثيقة بين الفقهاء الشيعة وشيوخ العشائر ، وقد تجسد ذلك في العديد من الأحداث التاريخية التي اعتمد فيها مراجع الدين على أبناء العشائر ، خاصة في المواجهات العسكرية مثل مواجهة الغزو البريطاني للعراق عام 1914 ، وأثناء ثورة العشرين 1920 . وقد ضعفت العلاقة بين المرجعية الدينية والعشائر في النصف الأخير من القرن العشرين لأسباب بعضها يعود إلى المرجعية نفسها ، وبعضها يعود إلى الحكومات المتعاقبة التي سعت إلى تدمير البنية التحتية للريف العراقي ، وإحلال مفاهيم وأيديولوجيا قضت على الانجذاب الروحي للمرجعية ، وقلصت من قدسية مراجع الدين في نفوس الناس ، وغيرت من نمط العلاقات التقليدية لتتركز علاقة العشائر بالسلطة والمؤسسات التي تمثلها. (٦) ولم تتمكن السلطات المتعاقبة من مسخ شخصية أبناء العشائر بالكامل ، بل بقي هناك ولاء تقليدي تجاه العلماء والمراجع . فأراد الصدر الثاني أن يعيد الثقة للعشائر العراقية ويرمم العلاقة التي تعرضت للتصدع ، وأن يؤجج في نفوس أبنائها الحمية للدين والالتزام بأحكامه . فقد رفض السيد محمد الصدر استلام الحقوق الشرعية من العشائر بل أمرهم بتوزيعها وصرفها داخل العشيرة فأوجد حالة من (عطاء المرجع للعشيرة) بدل (حالة الأخذ منها ) فقط . كما اهتم بإرسال المبلغين الواعين للعشائر . وبذل جهوداً من أجل تغيير قانون العشائر الذي يتضمن مفردات تخالف الشريعة الإسلامية فاتفق مع شيوخ العشائر على توقيع عقد (السانية العشائرية) التي تنظم قضاياهم بما ينسجم والتعاليم الإسلامية ، حيث صرح الصدر الثاني ( ويجب أن لا يبقى الحال على ما هو عليه من عدم التفقه في الدين ، ولا ينبغي أن يكون قانون العشائر معمولاً به بما لا يرضى الحوزة ولا أي مرجع ولا متفقهاً في دينه لأنه حرام في حرام ) (٧) وركز على قضية اهتمام العشائر بالفقه الإسلامي الذي يجب أن يرتب سلوكهم وتعاملهم مع بعضهم البعض ، كما دعاهم إلى مراجعة الحوزة العلمية في حل مشاكلهم .

7- الغجر : تعيش هذه الفئة الاجتماعية على هامش المجتمع العراقي بسبب وضعها الأخلاقي والثقافي والاجتماعي الخاص ، وبسبب أسلوبها في الحياة وطريقة عيشها ومصادر رزقها الذي يعتمد على الرقص والغناء . وهي مجتمعات صغيرة مغلقة على نفسها ، وغالباً ما تسكن في ضواحي المدن في أحياء مغلقة وفقيرة أو على شكل قبائل راحلة مع حيواناتها ، تنصب خيامها قرب المدن والقرى لتستقبل طالبي الشهوات ، أو تحيي فتياتها الليالي الحمراء والأعراس . ولا توجد مصادر اجتماعية أو تاريخية تتحدث عن الغجر وأصلهم وأماكن تواجدهم في الخارطة العراقية ، وخلت من ذكرهم الإحصائيات السكانية التي نشرها باحثون اجتماعيون. (٨) كما لا توجد معلومات عن أصولهم وتركيبة مجتمعاتهم وأنماط تفكيرهم وتراثهم وعاداتهم الاجتماعية وغيرها ، ولا يعرف عنهم إلا أنهم يمثلون جماعة توفر اللهو والتسلية. (٨) ولا يحظى الغجر بسمعة جيدة بين أوساط المجتمع العراقي (١٠) ، كما أنهم حافظوا على عزلتهم وعدم اندماجهم في الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية .
يعد السيد محمد الصدر أول شخصية اجتماعية مرموقة وأول فقيه مسلم يخاطب الغجر . لقد خاطب هذه الفئة الاجتماعية سعياً لإدماجها في المجتمع العراقي بعد إصلاح أوضاعها العقائدية والأخلاقية . إذ خاطب فيهم عقولهم وتفكيرهم ودعاهم إلى التخلي عن عاداتهم ومصادر كسب رزقهم فقال لهم (ما هو العدل والحق من الناحية الإنسانية والاجتماعية ، هل يمكن أن يتمثل العدل والحق بالتسيب والمعاصي والفواحش والمراقص والمغاني ؟ أو أنه ضد ذلك كله كما هو واضح . فإذا العدل في ترك ذلك فاتركوه).
كما انتقد فيهم حالة التقليد الأعمى للموروث الاجتماعي والفكري جيلاً عن جيل دون تأمل أو وعي . واعتبر ( أن الكسب الذي يأتي عن طريق هذه الأساليب التي يتخذها الغجر غالباً كالرقص والغناء والربا والزنا وقراءة الكف وغير ذلك إنما هو كسب حرام ، لا يوجد من يفتي بحليته في الإسلام من مختلف المذاهب ).
ودعا الصدر الغجر إلى الاندماج في المجتمع والخروج من حالة العزلة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لأن ذلك يعني عدم الشعور بالمسؤولية تجاه هذه المجتمع ،  وعدم مشاركته في همومه ومصالحه وطموحاته ، فقال ( الإنسان الغجري لا يحمل هم الآخرين في المجتمع لا كأفراد ولا كمجتمع ، ولا يفكر في تفكيرهم ، ولا يتدخل في شؤونهم لا الدنيوية ولا الدينية . وهذا انعزال مؤسف جداً مهما كان حالهم . فهم يشكلون قوة واضحة التأثير في المجتمع . ولأجل هذا التقوقع والانعزال أصبحوا لا يهتمون بأفكار الاختصاصيين مهما كانت ، ولا تهمهم الدراسات العليا الدنيوية والدينية معاً . كما لا تهمهم المناصب والأهداف الدينية والدنيوية معاً . وإنما قنعوا بأن يكونوا أناساً مجهولين ومبغوضين ومتشردين ).

8- أهل السنة : عاش شيعة العراق طوال أربعة قرون من الخلافة العثمانية تحت رحمة سياسة القمع الطائفي والتمييز المذهبي . فقد ترتب على ذلك ، فضلاً عن تقييد حرية الاعتقاد المذهبي ، إقصاء الشيعة من العمل في أجهزة ووظائف الدولة ، ومن المشاركة في الحياة السياسية العامة ، أو اعتبار زعاماتهم الدينية والاجتماعية كممثلين شرعيين لأفراد الجماعة الشيعية .(١١) ورفضت الدولة العثمانية معاملة الشيعة حتى مثل بقية الأقليات الدينية كالدروز والعلويين النصيرية واليهود والنصارى في الامتيازات التي حصلوا عليها في إعلان همايون عام 1856.( ١٢) وأصدر مشايخ الدولة العثمانية عدة فتاوى ، على فترات متعددة ، تقضي بجواز قتل الشيعة باعتبارهم مارقين عن الإسلام ، وأن ديارهم ديار حرب ، ويجوز أخذهم أسرى. (١٣) ورغم ما عاناه الشيعة من الدولة العثمانية لكنهم وقفوا إلى جانبها أثناء الغزو البريطاني للعراق عام 1914 .
وبعد الاحتلال البريطاني بقي الشيعة يرفضون الإدارة البريطانية للبلاد فقاموا بثورة العشرين عام 1920 التي قادتها المرجعية الدينية . وقد أصدر المرجع الديني الشيخ محمد تقي الشيرازي بياناً دعا فيه السنة والشيعة لتوحيد صفوفهم تجاه مطالبهم لتحقيق استقلال العراق . (١٤) وأدى التقارب الطائفي إلى تبادل الزيارات وإقامة الموالد النبوية والمجالس الحسينية التي يحضرها الطرفان . وأنشد الشعراء السنة قصائد شعر تمتدح أهل البيت والأئمة (ع). (١٥)
ومنذ الخمسينيات في القرن العشرين ارتفعت العديد من الأصوات تنادي بالوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة . وقد سعى بعض العلماء الشيعة ( أمثال الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء و السيد مرتضى الرضوي والسيد محمد تقي القمي)  والسنة ( أمثال الشيخ أحمد حسن الباقوري والشيخ محمد الغزالي والشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الذي أصدر فتوى بجواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية ) وغيرهم . وثمرة لتك الجهود تم تأسيس (جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية) في القاهرة في الخمسينيات لتقريب وجهات النظر بين المذهبين . (١٦)  
وعندما أصدر عبد الكريم قاسم (قانون الأحوال الشخصية رقم ١٨٨ لسنة ١٩٥٩) اتفق علماء المذهبين على التصدي لذلك القانون المخالف للشريعة الإسلامية . واتسمت تلك الفترة بلقاءات مشتركة لعلماء الشيعة والسنة . إذ جرى الاحتفال بالمولد النبوي في جامع الإمام أبو حنيفة بحضور مجموعة كبيرة من علماء وأهالي الكاظمية. (١٧) ولم تستمر الأمور على ذلك المنوال بل سرعان ما توترت الأجواء والعلاقات بين السنة والشيعة بعد وصول عبد السلام عارف إلى السلطة (1963-1965) والذي مارس سياسة طائفية متشنجة ضد الشيعة. (١٨)
وأثناء فترة احتجازه وجه السيد محمد باقر الصدر خطابه إلى أهل السنة يدعوهم للوقوف مع الشيعة بوجه النظام الصدامي حيث قال ( فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي . أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام ، وبقدر ما تحملون من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التسلط والذل والاضطهاد ). ( ١٩) ولما لم تكن هناك أية مقدمات أو أسس لوجود علاقة سابقة بين المرجعية وأهل السنة ، فلم يكن لذلك النداء أي تأثير في الأوساط السنية .
أما الشهيد الصدر الثاني فقد بنى علاقات مع أهل السنة ، أفراداً وأئمة جماعات ومساجد . وأصدر توصياته بانفتاح الأوساط الشيعية عليهم والتعاون معه وحضور مساجدهم والصلاة خلفهم . فقد تمكن من بناء علاقات وثيقة مع أهل السنة بشكل جعلهم يأتون إلى مسجد الكوفة للمشاركة في صلاة الجمعة وكان يستقبلهم ويحييهم في خطبة الجمعة . فقد صرح في إحدى خطبه ( من الملحوظ في هذه الأيام أن كثيرين من إخواننا أهل السنة من رجال دين وغيرهم يحضرون صلاة الجماعة والجمعة عندنا ،وليس في الحرج التقليدي أي تفكير في ذلك بحضور صلاة الجمعة والجماعة عندنا ، أو يحتمل قيام أي فرد بذلك في يوم من الأيام ، مع شديد الأسف . إني خاطبت أهل السنة والجماعة بالصداقة والعلاقة .والحق أن التجاوب واضح ومسرّ ومنتج لأفضل النتائج ). ( ٢٠)
وقد ظهر تأثير تلك العلاقة الوطيدة بعد استشهاد الصدر ومجموعة من وكلائه من أئمة الجمعة والجماعة في المحافظات الأخرى . فقد اتخذت السلطات إجراءات شديدة لمنع إقامة صلاة الجمعة في المناطق الشيعية أو في المساجد الشيعية ، فأخذ المصلون الشيعة يحضرون صلاة الجمعة في المساجد السنية حيث يجدون كل ترحيب وتفاعل من قبل أئمة الجمعة السنة ، ويؤيدون أنصار ومقلدي ووكلاء الشهيد الصدر الثاني ، مما اضطر السلطة إلى إغلاق بعض المساجد السنية في الرمادي. (٢١) وعندما شن النظام حملة إساءة ضد الشيعة  دان علماء وخطباء السنة في الرمادي والأعظمية تلك الخطة التي تستهدف الوقيعة بين السنة والشيعة . وكانت صحيفة (بابل) التي يرأسها عدي قد نشرت مجموعة مقالات بعنوان (الجذور الطائفية في العراق) تنال من أئمة الشيعة . كما نشرت إحدى مكتبات بغداد كتباً تتبنى منهجاً طائفياً في محاربة الشيعة . (٢٢)
10 - العراقيين في الخارج : سعى الشهيد الصدر الثاني إلى تقوية علاقته بالأمة خارج العراق رغم الحصار الدولي المفروض على العراق . وقد حيا الجماهير العراقية في المهجر بقوله ( وحيا الله العراقيين النازحين من بلادهم الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . وحيا الله جميع طلاب وجميع محبي الإمام الشهيد السعيد الصدر ، وهم إخواني وزملائي وأقاربي وأكثر من أقاربي أعزهم الله أجمعين . وحيا الله العاملين لدين الله الساهرين في سبيل إعلاء كلمة التوحيد في داخل إيران وخارجها ، في داخل العراق وخارجه ، وفي داخل بلاد الإسلام وخارجها ، وجزاهم الله خير جزاء المحسنين ، ومعهم قلبي ويدي ورأيي هذا الضعيف الذليل الحقير). (٢٣ )
 فقد أراد الانفتاح على المسلمين في بقية البلدان ، وإن كنا نعتقد أن غالبية مقلديه في الخارج من العراقيين المهاجرين واللاجئين . لذلك سعى إلى إرسال ممثلين عنه وفتح مكاتب في بعض البلدان التي يتواجد فيها عراقيون شيعة كما في سوريا والأردن وإيران ولبنان والإمارات وأستراليا .

اغتيال السيد محمد صادق الصدر
وفي خطوة أخرى للتحرش بالسلطة أفتى السيد محمد الصدر بحرمة التعامل مع (منظمة منافقي خلق) الإيرانية المعارضة للجمهورية الإسلامية حين سأله أحد المتعهدين العراقيين بتجهيز مقرات المنظمة بالمواد الغذائية والخضروات فأجابه ( هذا غير جائز لأنه إعانة على الإثم ، اقطع هذه العلاقة فوراً ).
هذا الاستقطاب الجماهيري والنفوذ المتنامي للسيد محمد الصدر صار يقلق السلطة بشكل كبير، فقررت التخلص منه بسرعة. فجاء تنفيذ عملية اغتياله مساء الجمعة الموافق 19 شباط  1999 عندما هاجم مسلحون السيارة التي يستقلها، وقتل معه ولداه.
أحدث استشهاد السيد محمد الصدر موجة من الاحتجاجات والتظاهرات داخل العراق وخارجه، أعقبتها موجة من الاعتقالات لأنصاره ووكلائه وطلابه.
وبعد سقوط نظام صدام عام 2003 تزعم ولده السيد مقتدى الصدر الجماهير المؤيدة لوالده. وصار قوة سياسية لها نواب ووزراء ووكلاء وسفراء ومدراء عامون، إضافة إلى قوة عسكرية (جيش المهدي) دخلت في مواجهات مع القوات الأمريكية تارة ، ومع القوات الحكومية تارة أخرى. وشهد التيار الصدري انشقاقات سياسية وعسكرية ، مثل (حزب الفضيلة) ، (عصائب أهل الحق) ، (رساليون) وغيرها.

مرجعيات معاصرة أخرى
تختزن الحوزة العلمية الكثير من المجتهدين الذين يصل بعضهم إلى موقع المرجع الذي لديه مقلدون. ولعل أبرز المرجعيات الحالية هي:

مرجعية السيد محمد سعيد الحكيم
يعد السيد محمد سعيد بن محمد علي بن محسن الطباطبائي الحكيم (193٦ - ٢٠٢١) أحد المراجع الأربعة الكبار في النجف الأشرف. درس لدى كبار الفقهاء أمثال السيد الخوئي ووالده محمد علي الحكيم وجده السيد محسن الحكيم والشيخ حسين الحلي. بسبب نشاط ابن عمه السيد محمد باقر الحكيم المعارض تعرض في 10 أيار 1983  للاعتقال من قبل نظام صدام ، إضافة إلى مجموعة من عائلة الحكيم، وأعدم النظام 16 شخصاً انتقاماً منه. دخل السيد محمد سعيد سجن أبو غريب حيث مكث فيه حتى إطلاق سراحه في 7 حزيران 1991 أي بعد الانتفاضة الشعبانية بثلاثة أشهر.
أصبح الحكيم مرجعاً بعد وفاة المرجع السيد عبد الأعلى السبزواري عام 1993 . لديه علاقات طيبة مع مختلف الشرائح الاجتماعية . كما أولى اهتماماً بالجاليات العراقية المقيمة في الخارج. إذ كتب (رسالة موجهة للمغتربين) ، وكتاب فقهي خاص بالمغتربين سماه (مرشد المغترب).

مرجعية الشيخ إسحاق الفياض
ولد الشيخ محمد اسحاق الفياض عام 1930 في ولاية غزنة في أفغانستان. درس العلوم الدينية في القرية ثم انتقل إلى مدينة مشهد حيث أكمل دراساته الحوزوية. وانتقل بعدها إلى قم المقدسة ثم إلى الأهواز ، ثم انتقل إلى البصرة حيث استقر في مضيف الشيخ عبد المهدي المظفر. بعد ذلك انتقل إلى النجف الأشرف حيث تصدى للمرجعية. وله مؤلفات في الفقه والأصول . وله أتباع ومقلدين في بلده أفغانستان. ويعد الفياض أقرب المراجع إلى المرجع السيستاني، ويتبنى مواقفه السياسية.

مرجعية الشيخ بشير النجفي
ولد الشيخ بشير حسين النجفي عام 1942 في ولاية البنجاب عندما كانت جزءً من الهند. درس العلوم الدينية في مدينة لاهور على يد جده لأبيه محمد ابراهيم الباكستاني. هاجر إلى العراق عام 1965 ودرس على يد كبار الفقهاء مثل السيد الخوئي. كما باشر التدريس في مدارس الحوزة العلمية . وله مؤلفات في الفقه والأصول .
وقد برز دور النجفي بعد عام 2003 من خلال تصريحاته وبياناته التي أثارت جدلاً في الأوساط السياسية والتربوية. ففي الوقت الذي كان المرجع السيستاني يعلن أنه على مسافة واحدة من السياسيين والكتل السياسية، فوجئت الأوساط السياسية والحوزوية بتصريحات الشيخ النجفي في انتخابات مجلس النواب عام 2014 حيث انحاز علناً لإحدى الجهات. إذ صرح في 27/4/2014 أي قبل الانتخابات بثلاثة أيام بأنه يدعو إلى انتخاب شخصية سياسية صراحة ، وأطلق عليه بأنه (ولده) . من جانب آخر هاجم النجفي رئيس الوزراء العراقي آنذاك السيد نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون ، وانتقد حكومته دون الالتفات إلى تأثير ذلك على موقع المرجعية التي عادة لا تنحاز علناً لأي سياسي. وربما زادت تصريحات النجفي من إقبال الجماهير على التصويت للمالكي حيث كان الفائز الأول في العراق حيث حصل على 721 ألف صوتاً، وحاز ائتلاف دولة القانون على أربعة ملايين صوت من مجموع 12 مليون ناخب.
الهوامش
١- حسن العلوي ( الشيعة والدولة القومية في العراق) / ص 278-281
٢- عادل رؤوف (مرجعية الميدان )/ حاشية ص 137-138 ) نقلاً عن لقاء صحفي مسجل مع السيد محمد الصدر .
٣- الإحصائية مأخوذة من الأنترنت من The World Factbook 1999 -  IRAQ
٤- تبلغ نسبة الذكور إلى الإناث 1.02 ، حيث يتركب المجتمع العراقي من  11.338.000 ذكراً و 11.087.000 أنثى ، حسب إحصاء عام 1999 من قبل The World Factbook 1999 -  IRAQ
٥- اسحق نقاش ( شيعة العراق) / ص 60
٦- في عام 1958 أصدر عبد الكريم قاسم قانون الإصلاح الزراعي حين تمت مصادرة أراضي شيوخ العشائر وتوزيعها على الفلاحين فأضعف سلطة الشيوخ . وبدً من عام 1968 بوصول حزب البعث إلى السلطة تم اختراق المنظومة القيمية للعشائر العراقية بتأسيس الجمعيات الفلاحية في الريف والمرتبطة مباشرة بالمنظمات الحزبية في المدن القريبة لتشكل رقابة أمنية على العشائر . كما تم احتواء غالبية شباب العشائر في المؤسسة العسكرية والخدمة بعيداً عن عشائرهم ، فضعفت علاقتهم بها ، إضافة إلى نمو مصلحة قوية مع السلطة من خلال الراتب والامتيازات والإنتماء لحزب السلطة .
٧- السيد محمد الصدر ، خطبة رقم (21)
٨- لم يذكر حنا بطاطو أي شيء عن الغجر ولم يدرجهم ضمن جداول التكوين الديني والعرقي لسكان العراق راجع :( العراق : الطبقات الاجتماعية)
٩- لا يذكر عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي عن الغجر سوى ثلاثة أسطر حيث يقول ( وللغجر في الريف العراق وظيفة مهمة من هذه الناحية .   فلديهم فتيات بارعات في الرقص والغناء ،وهم يتنقلون بهن بين القبائل الريفية فيشبعون فيها بعض الحاجة إلى اللهو التسلية ) ( علي الوردي :    دراسة في طبيعة المجتمع العراقي / ص 326 )
١٠- بعد وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1968 بدأ التلفزيون العراقي ببث برنامج أسبوعي يقدم فيه أغاني ورقص تقوم به الغجريات . وكان اسم البرنامج (أغاني من الريف) تقدمه (بنات الريف) لإهانة أبناء العشائر والحط من شأن نسائها حيث يجري تشبيههن بالغجريات . وكان العديد من الوزراء والمسؤولين البعثيين يهوون الغجر ويقضون لياليهم بينهم . وأثناء الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) امتدح إعلام السلطة  الغجر لأنهم تبرعوا بمصوغاتهم وحليهم لدعم (قادسية صدام) .
١١- عبد الحليم الرهيمي (تاريخ الحركة الاسلامية في العراق 1900-1924) / ص 110
١٢- محمد فريد المحامي ( تاريخ الدولة العلية العثمانية) / ص 484-489
١٣- جعفر عبد الرزاق ( العلماء المسلمون بين الفقه السياسي والعمل السياسي) في (الفكر الجديد) ، العدد (11-12) / ص 204-205 ، الصادر في كانون الثاني 1996
١٤- علي الوردي ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) / ج 5 / القسم الأول / ص 183
١٥- علي الوردي ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) / ج 5 / القسم الأول / ص 191-195
١٦- راجع على سبيل المثال :
–السيد مرتضى الرضوي (في سبيل الوحدة الإسلامية) ، القاهرة : 1980
– السيد محمد تقي الحكيم (قصة التقريب بين المذاهب) ، طهران : 1982
– منظمة الإعلام الإسلامي (حول الوحدة الإسلامية : أفكار ودراسات ) ،  طهران : 1984
– السيد محمد تقي الحكيم  (التشيع في ندوات القاهرة) ، بيروت : 1999
١٧- حسن العلوي ( عبد الكريم قاسم ، رؤية بعد العشرين ) / ص 68
١٨- راجع مذكرة الشيخ محمد رضا الشبيبي المؤرخة في 28/10/1965 التي قدمها إلى رئيس الوزراء العراقي عبد الرحمن البزاز ، والتي عبر فيها عن مظلومية الشيعة وسياسة التمييز الطائفي ضدهم . المصدر ( سعيد السامرائي ( الطائفية في العراق ، الواقع والحل) / ص399-404.
    وأنظر وثائق الخارجية البريطانية التي تتحدث عن الحكم الطائفي بين عامي 1963-1966 في (حامد البياتي (شيعة العراق ، بين الطائفية والشبهات).
١٩- محمد رضا النعماني ( الشهيد الصدر : سنوات المحنة وأيام الحصار) / 305
٢٠- السيد محمد الصدر ، خطبة رقم (45)
٢١- نشرة (النخيل) ، العدد (49) الصادر في شباط 2000 ، وهي نشرة شهرية تصدرها الجمعية الثقافية العراقية في هولندا
٢٢- نشرة (النخيل) ، العدد (46) الصادر في تشرين الثاني 1999
٢٣- من خطاب كان من المقرر إلقاؤه بمناسبة افتتاح مكتب السيد محمد الصدر في قم المقدسة ، (عادل رؤوف ، مرجعية الميدان / ص 368-369)

أخر الأخبار