• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

العراق والإسلام السياسي (١٣) .. السيستاني وفتاوى الانتخابات التشريعية

العراق والإسلام السياسي (١٣) .. السيستاني وفتاوى الانتخابات التشريعية

  • 18-08-2024, 16:11
  • مقالات
  • 60 مشاهدة
د. صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 

١٨ آب ٢٠٢٤

 تقرر إجراء انتخابات أول مجلس تشريعي هو الجمعية الوطنية العراقية في 30 كانون الثاني 2005. أبدى السيد علي السيستاني اهتماماً ملحوظاً بالانتخابات التشريعية وعملية تشكيل الجمعية الوطنية العراقية. ويعود ذلك الاهتمام إلى أن المجلس يمثل المؤسسة الأقوى في الدولة والذي يكون للشعب العراقي دوره الهام في تشكيله واختيار أعضائه بالانتخاب الحر المباشر. وتعود أهمية الجمعية الوطنية إلى الأمور الآتية:
1-من أهم المهام التي تقوم بها الجمعية الوطنية هي تدوين دستور دائم للعراق. وهذه المهمة تعتبر مسؤولية تاريخية وشرعية وقانونية وسياسية جسيمة لابد أن يتحملها أناس أكفاء. كما ستضع الجمعية قانون الانتخابات الذي يحدد كيفية إجراء الانتخابات في العراق مستقبلاً.
2- إن الجمعية مسؤولة مباشرة عن تشكيل الحكومة الانتقالية والتي يراد لها إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية أي لمدة عام واحد، ولابد من وجود مسؤولين كفوئين ومن ذوي الخبرة والنزاهة. كما ستحدد الجمعية تركيبة الحكومة القادمة من النواحي السياسية والمذهبية والقومية.
3-تتولى الجمعية المصادقة على ميزانية الدولة العامة والإشراف على الأموال والدخل الوطني والواردات العامة والإنفاق العام وتوزيع الثروة بين أبناء العراق. وهذه كلها قضايا حيوية للشعب العراقي ومستقبل استقراره وسعادته.

لما كان السيد السيستاني من أشد المناصرين لإجراء الانتخابات ، سعى بثقله لإنجاحها رغم المعارضة السنية الواسعة. واستقبل سماحته مختلف الفئات الاجتماعية وممثلي الأحزاب السياسية والطوائف الدينية والمذهبية العراقية ليحثهم على المشاركة في الانتخابات. وقام مكتب سماحته بالإشراف على تشكيل قائمة الائتلاف الموحد التي ضمت في غالبية مرشحيها من الأحزاب الإسلامية الشيعية مثل حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وحزب الفضيلة ومنظمة بدر والاتحاد الإسلامي لتركمان العراق، وأحزاب ليبرالية شيعية مثل حزب المؤتمر الوطني بزعامة الدكتور أحمد الجلبي، وشخصيات إسلامية مستقلة أخرى. كما ضمت القائمة بضعة مرشحين من السنة العرب.
ومن أجل دفع العملية الانتخابية نحو الأمام ومشاركة جميع العراقيين فيها، أصدر السيد السيستاني فتوى وأعطى تعليمات ووصايا تعتبر متابعة لأدق التفاصيل التي من العادة لا يتناولها المرجع الأعلى، ولكن حرص المرجعية الشيعية على نجاح الانتخابات جعلها تعطي إرشادات دقيقة، يمكن تقسيمها إلى قسمين:(١)

القسم الأول: في الخطوط العامة للانتخابات:-
1-التأكيد على إجراء الانتخابات في موعدها ونزاهتها.
2-وجوب مشاركة كل فرد عراقي مؤهل للتصويت (أي يبلغ 18 عاماً فما فوق) دون استثناء، الشاب والشيخ، الصحيح والمريض، وحتى المسن يمكنه المشاركة بمساعدة أحد، بحيث لا يضيع صوت واحد.
3- وجوب مشاركة النساء في الانتخابات، ناخبات ومرشحات للمجلس. وهذا يعتبر إقراراً بشرعية المشاركة السياسية للمرأة المسلمة.
4- وجوب مشاركة جميع أبناء الشعب العراقي من مختلف القوميات والأديان والمذاهب.
5- دعم تشكيل لجنة من المستقلين مهمتها مساعدة الأحزاب والحركات السياسية والشخصيات المرشحة من أجل أن يتمثلوا في لائحة موحدة تستطيع دخول المنافسة وتحقيق الفوز المطلوب.
6- التأكيد على انتخاب الذين يخدمون البلاد والشعب والمصلحة العامة ، والذين يحظون بقاعدة شعبية وتأييد الشارع العراقي.
7- عدم تأييد أي طرف من الأطراف السياسية حتى تحافظ على الحيادية والعدل.

القسم الثاني: في تفاصيل الانتخابات:-
1-دعا العراقيين للتحقق من إدراج أسمائهم في سجلات الناخبين بصورة صحيحة.
2-دعا من لم يُدرج اسمه أو أدرج بصورة مغلوطة إلى مراجعة اللجنة الانتخابية في منطقته وإبراز المستمسكات المطلوبة لتصحيح ذلك.
3- الاستفادة من أخطاء الانتخابات الأفغانية التي أجريت مؤخراً، لاسيما مسألة الحبر المستعمل لضمان عدم حصول التزوير، وقيام بعض الناخبين بالتصويت أكثر من مرة واحدة.
4- تشكيل لجان شعبية يشرف عليها وكلاؤه ومعتمدوه في المناطق والمدن العراقية لمساعدة المواطنين على التأكد من وجود أسمائهم في سجلات الناخبين.

لقد برهنت المرجعية الشيعية أنها تريد حكومة وطنية اكتسبت شرعيتها من أصوات الناخبين وليس بدعم أجنبي أو محاصصة حزبية وعشائرية أو تعيين من قبل الاحتلال. كما أبدت رغبة قوية في إشراك الأمم المتحدة في الاشراف على الانتخابات كي تتجنب الاتهامات المتوقعة بالتزوير وغيرها، وكي تحظى الانتخابات باحترام المجتمع الدولي والشعب العراقي على السواء.
إن تأثير المرجعية الشيعية بات قوياً في تعبئة الشعب العراقي من أجل إنجاح الانتخابات أولاً، ومن أجل التأكد من الحضور الجماهيري المطلوب، كي يشعر الجميع بالمسؤولية تجاه البلاد ، ويساهم الجميع في صنع القرار وإدارة الدولة، لأنه وطنهم جميعاً. فإضافة إلى فتوى السيد السيستاني ، أصدر المراجع الكبار في النجف الأشرف وهم السيد محمد سعيد الحكيم والشيخ إسحق الفياض والشيخ بشير النجفي فتاوى تشجع الناس على المشاركة في الانتخابات.
كان لفتوى المرجعية الشيعية بوجوب مشاركة جميع العراقيين في الانتخابات صدى واسعاً، حيث التزمت بها الجماهير العراقية، من مختلف الأوساط الاجتماعية والقومية. لقد كان مشهداً رائعاً لا مثيل له في إقبال العراقيين على صناديق الاقتراع والإدلاء بأصواتهم لمرشحيهم ، بكل حرية وشفافية. لقد تحدى العراقيون جميع الضغوط ورسائل الوعيد التي أرسلها زعيم منظمة القاعدة أبو مصعب الزرقاوي وبقية الجماعات الإرهابية بضرب المراكز الانتخابية. وقد حدثت بالفعل عدة حوادث إرهابية عندما قام بعض التكفيريين بتفجير أنفسهم باستخدام أحزمة ناسفة، راح ضحيتها أكثر من ثلاثين مواطناً بريئاً. كما لم تلتفت الجماهير لفتاوى المقاطعة وبيانات التثبيط التي أصدرتها التيارات السنية كهيئة علماء المسلمين وديوان الوقف السني والحزب الإسلامي العراقي.
بالرغم من استشراء العنف وتهديدات منظمة القاعدة والجماعات الإرهابية السنية الأخرى فقد شارك 58% من الناخبين في أول انتخابات برلمانية. وكانت هناك مشاكل ليست سهلة مثل  وجود مواقف معارضة من الانتخابات وخاصة من السنة العرب، وتلكؤ سكان بعض المدن في تسجيل أسمائهم في سجلات الناخبين، ووجود توتر أمني وسياسي في بعض المناطق . كما شارك فيها العراقيون المقيمون في الخارج حيث تم افتتاح مراكز اقتراع في سوريا وإيران والأردن ودولة الإمارات وبريطانيا وهولندا وأمريكا والدانمارك. وقد شارك في الانتخابات (110) أحزاب و كيانات سياسية، خرج منها (99) كياناً خاسرين. فمن مجموع 275 مقعداً ، حصلت قائمة الائتلاف الموحد على (140) مقعداً أي بنسبة (48%)، وقائمة التحالف الكردستاني على (75) مقعداً بنسبة (27%)، والقائمة العراقية على (40) مقعداً بنسبة (13%)، وقائمة عراقيون على (5 مقاعد)، وبقية الأحزاب الصغيرة حصلت على ما بين مقعد واحد إلى ثلاثة مقاعد.

الانتخابات البرلمانية الثانية
من المعروف بأن السيد السيستاني قد وفر دعماً كبيراً لانتخابات 30 كانون الثاني 2005 التي تعتبر أول انتخابات حرة ومستقلة وشفافة في تاريخ العراق. وفي ضوء نتائج الانتخابات تم تشكيل الجمعية الوطنية التي مثلت أول برلمان عراقي يعبّر بصدق عن آراء جميع المشاركين في الانتخابات. إذ ضمت الجمعية جميع مكونات الشعب العراقي من العرب والكرد والتركمان والكلدوآشوريين، والسنة والشيعة، مسلمين ومسيحيين.
وبسبب الأداء غير الجيد أحياناً للجمعية وجهت إليها مجموعة من الانتقادات بعضها موضوعي ، والآخر دعائي جاء من الجماعات التي قاطعت الانتخابات. كما كان لاهتمام أعضاء الجمعية في إقرار قوانين تهم مصالحهم الشخصية كالرواتب والمنح والامتيازات والتقاعد، قد سبب استياءاً لدى أوساط دينية وسياسية وشعبية وإعلامية. وكان المنتقدون لأداء الجمعية يرون أن الظرف الحالي الذي يعيشه أبناء العراق من ظروف معيشية صعبة ومشاكل البطالة والسكن ونقص الخدمات تستوجب على أعضاء الجمعية إبداء الاهتمام بوضع حلول لهذه المشاكل التي تهم قطاعات واسعة من الجماهير العراقية. كما أن على أعضاء الجمعية أن يهتموا بقضايا الناس التي انتخبتهم وأوصلتهم إلى مقاعد البرلمان، لا أن ينسوا هذه الجماهير التي قدمت ملايين الشهداء والسجناء والمظلومين خلال العهد البائد لنظام البعث.
وكان السيد السيستاني من الذين انتقدوا أداء أعضاء الجمعية الوطنية، وخاصة أعضاء الائتلاف العراقي الموحد الذي حظي برعاية سماحته ودعمه المعنوي والسياسي. إذ انتقد سماحته الأحزاب التي لم تراع الكفاءة في ترشيح أعضائها للجمعية وللمناصب الحكومية، كما انتقد الأعمال والمواقف الفئوية الضيقة التي مارستها بعض الأحزاب.
هذا الامتعاض من أداء الجمعية الوطنية جعل السيد السيستاني يعيد حساباته، وتقييم موقفه من الانتخابات القادمة، ولذلك قرر ما يأتي:
1-عدم تأييد أية قائمة أو كيان سياسي في انتخابات 15 كانون الأول 2005 .
2-منع وكلائه من دعم أي كيان سياسي أو يساند أحد المرشحين علناً في الانتخابات.
3-منع وكلائه وممثليه من ترشيح أنفسهم في الانتخابات ضمن قائمة أحد الأحزاب.
4-من يفعل ذلك تلغى وكالته ويفقد وضعه كممثل للمرجعية الدينية.(٢)

من الواضح أن السيد السيستاني يريد أن ينأى بالمرجعية الشيعية بعيداً عن الدخول في الصراعات السياسية، خاصة وأن بعض الأحزاب العلمانية رفضت علناً تدخل المرجعية لدعم هذا الائتلاف أو ذاك الحزب. كما أن السيد السيستاني يريد للمرجعية أن تبقى محافظة على موقعها الأبوي لجميع العراقيين، لأن انحيازها لطرف دون آخر يقلص من تأثيرها ورعايتها للجميع بصورة متساوية. وإذا كان السيد السيستاني قد دخل بثقله في انتخابات 30 كانون الثاني 2005 فإن ذلك يعود إلى طبيعة الظروف الاستثنائية التي كانت تهدد العملية الانتخابية، واحتمال فشلها دون تدخله. الأمر الذي يعني التفريط بمصالح عليا للعراق والعراقيين، والدخول في دوامة الاحتراب السياسي والطائفي.
   
أداء المرجعية في المشهد السياسي
من خلال انفتاح السيد السيستاني على العملية السياسية ومتابعته للشأن العراقي يمكن تلمس ما يأتي:
1-أثبتت الأحداث أن المرجعية تعي جيداً المرحلة التاريخية التي تعاصرها بشكل تجعل المرجعية ترسم استراتيجية واضحة المعالم في التعامل مع الأحداث بروية وحكمة بعيداً عن الانفعال وردود الأفعال غير المحسوبة. إذ بدا من الواضح أن إصرار المرجعية على إجراء الانتخابات العامة كشرط لإضفاء الشرعية على أي عمل سواء تشكيل الجمعية الوطنية أو تدوين الدستور وما ينبثق منها من مؤسسات دستورية.
2-استيعاب المرجعية للظروف الدولية والموازنات السياسية والمصالح الاقتصادية والثقافية للقوى الكبرى في المنطقة. وكذلك استيعاب الطرح السياسي والقانوني المتمثل في قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالعراق ومستقبله والدور الأمريكي فيه. هذا الوعي السياسي جعل المرجعية تؤكد دائماً على ما ألزمت به القوى الكبرى أنفسها فيما يخص مستقبل العراق ورعاية العملية الديمقراطية التي تضمن الأمن والاستقرار السياسي والأمني، مما يؤدي إلى انسحاب القوات الأجنبية من العراق. إن المرجعية رفضت التعامل عسكرياً مع الاحتلال لكنها أكدت على العملية السياسية. واعتبرت أن الإلزام أي (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) هي القاعدة في المرحلة الحالية التي يمر بها العراق، حتى تتحقق السيادة الكاملة للعراقيين على دولتهم.  
3-التفاعل العميق والتأكيد الدائم على الحالة الوطنية العراقية ومصالح العراق ومستقبل الشعب العراقي وطموحاته وآماله، بما يضمن العدالة والمساواة لجميع أبناء العراق بلا تمييز. إذ بقيت المرجعية ، على مدى تاريخها ، تشكل طبقة وطنية تدافع عن مصالح الشعب العراقي، وتقف ضد أي حاكم أو مشروع للظلم والقمع. لقد استوعبت المرجعية مختلف أطياف الشعب العراقي ومذاهبه وقومياته وأديانه. فقد أكد السيستاني على مشاركة غير المسلمين في الانتخابات ودعاهم لممارسة حقهم الوطني. كما كان يستقبل ويخاطب العرب والكرد، الشيعة والسنة، المسلمين والمسيحيين والصابئة. كما أبدى تفهماً واعياً للقضايا الأساسية مثل الفيدرالية ، حيث رأى أنه لا مانع لديه من إقامتها طالما أنها تمثل رغبة العراقيين لكنه أبدى ملاحظاته تجاهها.
4-استيعاب المرجعية للظروف السياسية واختلاف التيارات الفكرية الأيديولوجية ، وأنه لابد للجميع من صيغة سياسية وقانونية يجدون فيها الحريات والحقوق الدينية والحريات السياسية والثقافية والقومية. وهذا ما جعل المرجعية تتبنى المسار الديمقراطي دون أن تسميه. إذ أنها تمسكت بالشرعية الجماهيرية المستمدة من الانتخابات واختيار ممثلي الشعب ليقرروا ما يريده ناخبوهم ويرغبون بتحقيقه. كما كفلت لجميع التيارات السياسية حرية العمل السياسي، حتى العلمانيين وغير المسلمين طالما أنهم يحترمون القانون، ولا يتعدون على حقوق وحريات الآخرين. لقد شددت المرجعية على (مبدأ الشورى والتعددية واحترام الأقلية لرأي الأكثرية ونحو ذلك في الدستور الجديد). (٣)
5-رغم إيمانها، كمرجعية دينية، بالدولة الإسلامية، لكنها لم تجبر أحداً على تبني هذا الخيار، ولم ترفع هذا الشعار أو تطالب بإقامتها. وكان بإمكانها القيام بذلك لوجود أحزاب إسلامية قوية ، ولوجود أرضية شيعية مستعدة لتبني أطروحات المرجعية. إن المرجعية تنادي بدولة هي أقرب للدولة الديمقراطية الدستورية، منها إلى الدولة الدينية الثيولوجية الشمولية التي يلعب فيها رجال الدين دوراً مركزياً حيث يسيطرون على جميع النشاطات العامة، ويتدخلون في الحريات الفردية، ويحددون الخيارات الفكرية والأيديولوجية. يؤيد هذه الفكرة نوح فيلدمان أستاذ القانون في جامعة نيويورك بأن (الديمقراطية الإسلامية أمر ممكن في العراق، ديمقراطية تضمن لهم ليس فقط حق الانتخاب، ولكن الحق بأن يصوتوا لقوانين مغروسة في المعتقدات والقيم والمثل الإسلامية. ويمكن للدولة أن تقر بالإسلام وتمول المؤسسات الدينية والتعليم الديني). (٤) ويؤكد ريو مارك كيرشت من مؤسسة المشروع الأمريكي لبحوث السياسات العامة على أن: (أتباع السيستاني الأتقياء يمنحون ليس فقط الأمل الأفضل لنشوء الديمقراطية، ولكن ربما الأمل الوحيد). (٥) يأتي ذلك في ظل فشل أو عدم تطور التجارب الديمقراطية في المنطقة.
6-استطاعت المرجعية كبح جماح رجال الدين المحسوبين على المرجعية والمتطلعين للعب دور أكبر من خلال الأجواء الديمقراطية والحريات العامة التي تضمنها العملية السياسية والقوانين النافذة في العراق اليوم. لقد منع السيد السيستاني وكلاءه من تولي أي منصب حكومي (عدا الأوقاف)، كما منعهم من ترشيح أنفسهم في قوائم الأحزاب السياسية في انتخابات ١٥ كانون الأول ٢٠٠٥  العامة.  لقد أصبح الفقيه والمرجع والخطيب وطالب الحوزة وأمام المسجد والحسينية رجالاً متخصصين في الدين والأحكام الشرعية يدلون بدلوهم حسب موقعهم وحسب حاجة الدولة والمجتمع إليهم. إذ يوجد العديد من رجال الدين، وبعضهم وكلاء للمرجعية، انتخبوا نواباً في الجمعية الوطنية، ويشاركون في مختلف لجانها الاختصاصية، حتى أن رئيس لجنة صياغة الدستور عالم دين، الشيخ همام حمودي.    
7-منعت المرجعية نمو التطرف الديني الذي حاولت بعض التيارات الشيعية ممارسته بعد سقوط النظام. إذ كانت تؤكد دائماً على احترام القوانين التي تصدرها الحكومة، وأنها مقدمة على الاجتهادات الفردية في تطبيق الأحكام الشرعية. لقد رفضت المرجعية إجبار المرأة العراقية على ارتداء الحجاب، واعتبرت قرار ارتداء الحجاب أمراً تابعاً للمرأة ، وهي التي تتخذه باختيارها.
8-لقد تمكنت المرجعية من تجنيب العراق النموذج التركي العلماني الذي يلغي أي دور للدين في الحياة العامة. كما تفادت قيام دولة دينية على الطراز الإيراني حيث الطابع الشمولي هو السائد في الدولة. لقد منحت المرجعية الدين موقعه الطبيعي كنظام أخلاقي وهوية ثقافية للشعب العراقي. كما ساهمت في دعم الاتجاه الذي يقضي بعدم إصدار قانون يخالف أحكام الشريعة الإسلامية. إن موافقة أمريكا على الدستور العراقي الذي يمنح الإسلام دوراً بارزاً في الدولة، يعد انتصاراً للتيار الإسلامي من جهة. ومن جهة أخرى يشير على نضج واضح في الفكر السياسي الغربي الذي اعتاد على عداء الإسلام لأسباب تاريخية وعقائدية وفلسفية. إضافة إلى التجارب المريرة للتعامل مع الإسلام السياسي الذي برز فيه الطابع الأصولي والإرهابي، كما في إيران وأفغانستان والسعودية والباكستان ومصر. لقد أدركت أمريكا أن الإصرار على العلمانية يجعل الناس يتوجهون أكثر فأكثر نحو الإسلام المتطرف لأنها ستعطي مبررات مقبولة في مهاجمة ورفض المشروع العلماني حتى وإن كان ديمقراطياً. من جانب آخر فإذا لم يكبح الإسلاميون المعتدلون جماح العنف والتطرف، وإذا لم يتمسكوا بالخيار الديمقراطي فإن المسار الديمقراطي سيفشل في النهاية، ويكونون هم أول الخاسرين، لأنهم سيعودون إلى دوامة العنف والعنف المضاد من قبل الدولة، كما يحدث في بلدان إسلامية كثيرة.  
9-وقفت المرجعية ضد توجه بعض النخب العلمانية العراقية التي أرادت إقصاء الإسلام عن لعب أي دور في الدستور والقوانين. إن تهميش الدين يؤدي إلى ظهور تمرد إسلامي يتمثل بالحركات الأصولية التي تنتهج العنف وسيلة لتحقيق أهدافها، وللانتقام من الأنظمة التي تمنعها من العمل والحركة والتعبير. إذ يرى بعض الباحثين أن (الدين في الحقيقة وعلى مدى قرون عديدة، كان يمثل كابحاً للطغيان في العالم الإسلامي. إن تدمير المؤسسات الإسلامية التقليدية مثل المدارس الدينية والمساجد باسم التحديث يترك فراغاً اجتماعياً يتم ملؤه في آخر الأمر بازدهار التطرف في الفكر الإسلامي السياسي). (٦)
10-أثبتت المرجعية أن الدين يمكن أن يلعب دوراً إيجابياً في الحياة العامة وفي عملية التحول نحو النظام الديمقراطي. وهذا على العكس مما تدعو إليه النخب العلمانية التي تؤكد على أن الدين يعيق التقدم السياسي والاجتماعي، وتنادي واجهاتها ومنظماتها وخاصة النسائية منها إلى فصل الدين تماماً عن الدولة والدستور والقانون. لقد أعطت المرجعية مصداقاً واضحاً على أن الإسلام لا يتقاطع مع الديمقراطية، كما يضمن الحقوق والحريات لجميع المواطنين. هذا في الوقت الذي يشهد العالم نمواَ في الأصولية الإسلامية التي تتمثل في الحركات الجهادية والجماعات الإسلامية التي تتبنى العنف والإرهاب سبيلاً لمواجهة خصومها، ولتحقيق أهدافها. في نفس الوقت منعت المرجعية من تسيس الدين وجعله مجرد واجهة لأغراض سياسية ومنافع شخصية وحزبية. لقد حافظت المرجعية على التوازن الدقيق لدور الدين، وتجنيبه حالة الاستغراق والذوبان في العملية السياسية، وبين التهميش والاقصاء، أو التوظيف السلبي والاستغلال السياسي للرموز الدينية.  
11-أعطت المرجعية زخماً كبيراً ودفعاً قوياً للتيار الإسلامي المعتدل في العراق، كحزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الفضيلة وغيرهم، في أن يكون جزءً هاماً ولاعباً قوياً في الساحة السياسية العراقية. لقد بات التيار الإسلامي على هرم السلطة، يصنع القرار وتتولى شخصياته مسؤوليات عالية في الدولة، ويطرح برامج سياسية. هذا التبني المرجعي يقوي الخط المعتدل في التيار الإسلامي، ويحول دون نزول الجماعات الإسلامية إلى العمل تحت الأرض ليمارس نشاطاته بعيداً عن الرقابة أو التقويم.
12-بذلت المرجعية جهوداً استثنائية في تخفيف اندفاع التيار الصدري الذي كان يميل للعنف بسبب ظروف تشكيله وطبيعة قواعده. فقد بدا التيار الصدري أكثر انسجاماً مع خط المرجعية ، وأصبح أكثر هدوءاً وعقلانية، يفكر بالمنطق السياسي ويمارس العمل السياسي عبر قنواته المفتوحة، ويساهم برأيه ويبني موقفه السياسي حسب طبيعة الحدث، ووفق متبنياته التي ربما تختلف عن بقية الأحزاب والحركات الشيعية. (٧)
13- أدركت المرجعية أن الديمقراطية في العراق لن تجد طريق النجاح دون استيعاب مطالب السنة العرب، لما لهم من تراث إداري وخبرة حكومية وقدرة مالية واقتصادية، وامتدادات عربية ودولية تؤيد مواقفهم ، وتضغط على الشيعة والأكراد لتلبية مطالب السنة. ولذلك منع السيد السيستاني أية مواجهة شيعية مسلحة ضد السنة رغم الجرائم الطائفية التي ارتكبتها جماعات سنية وتكفيرية وبعثية. كما استقبل السيد السيستاني شخصيات إسلامية وحكومية وسياسية سنية متفهماً لمواقفهم ، مسدداً إياهم بالنصح والمشورة من أجل المحافظة على وحدة الصف الوطني العراقي.(٨)
14- أكدت المرجعية على أهمية ضمان حقوق الأقليات الدينية والمذهبية والقومية في العراق. كما أكدت على دور المرأة في الحياة العامة، عندما أيدت مشاركتها في الانتخابات، ناخبات ومرشحات. كما دعمت دور المرأة في منظمات المجتمع المدني، وتولي مناصب حكومية، وتمثيل الشعب في الجمعية الوطنية ومجالس المحافظات والبلديات. يأتي ذلك ليؤكد نضج الفكر السياسي الشيعي وانفتاح الفقه الشيعي، مقارنة بالمؤسسات الإسلامية في بعض الدول العربية والإسلامية (كالسعودية) التي ما زالت تمنع منح المرأة حق التصويت أو الترشيح في المجالس التمثيلية.  
15-حافظت المرجعية على الحوزة العلمية بكيانها وامتداداتها ورجالها ومؤسساتها لتكون دوماً في خدمة الأمة وطموحاتها وآمالها . كما حمت المؤسسة الدينية من التدخلات الداخلية والضغوط الخارجية من أية جهة كانت. وهذا لا يعني الانغلاق على الذات أو قطع الاتصالات مع الآخرين، بل على العكس مثلاً، أجاب السيد السيستاني على أسئلة وجهها إليه مراسلون من صحف أمريكية. (٩)  
16-لعبت المرجعية دوراً هاماً في الأزمات السياسية والنزاعات المسلحة، حيث تمكنت بحكمتها وسعة صدرها من تجنيب العراق حرباً أهلية وفتن طائفية هنا وهناك، سواء داخل الصف الشيعي أو بين الشيعة والسنة، أو بين الإسلاميين وغير الإسلاميين. لقد أصبحت المرجعية في بعض الأحيان الصوت الوحيد الذي ينتظره الجميع. ففي الأزمة السياسية والمواجهة العسكرية التي حدثت في شهر آب 2004 بين تيار السيد مقتدى الصدر وبين القوات والأمريكية والعراقية في النجف الأشرف ، وما حدثت من أعمال شغب ومواجهات مسلحة بين الطرفين في المحافظات، وتدمير أنابيب نفط ومباني حكومية، عجز الجميع عن فعل أي شيء، لا الحكومة والجيش والشرطة، ولا القوات الأمريكية، ولا الأحزاب السياسية، وبقوا ينتظرون عودة السيد السيستاني من رحلة العلاج في لندن، ليقوم بدور لا أحد يتمكن من أدائه سواه. وبالفعل عاد السيستاني وأقنع التيار الصدري من الانسحاب من النجف والكوفة، عندها تنفس الجميع الصعداء.
17- استخدمت المرجعية تأثيرها الواسع ونفوذها الكبير في تعبئة الجماهير العراقية باتجاه المسار الديمقراطي. كما تمكنت من إحضار الشارع العراقي في الساحة أثناء الأزمات والمنعطفات الهامة كالانتخابات البرلمانية والاستفتاء على الدستور. إن الإنتماء والتأثير الديني في المجتمعات الإسلامية وفر إجماعاً ضرورياً باتجاه العمل بالقواعد المشتركة التي يؤمن بها الجميع. ولا يُعلم كيف كانت ستسير الأمور في العراق لو أن المرجعية انكفأت على نفسها، أو كانت ضد العملية الديمقراطية.
18- تعتبر مرجعية السيد السيستاني امتداداً  لمدرسة أستاذه السيد أبو القاسم الخوئي. فالخوئي كان لا يعارض الإيمان بالدولة الإسلامية، ولا يناقض السياسة من حيث المبدأ ، ويؤمن بولاية الفقيه (الخاصة). وينفرد ببعض الآراء المرتبطة بالأساس الفكري الثوري، لكن الجانب العملي اتخذ مساراً تقليدياً أوقف أية مبادرة أو تحرك سياسي. (١٠) هذا الخيار التقليدي جعل الخوئي بعيداً عن التدخل بالشأن السياسي رغم حدوث أحداث خطيرة في العراق مثل إعدام المرجع السيد محمد باقر الصدر والحرب العراقية –الإيرانية. ولعل أبرز دور للسيد الخوئي كان انخراطه في انتفاضة شعبان/آذار 1991 باعتباره المرجع الأعلى للشيعة وزعيم الحوزة العلمية وكشخصية اجتماعية بارزة لأن كلمته مسموعة ومتفق عليها من قبل الجميع. (١١) لقد كان يُتوقع من السيد السيستاني أن لا يتدخل في الشأن السياسي طبقاً لمدرسته الفقهية والسيرة العملية للمرجعيات التي سبقته (السيد أبو الحسن الأصفهاني (19٣٦-1946)، السيد محسن الحكيم (1946- 1970) ، والسيد أبو القاسم الخوئي (1970-1992)  .
إن تدخل السيد السيستاني بالشؤون السياسية نابع من وقائع عملية أكثر منها متبنيات نظرية. إذ أنني سألته عن هذا الأمر فأجاب: ( الناس تسألني في أمورها وخاصة القضايا العامة والمصيرية كالانتخابات وغيرها، فهل أسكت أم أجيبها؟ إنني كمرجع أجد نفسي ملزماً بالإجابة على استفسارات الناس وحتى السياسية منها). (١٢)
من جانب آخر يلتقي السيستاني وبقية المراجع الكبار (المرحوم السيد محمد سعيد الحكيم والشيخ إسحق فياض والشيخ بشير النجفي) يلتقون الكثير من المسؤولين في الدولة والحكومة وزعماء الأحزاب السياسية ونواب البرلمان ووجهاء ورؤساء عشائر يسألون ويطلبون النصيحة في الشؤون السياسية، فهل يردوهم أم يسكتون أم يجيبونهم وينصحونهم خدمة لصالح العراق والشعب العراقي؟


الهوامش
١- صلاح عبد الرزاق / المرجعية الدينية والانتخابات البرلمانية القادمة / صحيفة بغداد، العدد: 919 ، الصادر في 25/11/2004
٢- صحيفة الزمان / العدد: 2235 الصادر في 10/10/2005
٣- من تصريح للسيد السيستاني ، محمد الغروي / المرجعية ومواقفها السياسية/ ص 93 ، نقلاً عن  جريدة المستقبل في 21/8/2003
٤- إيان بوروما/ ديمقراطية إسلامية للعراق؟ صحيفة المدى/ العدد: 275 الصادر في 16/12/2004 / ص 5
٥- المصدر السابق
٦- مايكل هيرش في مجلة (الواشنطن الشهرية) ، نقله إيان بوروما في مقالة له في صحيفة نيويورك تايمز/ ترجمة صحيفة المدى في 16/12/2004
٧- أصدر مكتب السيستاني بياناً في 15/10/2003 دعا فيه (جميع أبناء الشعب العراقي إلى عدم التصديق بما تروجه القنوات الفضائية من وجود صراع بين مكتب السيد الشهيد الصدر (قده) ومكتب السيد السيستاني (دام ظله الوارف). وأن هناك جهات معادية استعمارية وإقليمية معادية لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) تحاول إثارة الفتنة الداخلية بين أبناء هذا المذهب. فالذي نرجوه ونأمله من جميع الموالين لأهل البيت (ع) التزام الهدوء وضبط النفس. وعلى جميع أبناء المذهب التآلف والتعاضد من أجل تفويت الفرصة على الأعداء. ونحن جميعاً إخوة في الله، متحابون وعلينا التعاضد من أجل دفع الفتنة والبلاء عن هذا البلد). محمد الغروي / المرجعية ومواقفها السياسية / ص 102
٨- في 12/1/2004 أصدر مكتب السيد السيستاني بياناً أشار فيه إلى لقاء سماحته مع الدكتور عدنان الباججي الرئيس الدوري لمجلس الحكم الانتقالي، وجاء فيه إلى أن الباججي (شرح لسماحته آخر التطورات فيما يتعلق بالعملية السياسية. كما اطلع سماحته على مضمون الرسالة التي بعث بها إليه السيد كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة بهذا الشأن. (مكتب السيد السيستاني في 18 من ذي القعدة 1424 هـ).
٩- أنظر مثلاً: الواشنطن بوست في عددها الصادر في 26/6/2003 ، وكالة أسوشيتد برس في 18/10/2003 ، شبكة فوكس نيوز ، والواشنطن بوست في 24/10/2003

١٠- عادل رؤوف / العمل الإسلامي في العراق بين المرجعية والحزبية/ ص 452
١١- المصدر السابق / ص 453
١٢- في لقاء خاص مع المرجع السيستاني عام ٢٠٠٩ بحضور ولده السيد محمد رضا والشيخ محمد حسن الانصاري

أخر الأخبار