العراق والإسلام السياسي (٣٣) الخاتمة .. النظام السياسي العراقي : عيوب التأسيس ومعالم النجاح
"Today News": بغداد
عيوب التأسيس
لم يكن الإسلام السياسي لوحده في المشهد العراقي بعد 2003 ، بل كان جزءاً من الأحزاب السياسية سواء التي تأسست قبل سقوط النظام أو بعده. إن تقييم التجربة لا يعني الاقتصار على أحزاب الاسلام السياسي رغم أنها تسيدت المشهد العراقي من خلال مناصبها ومواقعها ومقاعدها النيابية وجماهيرها التي طغت على الشارع العراقي.
عيوب تأسيس الدولة
تأسست الدولة العراقية بعد 2003 في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق الذي أسقط نظام صدام بالقوة العسكرية. هذا الأمر ألقى بظلاله على المشهد السياسي من خلال تحكم الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر في إرساء قواعد الدولة . وأول تشكيلة إدارية قانونية كان مجلس الحكم الانتقالي الذي تم فيه ترشيح أعضائه على أساس تمثيل المكونات الدينية والمذهبية والقومية. ورغم أن مجلس الحكم بقي أقل من سنة يدير البلاد لكنه أرسى فكرة خطيرة وهي أن العراق دولة مكونات . وبذلك تم عملياً إلغاء مبدأ المواطنة الذي يفترض أن يكون الأساس التي يقوم عليه النظام الديمقراطي.
وجاء دستور 2005 ليكرس هذه الحالة عندما تحدثت ديباجته عن المكونات العراقية بأسمائها ولغاتها وثقافاتها. فكانت الهويات الفرعية تطغى على الهوية الوطنية التي يفترض أنها تكون أساس بناء الدولة. وصارت المصالح الطائفية والقومية هي الأساس ، وتراجعت المصلحة الوطنية عندما أخذت كل طائفة وحزب يسعون لمصالحهم الفئوية الضيقة، وتحقيق مصالح الحزب والعشيرة من خلال المناصب والتعيينات. وصارت ثلاث محافظات من مجموعة 18 محافظة تملك حق الفيتو في التصويت على الدستور أو في أي تعديل دستوري . وأصبح الدستور بصياغاته الغامضة ونهاياته السائبة وألغامه الكثيرة مصدر مشاكل واختلافات في التفسير والتطبيق.
أما النظام السياسي فقد اعتمد الديمقراطية التوافقية التي اعتمدت توزيع المناصب والمسؤوليات بين الطوائف أولاً ثم بين الأحزاب ثانياً . فصارت الأحزاب تتقاسم المواقع والمناصب حتى صار توزيع المناصب السيادية الثلاث : رئاسة الجمهورية للكرد، ورئاسة البرلمان للعرب السنة ورئاسة الوزراء للعرب الشيعة. ونزل التوزيع الطائفي والقومي إلى مستوى الوزارات والوكالات والسفارات والهيئات المستقلة . وبذلك ترسخ التقسيم الطائفي والحزبي لموظفي الدولة حتى أصغر موظف.
نظام الحكم
أما شكل الحكم فقد أصبح نظاماً برلمانياً أي أن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس البرلمان يتم اختيارهم عبر التوافقية على أن يحصل كل مكوّن (الشيعة والسنة والكرد) على منصب رئاسي أولاً ، ونواب من المكوّن في المناصب الأخرى. وبذلك صار المنصب التنفيذي الأول أي رئيس الوزراء يعتمد على التوافقات السياسية والحصص المقررة لكل كتلة مشاركة في الحكومة. وصار عرفاً سياسياً أن رئيس الوزراء ليس بالضرورة هو الفائز بالانتخابات والحائز على أعلى الأصوات، كما حصل مع المالكي عام 2006 الذي جاء بعد انسحاب الجعفري من ترشيحه للمنصب. وحدث أيضاً عام 2014 عندما تمت إزاحة المالكي وتسمية العبادي رئيساً للوزراء وهو لم يحصل إلا على خمسة آلاف صوتاً. وتمت عملية الاستبدال بهدوء وبدون تعبئة الشارع أو تدخل عسكري.
ووفقاً لهذه المنهج التوافقي أصبح رئيس الوزراء خاضعاً للكتل السياسية التي عليه إرضاؤها وتلبية مطالبها في السياسات والموزانات والتعيينات قبل الموافقة على ترشيحه. ويبقى خاضعاً لها بعد أدائه اليمين والبدء بعمله. وبغير ذلك يتعرض للهجمات السياسية والاعلامية والنيابية، بل ويصل الأمر إلى التهديد بسحب الثقة منه كما حصل مع المالكي عام 2012 .
وهذا يعيد النقاش حول مدى صلاحية النظام البرلماني للبلاد، بينما أغلب نظم الشرق الأوسط تسير باتجاه النظام الرئاسي سواء كان راس السلطة رئيساً أو ملكاً أو أميراً. وحتى الدول المجاورة مثل إيران ألغت منصب رئيس الوزراء، وتركيا التي اعتمدت النظام الرئاسي وأعطته صلاحيات كبيرة.
إن وضع العراق والتنوع القومي والمذهبي والديني بحاجة إلى سلطة مركزية قوية مع صلاحيات كبيرة للمحافظات. ويجب انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب ، وبذلك يتخلص من ابتزاز الكتل السياسية التي عادة ما تهدده بسحب الثقة أو الاستجواب عندما لا ينفذ مطاليبها. كما أن رأي الشارع العراقي سيكون واضحاً وأكثر تمثيلاً في انتخاب رئيس الجمهورية. فالجماهير تعرف من تريد ، وتصوت له ، فيصبح رئيساً ، وليس حسب الاتفاقات السياسية التي رافقت عملية اختيار رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية. فيتسنم المنصب من ليس له شعبية ولم يحظى بأصوات الشعب، وهذا ليس إنصافاً، لا للفائزين ولا للشعب الذي لم يصوت له.
التوافقية السياسية
أنتج هذا النظام المحاصصة الطائفية والحزبية بشكل مقيت، وأدى إلى قيام الكتل السياسية بالاستحواذ على مقدرات الوزارة التي يرأسها وزير ينتمي إليها. وصار الدفاع عن هذا للوزير أمراً ضرورياً حتى لو كان فاسداً. وبذلك أصبح الفساد على نطاق واسع، وصارت الحيتان الكبيرة تبتلع قسماً من موارد الدولة المالية. وصارت اللجان الاقتصادية والعملاء والدلالين يلعبون دوراً في العقود والمشاريع الحكومية. وصارت الأحزاب تملك قنوات فضائية ومكاتب وأبنية وقاعات فاخرة تقيم فيها المؤتمرات والاجتماعات السياسية والجماهيرية. كما صارت تنفق المليارات على نشاطاتها وزيارات الزعيم الداخلية والخارجية ونفقات شراء الذمم والحملات الانتخابية والتظاهرات التي تكلف أموالاً طائلة.
ومن مظاهر الخلل في بناء الدولة هو تعيين شخصيات غير مناسبة في مناصب عليا. إذ استحوذ محازيب الأحزاب وأقرباء الزعماء على مواقع هامة في الحكومة وهم لا يحملون أية خبرات أو شهادات أو حتى لياقات مناسبة لتولي هذه المناصب. في حين يجد كثير من أصحاب الشهادات والكفاءة أنفسهم بعيدين عن المشاركة في بناء بلدهم لمجرد أنهم خارج دائرة الأحزاب السياسية.
الخلل داخل الأحزاب
عانت التشكيلات الحزبية العراقية ، سواء الاسلامية أم العلمانية ، من ظواهر مثل الحالة الأسرية والرمزية (المجلس الأعلى ، الحكمة ، التيار الصدري، اياد علاوي، الطالباني، البارزاني) حيث يكون الزعيم وأسرته هو المتحكم بالحزب وجميع مفاصله، التنظيمية، المالية، السياسية والعلاقات مع الأحزاب والحكومات الأخرى. وغلبت الدكتاتورية الداخلية على الأحزاب الاسلامية حيث يبقى الزعيم رئيساً للحزب مدى الحياة ، ولا توجد انتخابات شفافة بل يجري تنظيمها بالصورة التي تحقق رغبات الزعيم . وبرزت أدوار لأفراد أسرة الزعيم فالذي يمثله عادة من أسرته (مثلاً محسن الحكيم، جعفر وأحمد الصدر، هافل الطالباني، مسرور البارزاني).
واتسمت بعض الأحزاب الإسلامية بالخطاب الشعبوي والاستقواء بالشارع على حساب الدستور والقانون والأعراف السياسية ، وصارت التظاهرات من خصائص العمل السياسي لهذه الكتل. وبقيت تمارسها حتى لو أدت إلى سقوط ضحايا ( تظاهرات التحرير في 11 شباط 2016 وتظاهرات تشرين الأول ٢٠١٩) . ووصل الأمر إلى مهاجمة المنطقة الخضراء عدة مرات والاعتداء على مجلس النواب العراقي وبعض الأعضاء، ومجلس الوزراء ، ومحاصرة الوزارات والطلب من الوزير الاستقالة في مشهد بعيد كل البعد عن مسمى الدولة. وقامت جماعة مسلحة لأحد الأحزاب الإسلامية بمحاصرة مطار النجف لمدة أربع ساعات ومنعت حركة النقل فيه دون تدخل من السلطات الحكومية.
وبسبب عجز الحكومة عن فرض الأمن تصاعد دور العشائر والجماعات المسلحة حتى صار المواطن يلجأ اليها لحماية نفسه أو استخلاص حقه. وصار الموظف والشرطي والضابط والطبيب والمعلم يخشى من سطوة العشائر والجماعات المسلحة التي تعتدي عليه لأتفه سبب.
خطاب الاسلام السياسي
أما الخطاب الإسلامي فقد تنوع من خطاب ديمقراطي مسؤول إلى خطاب طائفي متشنج يستفز غير الإسلاميين عموماً. و تمارس شتى أنواع التشهير الاعلامي والتسقيط السياسي ضد خصومها ، وافتراء أخبار وقضايا مفبركة ، بلا شرف وضمير ولا أخلاق. وقد أدى ذلك وممارسات المحسوبين على الأحزاب ، أدى إلى قطيعة مع الجمهور العريض ، عدا المنتمين لتلك الأحزاب الذين لديهم مصالح مالية وارتباط تنظيمي .
لقد فشلت الأحزاب الإسلامية في جذب الجمهور وخاصة الشباب إلى الايمان بالمبادئ الاسلامية، وممارسة الشعائر ، والدعوة إلى الالتزام بالقيم والأخلاق الإسلامية . الأمر الذي ينعكس على سلوكهم ومواقفهم اليومية، وفي طريقة تعاملهم مع الأخر وخاصة المختلف، وفي احترامهم للقانون والنظام العام. إذ ما زالت هناك تصرفات لا أخلاقية ولا إسلامية تسود تصرفات الجيل الجديد عموماً. ويستثى من ذلك الشباب الذي تطوعوا كمقاتلين في الحشد الشعبي لمواجهة داعش، وقدموا تضحيات كبيرة ايماناً منهم بضرورة الدفاع عن البلاد. كما توجد تجمعات شبابية تقوم بمبادرات حضارية في المجتمع تدعو للالتزام بالقانون واحترام المكونات والأديان والطوائف ، ورعاية النظافة ، ومكافحة الفساد المال والاداري.
العلاقة مع المرجعية
وأما علاقة الأحزاب الإسلامية مع المرجعية فكانت علاقة متوترة ، اضطرت فيها المرجعية إلى أغلاق أبوابها بوجه السياسيين والمسؤولين الحكوميين. وكانت خطب الجمعة تبذل جهدها من أجل الإصلاح والتسديد والتوجيه ومعالجة الفساد والفئوية والصراعات السياسية والتجاوز على الدستور لكن كل نصائحها ذهبت أدراج الرياح حتى اشتهرت مقولة (لقد بحت أصواتنا). إن عدم رضا المرجعية عن الأحزاب الإسلامية قد وسع من الهوة بين الأحزاب والجماهير التي تؤمن بأهمية الالتزام بنصائح المرجعية التي لا تهدف إلا مصلحة العراق وشعبه بكل مكوناته.
من جانب آخر طغت الخلافات بين الأحزاب الإسلامية على وحدتها أو تنسيق مواقفها. ففي كل حدث أو قضية يكون موقف كل حزب مختلف عن بقية الأحزاب. ورغم تأسيس (الائتلاف الوطني العراقي) لكنه لم يستطع يوماً أن يتخذ موقفاً موحداً يعكس مصلحة الشارع العراقي. وبقي الاختلاف والتنافر في المواقف سمة غالبة حتى في القضايا الوطنية . وقد تأسس (الطار التنسيقي) الذي أدار أزمات سياسية بدءاً بالانتخابات النيابية عام ٢٠٢١ ثم أزمة تشكيل الحكومة واختيار رئيس الجمهورية التي انتهت باستلام محمد شياع السوداني رئاسة الوزراء.
كما بقيت أحزاب المكونات تنظر لمصالحها الخاصة دون المصلحة الوطنية، فكانت النتيجة تقاطع المواقف حتى في القضايا الوطنية. ويمكن القول أن الأحزاب السياسية العراقية وخاصة الكبيرة منها لم تتفق يوماً على قضية وطنية واحدة أو تشريع أو قرار إلا اللهم إقرار بعض الاتفاقيات الخارجية التي لا تؤثر على أي مكون أو حزب.
دور العشائر
ورث النظام الحالي نمو التأثير العشائري في المجتمع العراقي ، وزاد هذا التأثير بعد 2003 بسبب ضعف الدولة عموماً . ولم تتمكن القوى السياسية ولا إجراءات الحكومة من الحد من هذه الظاهرة التي تناقض النظام الديمقراطي وحاكمية القانون. وزاد من ذلك لجوء السياسيين إلى شيوخ العشائر طمعاً في أصواتهم أثناء الانتخابات. كما أن الدستور ضمن الاهتمام بالعشائر حيث أشار المادة (45) إلى:
(( ثانياً : تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون وتعزز قيمها الانسانية النبيلة وبما يساهم في تطوير المجتمع وتمنع الاعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الانسان)) .
لقد صار تأثير العشائر واقعاً مؤثراً في المجتمع العراقي ، وصار السنن العشائرية والفصل العشائري والدكة العشائرية من الظواهر اليومية التي يواجهها المواطن . ووصل الأمر مداه عندما أخذ بعض السياسيين والبرلمانيين يلجأون للعشائر والفصل العشائري في فض منازعاتهم. وطغت الممارسات العشائري حتى صار يُعتدى على الأطباء والمعلمين والقضاة ورجال الشرطة والموظفين من قبل العشائر. كما نشبت نزاعات مسلحة بين العشائر نفسها ، وتستخدم في معاركها مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والقذائف والقنابل. كما صار بعضها يقطع الطرق ويوقف الحركة فيه، والحكومة لا تستطيع فعل شيء. وذلك كله أدى إلى تقلص الهوية المدنية والحضارية للمجتمع، وطغت عليه القيم العشائرية حتى صارت بديلاً للثقافة واحترام النظام العام والالتزام بالقانون.
معالم النجاح
لعل أبرز معالم النجاح للاسلام السياسي هو إرساء نظام ديمقراطي تعددي ، وإقرار دستور دائم، وإنشاء مؤسسات دستورية ذات فاعلية وتأثير. فالنظام الديمقراطي الحالي جاء بعد 45 عاماً (1958-2003) من الأنظمة القمعية الدكتاتورية التي مارست أبشع الجرائم الوحشية بحق الشعب العراقي، ولا حاجة لذكرها. لقد انتقل العراق من نظام سلطوي يحكمه حزب واحد ورئيس واحد إلى نظام حزبي تعددي ، وتداول سلمي للسلطة ، وانتخابات محلية وتشريعية، قادرة على تغيير رجال السلطة كل أربع سنوات، والتغيير بيد المواطن وليس عبر الانقلابات العسكرية كما هو الحال لأربع عقود ونصف من تاريخ العراق الحديث.
لقد لعبت مرجعية السيد السيستاني دوراً مؤثراً في توجيه بوصلة السياسة العراقية والأداء الحكومي. وكان رأي سماحته وتدخل في الوقت المناسب كفيلاً بحل الأزمات وإطفاء الفتن الداخلية. إذ رافق السيستاني نشوء النظام الديمقراطي منذ بدايته، وكان مصراً على انتخاب جمعية تتولى تدوين دستور دائم، لايمانه أن الدستور سيكون هو المرجعية القانونية لتنظيم أداء وصلاحيات وتشكيلات الدولة والمؤسسات الدستورية. وأن المحكمة الاتحادية هي الضمان في تفسير مواد الدستور أو في البت بالنزاعات التي تنشب بين المؤسسات الحكومية والتشريعية. ويمكن القول أن وجود السيستاني وتقديمه نصائحه وتوجيه دفة الصراع السياسي ضمن لإطاره القانوني كان له الأثر في تفادي الحرب الطائفية والأزمات النيابية والحكومية والشعبية.
لقد أصرت الأحزاب الإسلامية على احترام الدستور الذي يحكم الدولة العراقية. ولا يوجد حزب إسلامي يدعو إلى تأسيس دولة إسلامية أو شيعية ، بل آمنوا بالنظام الديمقراطية الذي يحترم التعددية السياسية والفكرية ، والتنوع الديني والمذهبي والقومي في المجتمع العراقي.
ومهما قيل في أداء النظام السياسي العراقي لكنه بقي صامداً ملتزماً بالدستور في كل الأحوال. وبقي الفرد العراقي يشعر بالاطمئنان بأنه محمي في حريته وأمواله بالقانون. وبقيت الحريات السياسية والشخصية والدينية والحقوق المدنية والثقافية مصانة بشكل عام.
رغم الملاحظات الكثيرة على إخفاقات الإسلام السياسي في إدارة الدولة لكن يجب عدم إغفال ما تحقق من انجازات . إن التقييم الموضوعي يسلط الضوء على نقاط القوة كما يشير إلىة نقاط الضعف.
ممارسة الحريات والحقوق
في باب الحريات السياسية حافظ الاسلام السياسي على حريات تشكيل الأحزاب ونشاطاتها التنظيمية والاعلامية. كما احترم التعديية السياسية والمشاركة في الانتخابات وتشكيل الحكومات لجميع الكتل السياسية مهما كان توجهها الأيديولوجي أو السياسي. وكان رئيس الوزراء يمثل رجل الدولة الذي يحترم الدستور والقوانين والحريات السياسية ومواقف الأحزاب المخالفة له سواء في مجلس النواب أو في وسائل الاعلام. هذه التعددية السياسية لا نظير لها في المنطقة ولا في دول الجوار التي تضع أنظمتها قيوداً على بعض الأيديولوجيات والتوجهات السياسية. ففي إيران لا توجد أحزاب علمانية ، وكلها إسلامية تتبادل الأدوار حسب صناديق الاقتراع. فالاصلاحيون والمحافظون كلاهما إسلاميون ولكن يختلفون في برامجهم السياسية والحكومية. وفي تركيا تمنع الأحزاب الكردية أو المعارضة ، والأقليات محرومة من حقوقها الثقافية والسياسية. وأما الدول العربية ، فالخليجية منها بلا أحزاب سياسية ولا انتخابات ، عدا الكويت.
حرية الاعلام والتعبير
حافظ الاسلام السياسي على حرية الاعلام والتعبير حيث شهدت فترة بعد سقوط النظام ارتفاع عدد القنوات العراقية إلى أكثر من (50) قناة فضائية تمثل كل الاتجاهات السياسية بعد ان كانت قناتان حكوميتان في عهد النظام البائد. يضاف إليها مئات الصحف والمجلات والاذاعات الوطنية والمحلية التي تديرها شخصيات وأحزاب سياسية وجمعيات دينية وعلمانية. ورغم أن بعض القنوات الفضائية قد تجاوزت حدود الحريات والأخلاق والعادات الاجتماعية في الإساءة إلى المؤسسات الدستورية كمجلس النواب والحكومة والمحكمة الاتحادية والقضاء العراقي لكنها بقيت تمارس عملها دون تدخل حكومي إلا في بعض الحالات التي تضمنت إهانة شخصية وتشهير يمنعه القانون العراقي.
عموماً يعد الاعلام العراقي الأكثر حرية مقارنة بالدول العربية والمنطقة التي لا يمكنها توجيه أية ملاحظة بسيطة للحاكم والملك والرئيس. وتعرض مدونون في السعودية والامارات والكويت وقطر إلى السجن بسبب مدونة في وسائل التواصل الاجتماعي أو قصيدة شعر لم تعجب السلطات هناك. بينما وسائل الاعلام العراقي تنتقد وتسب وتشتم يومياً رموز الدولة والحكومة بلا خشية من رجل أمن أو خوف من اعتقال أو ملاحقة. وصار المواطن العراقي يعبر عن رأيه بكل حرية وحسب ما يعتقد دون خوف من السلطة لكنه بقي يخشى انتقاد بعض الأحزاب التي تمتلك أجهزة مسلحة قد لا ترحمه. على العموم اتسمت العلاقة بين المواطن والسلطة بالندية لأنه يستطيع نقدها أو التظاهر ضدها أو يكتب أو يمارس كل أشكال النقد للسلطة بلا تردد أو خوف من زائر الفجر كما في الأنظمية القمعية السابقة. وصار المواطن يتحدث وينقد ويعطي رأيه في كل الشؤون الداخلية والخارجية والأمنية والسياسية والبرلمانية والحكومية والاقتصادية . ورغم أن أغلب شكاواه تكرست في القضايا الخدمية والفساد المالي والاداري، لكن حتى هذه الأمور كان لا يتجرأ على البوح بها خوفاً من أزلام السلطة الذين يعدون عليه أنفاسه.
البرلمان العراقي
ومن معالم النظام الديمقراطي وجود برلمان فعال تناقش فيه جميع القضايا التي تهم البلد مهمها كانت حساسيتها وحتى الأمنية منها. ولعل أبرز مهام البرلمان العراقي مناقشة الموازنة السنوية بكل تفاصيلها . وقد تستغرق عدة أسابيع تجري عليها تعديلات ثم التصويت عليها. وهي المرة الأولى التي يعلم الشعب بها مقدار الموازنة السنوية للدولة. في حين لا أحد يعلم شيئاً عن الموازنة في زمن حكم حزب البعث وصدام.
وأنجز البرلمان عشرات القوانين الهامة التي رسخت النظام الديمقراطي ، وثبتت معالم الحكومة ووزاراتها وأجهزتها المدنية والأمنية، بالاضافة إلى التشريعات التي تهم المواطن العراقي ومعيشته.
كما قامم البرلمان بتحقيق أعلى درجات الرقابة عندما قام باستجواب عدد من الوزراء وأقالهم من منصبهم مثل وزير الدفاع خالد العبيدي ووزير المالية هوشيار زيباري. وكل منهما ينتمي إلى مكون وكتلة سياسية قوية لم يكن بالحسبان أنه يمكن استجوابهم وبالتالي إقالتهم. كما قام البرلمان بإقالة كلا من محافظ نينوى ومحافظ كركوك . وهذا لا يعني أن مجلس النواب لا يعاني من مشاكل حقيقية في أداء النواب ومواقف الكتل السياسية المثيرة للجدل.
احترام الدستور والقوانين
ومن معالم النظام السياسي هو خضوع الحكومة والسلطة التنفيذية للسلطة القضائية . فحسب الدستور لا يتم تشريع قانون إلا من خلال مشروع تقدمه الحكومة ثم يناقشه البرلمان ويصوت عليه. وبذلك لم تعد السلطة المطلقة بيد الحكومة كما في العهود السابقة. وخلال الفترة الماضية تعاقب ثلاثة رؤساء حكومات من التيار الإسلامي (الجعفري 2005-2006 ، المالكي 2006-2014 ، العبادي 2014-2018 ) وكلهم احترموا تشريعات البرلمان وأحكام الدستور. وفي عهدهم أقيمت عدة انتخابات (الجعفري: انتخابات الجمعية الوطنية في 30 كانون الثاني 2005، الاستفتاء على الدستور في 15 تشرين الأول 2005 ، وانتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات في 15 كانون الأول 2005 ؛ المالكي: انتخابات مجالس المحافظات عام 2009 و2013 ، وانتخابات مجلس النواب عام 2010 و2014 ) . وقد احترموا التوقيتات الدستورية ، كما احترموا نتائج الانتخابات. ومن النتائج المثيرة في انتخابات البرلمان عام 2010 هي حصول ائتلاف دولة القانون الذي كان يرأسه رئيس الوزراء نوري المالكي على (89) مقعداً ، وحصول قائمة اياد علاوي على (91) مقعداً . وقد قدم رئيس الوزراء طعناً لدى المفوضية المستقلة العليا للانتخابات لكن اعتراضه لم يؤدي إلى تغيير النتائج ، فاحترم قرار المفوضية.
إن حرص الأحزاب الإسلامية على سير العملية السياسية والنظام الديمقراطي تمثل في إجراء الانتخابات في مواعيدها دون تأجيل أو تجميد ، ولأي سبب كان. فحتى عندما كان الوضع الأمني متدهوراً في مواجهة القاعدة وداعش وبقية التنظيمات الارهابية تم إجراء الانتخابات، وتم التداول السلمي للسلطة واستبدال امجالس المحافظات والمحافظين والوزراء وغيرهم.
هيمنة المحكمة الاتحادية
ومن معالم النظام السياسي هو احترام قرارات القضاء وخاصة المحكمة الاتحادية. إذ صار الجميع يلجأ للمحكمة الاتحادية التي صار قرارها ملزماً للجميع ، وباتاً لا يمكن الطعن فيه. وبفضل المحكمة الاتحادية صار البرلمان والحكومة والوزارات والمحافظات والهيئات المستقلة تحتكم إليها وتنفذ قراراتها. وصار الدستور والقانون عاملاً هاماً في المناقشات السياسية في البلاد. وأصبح من السهل رد رأي الحكومة أو البرلمان إذا كان مخالفاً للدستور أو القوانين النافذة. وهذه كلها ممارسة حضارية افتقدها العراقيون منذ وقت طويل في ظل حكم الأنظمة الشمولية . إذ خلال 35 عاماً أصدر مجلس قيادة الثورة المنحل أكثر من عشرة آلاف قانون وقرار ما زال الكثير منها نافذاً. ولم يكن بالامكان الطعن بقراراته أو أحكامه حتى لو خالفت الدستور المؤقت الصادر عام 1970 .
لقد هيمنت المحكمة الاتحادية على السلطتين التشريعية والتنفيذية من خلال قراراتها التي لا يستطيع أحد مخالفة وحتى رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس مجلس النواب. ففي 28 حزيران 2016 أصدرت المحكمة الاتحادية قرارها ببطلان جلستي 14 و26 نيسان 2016. إذ جرى في الأولى إقالة هيئة رئاسة البرلمان من قبل جبهة الاصلاح، وفي الثانية جرى إقالة أربع وزراء وتعيين بدلاء لهم في جلسة عاصفة منع فيها قرابة مائة نائب من دخول الجلسة. وقد تم تنفيذ قرار المحكمة الاتحادية فعادت هيئة رئاسة البرلمان إلى عملها ، كما باشر الوزراء المعزولين بأعمالهم مرة ثانية، وانسحب الوزراء البدلاء بهدوء، وعادت الأمور إلى مجاريها.
من جانب آخر أصدرت المحكمة الاتحادية في 10 تشرين الأول قراراً أبطلت فيه قراراً لرئيس الوزراء حيدر العبادي الذي قام بإلغاء مناصب رئيس الجمهورية الثلاثة (المالكي والنجيفي وعلاوي)، حيث عادوا إلى مناصبهم دون اعتراض من أية جهة. كما أصدرا أمراً ولائياً أبطلت فيه قرار اقليم كردستان بإجراء استفتاء الانفصال عن الدولة العراقية الذي أقيم في 25 أيلول 2017. ثم أصدرت قراراً بعد إجراء الاستفتاء تضمن أن الانفصال عن العراق أمر غير دستوري، وبالتالي فالانفصال يعد باطلاً.
ولعل أبرز قراراتها هو إقالة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي في ١٤ تشرين الثاني ٢٠٢٣ . وبذلك بات أي منصب حكومي أو تشريعي حتى لو كان رئيس من السلطات الثلاث ، محصناً من المحاسبة والإقالة . صحيح أن البرلمان فشل في اختيار رئيس آخر له رغم مرور عشرة شهور على خلو المنصب.
أما المحكمة الادارية فقد قامت بإصدار قرارات هامة خاصة ما يتعلق بالمحافظات ، وإقالة المحافظين أو إبطال قرارات مجالس المحافظين بإقالة بعض المحافظين لعدم استيفاء الجوانب القانونية في إجراءات الإقالة. وأبطلت المحكمة الادارية قرار مجلس محافظة ومحافظ كركوك برفع العلم الكردي فوق الأبنية الحكومية في كركوك.
الإنجازات الحكومية
أما انجازات الحكومات العراقية المتعاقبة فقد خضعت للاعلام المضاد من الخصوم والدعاية حتى صار في ذهن الشارع العراقي أن الحكومة لم تنجز شارعاً واحداً أو مدرسة واحدة أو مشروعاً واحداً. وهذه كل مجانب للحقيقة وبيانات وزارة التخطيط وهي الجهة المعنية بالاحصاء والنمو السكاني ومشاريع الحكومات والمحافظات.(١) بالطبع هذه الانجازات لم تحقق الاكتفاء الذاتي سواء في الانتاج أو الخدمات وخاصة في قطاعات السكن والكهرباء .
ولا يجب نسيان ما قامت به الحكومات المتعاقبة في مواجهة ملف الارهاب وتهيئة كل مستلزمات المواجهة سواء في القضاء على القاعدة عام 2010 ، أو في دحر داعش عام 2017 . فالحكومة تمكنت من تعبئة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والحشد الشعبي ، وتوفير ما تحتاجه المعارك من تمويل وتسليح وتجهيز ونقل ووقود وميرة وطبابة ولوجستيك. وهي مهمة ليست بالسهلة ولا يمكن تغافل جهود الحكومة.
وما تزال الوزارات والدوائر الحكومية من الفساد المالي والإداري الذي أنهك الموازنة العامة. ويومياً يُكشف عن فضائح جديدة تتناقلها وسائل الإعلام.
أما على الصعيد الدبلوماسي فقد تمكنت الحكومة العراقية من توقيع اتفاقية انسحاب القوات الأمريكية من العراق واتفاقية الاطار الستراتيجي للتعاون عام 2008 ، وتم الانسحاب في كانون الأول 2011 . كما عقدت القمة العربية في بغداد عام 2012 بعد آخر قمة عربية أقيمت في بغداد عام 1978 . كما تمكنت الجهود الدبلوماسية من الحصول على قرار من مجلس الأمن يتضمن خروج العراق من البند السابع الذي صدر عام 1990 ووضع العراق تحت وصاية مجلس الأمن الدولي، ورهن سيادته وقراراته.
الهوامش
١- يمكن ايجاز بعض انجازات الحكومات للفترة 2003-2017 بما يأتي:
-تخفيض مستوى الفقر من 85% إلى 25%
-ارتفع انتاج الطاقة الكهربائية من 3750 ميكا واط عام 2003 إلى 14600 ميكاواط عام 2017.
-ارتفعت القدرة الشرائية للمواطن العراقي بمقدار عشرين مرة، واستفاد منها نحو 75% من العراقيين. ارتفعت نسبة المدن العراقية التي فيها شبكة صرف صحي من 6% عام 2003 إلى 50% عام 2015.
-ارتفع عدد المدارس الابتدائية من 9112 مدرسة عام 2002 إلى 15807 مدرسة عام 2014 ، وارتفع عدد المدارس الثانوية من 3128 مدرسة عام 2002 إلى 7083 عام 2014 .
-ارتفع انتاج الماء في مركز بغداد من مليون متر مكعب عام 2003 إلى أربعة ملايين متر مكعب. كما ارتفعت نسبة شبكات الماء الصافي في أطراف بغداد من 35% إلى 85% .
-تم إنشاء عشرات الملاعب حتى صار في كل قضاء ملعب نظامي، أضافة إلى ملاعب حديثة مثل المدينة الرياضية في البصرة، وملعب كربلاء وملعب العمارة.
-في قطاع الصحة ، في عهد حكومة نوري المالكي :
1-كان معدل وفيات الأطفال الرضع 35 وفاة لكل ألف ولادة عام 2006 . انخفض عام 2013 إلى معدل 21 حالة وفاة لكل ألف ولادة.
2-في عام 2006 كان معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة هو 41 وفاة لكل ألف ولادة حية، انخفض عام 2013 إلى 27 حالة وفاة لكل ألف ولادة حية.
3-في عام 2006 كان عدد المستفيات الحكومية والتعليمية يبلغ 155 مستشفى، ارتفع إلى 231 مستشفى عام 2013 ، أي بزادة تبلغ 49%.
4-بلغ متوسط عدد السكان لكل سرسر مستشفى 790 مواطن لكل سرير، انخفض إلى 747 مواطن لكل سرير.
5-بلغ متوسط عدد السكان لكل طبيب 1650 مواطن لكل طبيب انخفض إلى 1274 مواطن لكل طبيب، أي بنسبة تحسن 22,8% ، مع الأخذ بالاعتبار الزيادة السكانية السنوية.
6-بلغ متوسط عدد السكان لكل صيدلي كان 6812 مواطن لكل صيدلي، انخفض إلى 5033 مواطن لكل صيدلي أي بنسبة تحسن 26% .
7-في عام 2006 كان عدد المستشفيات الخاصة يبلغ 64 مستشفى، ارتفع إلى 83 مستشفى، أي زيادة بنسبة 30% .
8-تم إنشاء 284 مركزاً صحياً، و34 مجمعاً سكنياً صحياً .
9-إنشاء عشرات الجسور ، وإكساء آلاف الكيلومترات من الطرق والشوارع.
10-إنشاء مدينة بسماية بسعة مائة ألف وحدة سكنية سينتهي العمل بها خلال عشر سنوات.
11-حققت المبادرة الزراعية 80% من حاجة السوق المحلية للحنطة حيث بلغ الانتاج حوالي 4,3 مليون طن من الحاجة البالغة 4,5 مليون طن.
12-حققت المبادرة 50% من حاجة السوق من اللحوم والأسماك والبيض.
13-حققت المبادرة أعلى مستوى من الرز العنبر ، وهو يعادل 25% من الحاجة الفعلية من الرز.
14-إنجاز أربعة قرى عصرية سعة الواحدة 110 دار للمهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين ، وتم منح كل منهم 40 دونماً من الأراضي الزراعي لإقامة مشاريعهم عليها.
15-تم إنشاء شبكات هاتف نقال لأول مرة في العراق ، وصارت متاحة لكل مواطن.
16-تم تطوير الخطوط الجوية العراقية ،وشراء عشرات الطائرات الحديثة.
17-تم تطوير الجيش العراقي والشرطة الوطنية والأجهزة الأمنية بشكل مضطرد ـ وتزويدها بالأسلحة المتطورة والتدريب الحديث حتى تمكنت من طرد داعش وتحقيق الأمن والاستقرار.
25-11-2024, 11:43 العراق : حراك دبلوماسي واسع لمنع عدوان إسرائيلي محتمل
25-11-2024, 10:25 نصف مليون متسول في العراق.. 90% منهم يحصلون على رواتب الرعاية
أمس, 14:59 توضيح بشأن مرشحي المرجعية وولاية الفقيه بعد السيستاني والخامنئي
علي المؤمن25-11-2024, 12:46 حرمة الافتراء على المؤمن في القرآن والسنةالنبوية
د.رعدهادي جبارة25-11-2024, 12:01 خيارات المرجعية النجفية بعد آية الله السيستاني
علي المؤمن21-11-2024, 22:27 وحدة القرار الشيعي واحتمال ظهور مرجعية مطلقة
د. علي المؤمن