قامات عراقية خالدة - ٧ .. أحمد سوسة مؤرخ الرافدين وأنهارها
"Today News": بغداد
في الحلة ولد أحمد نسيم سوسة (١٩٠٠- ١٩٨٢) لأسرة يهودية ، وجد في الاجتهاد والمثابرة طريقه إلي العلم والمعرفة والدراسة في أمريكا. ودرس هندسة الري وبرع فيها وكتب موسوعات في تاريخ أنهار وادي الرفدين وفيضاناتها. وهناك التقى بالإسلام عندما كتب مقالاً يقارن فيه بين (الإسلام النصرانية) عام ١٩٢٩ بكل موضوعية ، دافع فيه عن تعاليم الإسلام وعن العرب ، حتى اضطر أن يكتب لمترجم المقال أنه يهودياً وليس بمسلم.
الأسرةفي مذكراته كتب أحمد سوسة:
(إن أسرتنا (آل سوسة) عربية الأصل ، في الوطن ، وفي العرق ، وفي القومية واللغة. وهي من قبائل الجزيرة العربية المتهودة قبل الإسلام . وقد استقرت على ساحل الفرات علي عهد الخليفة عمر (رض) حين أخرج القبائل العربية المتهوّدة والمتنصّرة من جزيرة العرب. وقد امتهنت الأسرة الزراعة ومارستها في جنوب اليمن (حضرموت) وفي سواد العراق . واستمرت تعمل في هذا الميدان منذ أن وطأت اقدامها ارض العراق لفترة ألف وثلاثمائة سنة. فتركت ثلاث قرى زراعية على نهر الفرات وبستاناً على نهر دجلة ، وهذه لا تزال تحمل اسم الأسرة (سوسة) حتى هذا اليوم) (١)
لقد نزحت أسر يهودية التي تم إجلاؤها من الجزيرة العربية إلى سوريا (قرية سوسة) مقبل مدينة البوكمال ، وأخرى اتجهت إلى شمال أفريقيا حيث استقرت في مدينة (سوسة) في تونس. وفي العراق استقر في الكوفة بعض اليهود العرب القادمين من خيبر ونواحي الحجاز. كما استقر آخرون في مناطق دير الزور وعانة وحديثة وعملوا في الزراعة .
إن لقب سوسة يعود إلى قبيلة عربية في جنوب اليمن كانت تعرف باسم (قبيلة بني سواسة) إلى الجنوب من صنعاء. وهي قبيلة فلاحية تمتهن الزراعة التي تعتمد على الري. وقد حافظوا على اسمها (سوسة) في جميع المناطق التي هاجروا اليها. فهناك قرية سوسة في البوكمال بسوريا ، وعين سوسة في الصقلاوية على نهر الفرات قرب الفلوجة ، وبستان سليم افندي سوسة في شمالي بغداد على نهر دجلة . وهناك جزرة سوسة وعين سوسة في منطقة (حديثة) في قضاء عانة على نهر الفرات بالأنبار.
وقد ورد ذكر قبيلة بني سواسة مقرونة مع (رُعَيْنْ) وهو سد وخزان يقع في مقطعة (مخلاف) بجنوب اليمن ، ورد في شعر امرؤ القيس : ودار بني سواسة في رعين*** تحط الى جوانبها الرجال. (٢)
وورد أيضاً بيت الشعر : ودار بني سواسة في رعين*** تخر على جوانبه الشمال (٣)
وقد سكن والد نسيم في بغداد عند آل دانيال وهي من العائلات اليهودية الثرية. فأوكل إليه إدارة مقاطعاته الزراعية وأملاكه لما له من خبرة في الشؤون الزراعية والإدارية. وبحكم عمله انتقلت الأسرة الى مدينة الحلة ، وفي هذه المدينة ولدة احمد في ١٠ حزيران عام ١٩٠٠. وكان جدهم الأخير اسحق توفي ودفن في الحلة عام ١٩٠٧. وكان الجد يقيم في الصقلاوية قبل انتقال الى الحلة.
بداية علاقته بالإسلام
عندما كان نسيم في السابعة من عمره فوجئت الأسرة بهروب عمه شاؤول المقيم في منزله. لقد اعتنق الإسلام وغيّر اسمه واختفى وانقطعت اخباره إلى الأبد. حزن أفراد الأسرة على هذا الحدث الجلل.
يقول احمد سوسة : هذا الحادث ترك الأثر العميق في نفسي ، فترك انطباعات وتساؤلات في عقلي الصغير وخلق عتدي عقدة حيرتني طوال السنوات التالية. فاستأثرت بكل تفكيري وأنا أسائل نفسي: ما هو الفرق بين اليهودي والمسلم؟ ألم يكن رفاقي كلهم من المسلمين؟ ألم نكن كلنا عرباً؟ لماذا إذن هذا الحزن والقلق؟ فلابد من سر غامض يجب أن أكتشفه . وإذا صدق القول بأن الحوادث في الصغر هي التي ترسم مستقبل تفكير الانسان في حياته بما يخلفه من رواسب وعقد تسيطر على سلوكه طيلة حياته ، فإن هذه الحادثة طبعت في ذهني صورة ذلك المشهد ، وقد ظلت تحثني على اكتشاف ذلك السر الغامض وعلى إيجاد الأجوبة على تلك الأسئلة التي استأثرت بتفكيري سنوات طوالاً.
النشأة والدراسة
ولد نسيم بن موسى بن إسحاق سوسة في الحلة في العهد العثماني في بداية القرن العشرين ، في أسرة متوسطة الحال في دار بسيطة تقع في أحد أزقة الحلة الضيقة. وكانت الحلة آنذاك مركز العراق في تجارة الحبوب التي تجهز السوق الداخلية ، وتصدر الفائض إلى الخارج. وكانت معظم الأسر تتعاطى الزراعة وتجارة الحبوب. فكان لارتفاع الأسعار أو هبوطها التأثير الواضح في حياة ومعيشة السكان.
كان لوالده موسى رجلاً مستقيماً صادقاً في معاملاته ، صريحا في أقواله. وكان ذو منزلة في المجتمع حتى عُيّن عضوا في مجلس إدارة اللواء. وكان الوالد بحكم عمله يسافر كل سنة إلى الديوانية لإجراء الانتخابات في مركز اللواء. وكان يرافقه عدد من الحراس (الجندرمة) ، هذا مع العلم أن الحلة هي مركز المتصرفية (المحافظة). كان الوالد مثقفاً يحسن التحدث بالإنكليزية والفرنسية ، ولديه مكتبة جيدة ، وقد أجبر ولده على تعلمهما . كما خصص له معلماً لتدريسه اللغة التركية لأنها كانت اللغة الرسمية في العراق آنذاك لأنه تابع للدولة العثمانية.
في عام ١٩٠٧ افتتحت الجمعية الإسرائيلية الفرنسية (مدرسة الأليانس) في الحلة ، تُدرّس فيها الفرنسية والعبرية والتوراة للطلاب اليهود ، والفرنسية هي اللغة الأساسية للتدريس وقليل من العربية والتركية. انضم أحمد إلى هذه المدرسة ، وهناك التقى بالطلاب اليهود ، إضافة إلى عدد قليل من المسلمين. في عام ١٩١٠ بلغ عدد الطلاب (١٧٥) طالباً. (٤)
الحلة تحت الحصار العثماني
في عام ١٩١٤ نشبت الحرب العالمية الأولى ، فأعلن المفتي العثماني فتوى الجهاد إلى جانب الألمان. وكان من أثار الحرب قيام السلطات التركية بتجنيد الشباب العراقي وإرسالهم إلى ساحات المعارك في أوربا وروسيا وغيرها مما عرف بـ (السفر برلك) الذي سبب البؤس والشقاء لأهالي المدن الكبيرة وخاصة في بغداد. وضعفت الحكومة وأهين رجالها في النجف والحلة وغيرها من مدن الجنوب. هذا الوضع أثر على حياة الفتى أحمد ، فقد أغلقت المدرسة التي كان يدرس فيها.
وتعرضت مدينة الحلة إلى عملية عسكرية وحشية تركية قادها عاكف بك الذي قام علناً بشنق (٢٨) شخصاً من وجهاء البلدة. واستمر على ذلك المنوال وهذه الجريمة تتكرر كل يوم لمدة شهرين شنق خلاهما (١٣٧) شخصاً. وقتل عاكف بك قرابة (٥٠٠) شخصاً حاولوا فك الحصار الذي فرضه على المدينة بمنع الدخول إليها والخروج منها.
ولم يكتف عاكف بك بذلك بل تصدى إلى الأعراض وسبى النساء والأطفال والشيوخ دونما عطف ولا شفقة م فقام بنفيهم من بيوتهم إلى تركيا. وقد نوى هدم المدينة بالمدافع بعد أن أمر بإخلائها ، فخرج الساكنون يتراكضون تاركين بيوتهم وأموالهم ظنّاً منهم إنهم بخروجهم يسلمون على حياتهم ولم يكونوا يعلمون ما كان يضمره لهم قائد الحملة من نيات مبيتة. خرج الناس وكأنهم في يوم الحشر فكانوا يتدافعون ويتسابقون بينهم شيوخ يحملهم أهلهم على ظهورهم للنجاة ، وأطفال يركضون وراء آبائهم وأمهاتهم وقد أخذ البكاء والهلع منهم مأخذه. ونساء محجبات يصعد عويلهن إلى عنان السماء.
وقد أختير لهذه الجموع سهل منبسط واسع تحيط به سلسلة من التلال نصبت عليها المدافع. وما أن صدر الأمر بعزل عوائل الموظفين عن غيرهم حتى استفاق الناس من ذهولهم ، وأدركوا أن شبح الموت يلاحقهم وآنهم على قاب قوسين أو أدنى منه. يروى سوسة تلك اللحظات الرهيبة فيقول: ( بعد أن قضينا أكثر من ست ساعات في العراء كنا نترقب في كل لحظة منها المصير الذي ينتظرنا. وبينما كانت الجموع متلهفة لسماع الأوامر لكن أذيع علينا أن السلطة العليا رأفة بالأهلين وعوائلهم عدلت عن اتخاذ أي إجراء من شأنه أن يلحق الأذى بهم ، فعدنا إلى منازلنا وكل منا يشعر بأنه يعيش حياة جديدة. ولم يمض زمن طويل حتى أخذت الجيوش التركية تتقهقر أمام القوات الإنكليزية منسحبة إلى الشمال. (٥)
الاحتلال البريطاني وثورة العشرين
حول مشاعره من الاحتلال البريطاني للعراق يبدي أحمد سوسة استياءه رغم أنه كان غاضباً على العهد العثماني . يقول سوسة ( كان الاحتلال البريطاني قد أثار روح التذمر وخيبة الأمل في تحقيق أماني العرب بعد أن نكث الانكليز بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم في خلال الحرب العالمية الأولى ، فاندلعت نيران ثورة العشرين المعروفة من قلب جنوب الفرات.
وقد قدر لي أن أعيش في وسط أحداث الثورة (وعمره عشرون عاماً) الثورة العراقية هذه ، وأن أراقب ما انطوت عليه من تضحيات وبطولات أبناء الفرات في سبيل الحرية والاستقلال. فكانت أخبار النصر تقابل بسرور عظيم وفرح عميق ، وكم كان سرورنا حين جيء بالأسرى الانكليز وكلهم في سن الشباب ، فاحتجزوا في بلدة الكفل وعُني بهم أحسن عناية. وقد زاد انتصار الثورة في اضرام الحماس وانطلاق النفوس في سبيل تحقيق الأماني الوطنية). (٦)
التفكير بالمستقبل
في نهاية العقد الثاني من عمره توفى والده موسى في النمسا حيث كان يتعالج هناك ، فكان عليه التفكير بمستقبله لوحده. وكان أخوه الأكبر (لم يذكر اسمه) قد ذهب إلى بيروت والتحق بالجامعة الأمريكية لدراسة الطب إلاّ أنه اضطر للعودة لأسباب عائلية (ربما وفاة والده).
في تلك الفترة المضطربة من حياته التقى سوسة بطبيب عسكري سوري ، فكان له تأثير عندما وجهه بالدراسة بالجامعة الأمريكية في بيروت قائلاً له: إن العلم والثقافة هما أضمن رأسمال في حياة الانسان ، ونصيحتي إليك أن توجّه كل تفكيرك واتجاهاتك إلى الدراسة لكي تعد نفسك لتكون طبيباً مثلي).
وقام الطبيب السوري بتزويده بتوصيات إلى أصدقائه في بيروت لمد يد العون إليه. وكانت الجامعة في بداية سنتها الدراسية ، وعليه الإسراع بالسفر للحاق بها. استأجر سيارة كاديلاك وسافر عن طريق الموصل عبر منطقة الجزيرة الصحراوية حتى وصل حلب ثم بيروت.
في الجامعة الأمريكية في بيروت
في عام ١٩٢٢ التحق سوسة بالجامعة الأمريكية في بيروت لكن واجهته عقبات. إذ كان عليه الحصول على شهادة الثانوية ليتسنى له دخول الكلية. بعد اجتياز لامتحان عام تقرر بعده إلحاقه بالصف الأخير من صفوف الدراسة المتوسطة وذلك على سبيل التجربة ، ثم يتم اتخاذ القرار النهائي. وبالفعل بعد شهر ولثبوت قابليته وجهده ألحق بالصف الرابع الاعدادي، فالتحق به وأنهاه بنجاح في حزيران ١٩٢٣. بعد قضاء العطلة الصيفية التحق بالصف الخامس أعدادي وهو الصف المنتهي فتخرج منه في عام ١٩٢٤. الأمر الذي أهّله لدخول الكلية.
في الجامعة تعرف سوسة على مجموعة من العراقيين الدارسين الذين جاؤا في أول بعثة عراقية توفد إلى الخارج ، وقد تسنم بعضم مناصب عليا أو أصبحوا من الشخصيات المعروفة مثل: متي عقراوي ، مظهر فهمي ، اكرم رفعت ، ممتاز عارف ، فؤاد حسو ، اكرم زينل ، يونس حنا ، محمد الدشتي ، يوسف خدوري ، يحي الباجه جي ، درويش الحيدري ، حسن جواد ، أحمد النعمة ، إبراهيم البسام ، صبيح الوهبي ، تحسين إبراهيم ، وديع سليمان ، صموئيل بيشون ، توفيق شكوري ، جميل جموعة ، إسماعيل الجوربه جي ، احمد دوغرامجي ، محي الدين يوسف ، شيت نعوم ، يوسف زينل و خليل فدو.
شهادة فاضل الجمالي بسوسة
كان من بين المبتعثين محمد فاضل الجمالي الذي انتخب عام ١٩٢٥ رئيسا للجمعية العراقية في الجامعة. كتب الجمالي عن علاقته بسوسة :
عرفت الدكتور سوسة في سنة ١٩٢٢ حين كان طالباً في الجامعة الأمريكية في بيروت ، وساعدتُ في صيف تلك السنة على متابعة الدروس العربية ، وقد وجدتُ فيه منذ ذلك الحين شاباً منكبّاً على الدرس والمطالعة والبحث والتنقيب ، حر الضمير ، مستقلاً في التفكير. وقد علمت إذ ذاك أنه نشأ في بيئة عربية بحتة ، وهو يحمل منذ صباه عواطف جميلة نحو الإسلام والمسلمين. فقد كان معظم خلانه من المسلمين) (٧)
ثورة على جريدة المصباح الصهيونية
عندما كان سوسة مشغولاً بالدراسة في الجامعة صدرت في بغداد جريدة أسبوعية ، هي عربية في الظاهر ، ولكنها تعنى بالشؤون اليهودية فقط تسمى جريدة المصباح الأسبوعية ، تصدر كل خميس ، صاحبها ومديرها المسؤول الصهيوني العراقي سلمان شينة ، ورئيس تحريرها أنور شاؤل (ابن السموأل). صدر عددها الأول في ١٠ نيسان ١٩٢٤ ، واستمر ثلاث سنوات ثم توقفت.
يقول سوسة في مذكراته: (لقد تعرفت عن طريق الجريدة برئيس تحريرها أنور شاؤل وهو شاب أديب شاعر ، صارت بيني وبينه مراسلات ، وكان يرسل لي جريدة المصباح بانتظام. فكنت أتحسس من مطالعة هذه الجريدة بنفس الهواجس فتستوقفني علامات استفهام: مجلة عربية تظهر باللغة العربية والوطن واحد ، وفي الوقت نفسه تحتضن أخبار وحوادث طائفة معينة (الطائفة اليهودية) في حين أننا كلنا عرب في وطن واحد. فعلى بساطتي دون أن أكون أعلم بأن هناك جذوراً لما يسمى بالصهيونية. وبكل صراحة كتبت إلى صاحبي رسالة بتاريخ ١٦ أيلول ١٩٢٤ وكنت آنذاك مصطافاً في مصيف زحلة ، جاء فيها:
(لو تأمل القارئ جلياً في فحوى صفحات مصباحك التي تصلني على الدوام لوجد لأول وهلة أنها مجلة يهودية ليس فيها سوى حوادث اليهود وأكثرها طفيفة لا أهمية لها في حياتنا الاجتماعية ، ولا يميل إلى تلاوتها غير اليهودي لما حوتها من مقالات وحوادث يستشم منها التعصب للطائفة اليهودية.
ليعز عليّ أيها الصديق العزيز أن أشير إلى ضلال مسلك المصباح . إذ كان عليك أن لا تقتصر بأخبارك على الطائفة اليهودية بل مشاركة مجموع أبناء الوطن بأفراحه وأتراحه. إن التفرقة والتعصب يحولان دون تقدمنا ونهضتنا). (٨)
الدراسة في أمريكا
في ٨ تموز ١٩٢٥ غادر سوسة بيروت متوجها إلى أمريكا للدراسة في كلية تكساس الزراعية الميكانيكية والتي سبق أن حصل منها على القبول. وكان السفر على ظهر باخرة أمريكية (براكا) تجوب الموانئ الأوربية لتفريغ البضائع وتنقل المسافرين. بعد شهر من السفر في البحر وصل سوسة إلى نيويورك في ٦ آب ١٩٢٥ . وهناك شاهد تمثال الحرية ، وشاهد ناطحات السحاب لأول مرة. في ١٣ آب ١٩٢٥ وصل إلى كلية تكساس ، وهناك التقى بطالب لبناني هو جودت حيدر شقيق رستم حيدر رئيس التشريفات الملكية في العراق . والتقى بالطالب محمد فتاح ، وذهبا معاً إلى البحر ، وكانت السباحة مختلطة ، وهو مشهد مثير وغريب لم يسبق لسوسة الاعتياد عليه، لكنه أصبح عادياً بمرور الوقت.
وعندما شاهد الطلاب يختارون التخصص الذي يرغبونه ، قرر الانضمام الى كلية الهندسة المدنية لحاج العراق إلى هذا التخصص في نهضته الحديثة. وقد اختار القسم العسكري لميل إلى ركوب الخيل ، فالتحق في سلك الخيالة . وفي القسم تعلم عادات غريبة وأسماء مستعارة للطعام والشراب . إذ يسمون الحليب بالبقرة ، ومعجون الطماطة بالدم ، والماء بعصير السماء ، والمعكرونة بالدود ، والخبز بخشب المدفع ، والسكر بتراب المنشار !!!
إلى جانب الدراسة مارس سوسة نشاطات سياحية واجتماعية وأدبية ، منها القيام بجولة في الولايات الجنوبية الأمريكية ، والانخراط في جمعية الطلاب الأجانب وهي جمعية تهتم بالنشاطات الفنية والأدبية.
وكان قد استمر في عضويته بالجمعية العراقية في بيروت وله مراسلات مع بعض أعضائها مثل فاضل الجمالي في عام ١٩٢٦.
قضى سوسة ست سنوات في أمريكا من عام ١٩٢٥ الى عام ١٩٣٠ درس فيها في عدة جامعات وفي عدة ولايات وهي:
١-الكلية الزراعية الميكانيكية العسكرية في بريان (ولاية تكساس)
٢- الكلية الزراعية في شمال تكساس في آرلينكتون (ولاية تكساس)
٣- جامعة تكساس في أوستن
٤- كلية كولورادو في كولورادو سبرنكس (ولاية كولورادو)
٥- جامعة جورج واشنطن في واشنطن
٦- جامعة شيكاغو (ولاية ايلينوي)
٧- جامعة جونز هوبكنس في بالتيمور (ولاية ماريلاند)
في جامعة جورج واشنطن حصل على جائزة ويدل للسلم تبلغ خمسمائة دولار تمنح لكاتب أحسن مقال علمي في موضوع عام من شأنه توطيد عرى الصداقة والعلاقات الحسنة بين دول العالم.
وفي أحد المناسبات زار الرئيس الأمريكي هوفر وزوجته جامعة جورج واشنطن فقدم سوسة نفسه اليه وانه طالب من العراق فرحبا به وصافحاه.
علاقات غرامية
شاهد سوسة الحياة الجنسية المفتوحة بين الجنسين والشباب ، وكان يرى مشاهد العناق والقبلات في السينما في الشارع والجامعة وباصات النقل والقطارات. الأمر الذي استهواه فتعرف على فتاة جميلة اسمها ماكي لي. تطورت العلاقة فطلبت منه الزواج ، لكنه اعتذر لها بأنه جاء إلى أمريكا للدراسة ولا يمكنه أن يضحي بأحلامه وطموحاته وخدمة وطنه ، وفعلا غادر كلية ارلنكتون والتحق بكلية كولورادو في غرب الولايات المتحدة.
سكن في غرفة في منزل إحدى العائلات الامريكية ، فتعرف على فتاة نزلت في المنزل ذاته اسمها روبي مع والدتها جاءتا للسياحة. فصار يلتقيان عدة مرات في المنزل ، بالصالون لاستماع الموسيقى ، وعند مائدة الطعام. وصار يرافق الفتاة وامهما للنزهة وقضاء الأمسيات بعد العشاء. تطورت العلاقة بين سوسة وروبي فصاران يذهبان لوحدهما في سيارة أسرتها. وبعد فترة غادرت الفتاة المدينة فشعر سوسة بالشوق اليها ، فصارا يتبادلان الرسائل والهدايا. وبعد تسعة أشهر عادت لمنزل سوسة ، واتفقا على الزواج بعد اكمال الدراسة والحصول على شهادة الدكتوراه. وصار يزور عائلة روبي التي تسكن في كنساس سيتي باعتباره خطيبها.
تخرج سوسة من كلية كولورادو ، ثم حصل على الماجستير من جامعة جورج واشنطن في شباط ١٩٢٩ وانتقل إلى جامعة جونز هوبكنس في بالتيمور للحصول على الدكتوراه. في تلك الفترة توفي والد روبي فبكاه سوسة ألماً وحزناً وتعاطفاً مع حبيبته. وبقي منكباً على أعداد أطروحته حتى صدم بعقد قران روبي وشعر بأن الدنيا تدور به، وتبخرت أحلامه وعواطفه، وامتلأ حزنآً وغضباً ، وصار يهذي في فراش المرض. بقي على ذلك الحال أياماً وليالي حتى تعافى عندما فكّر أن علاج حالته هو الانكباب على كتبه ودراسته وإتمام أطروحته بأسرع وقت ومغادرة أمريكا.
ومع اقتراب مناقشة الرسالة ، وصلته رسالة من أم روبي تبدى فيها اعتذارها وندمها وتطلب المغفرة لما فعلته من تزويج ابنتها ، وتبلغه أن روبي تركت زوجها ، وهي لا تحب سواه . ورجته أن يكتب لروبي وأنها راغبة بلقائه. كتب سوسة رسالة إلى والدة روبي يعتذر فيها من لقاء روبي لأنها امرأة متزوجة ولا يمكنه زيارتها. وبينما كان سوسة يعد حقائبه للعودة إلى العراق ، جاءه اتصال هاتفي من روبي تطلب منه رؤيته وحضور حفلة تخرجه ، وهي أول شهادة دكتوراه لعراقي من أمريكا. وافق سوسة على مجيئها وأسرع لاستقبالها في محطة القطار وحضرت الحفلة. وفي اليوم التالي في ١٧ حزيران ١٩٣٠ ذهبا إلى الباخرة المتوجهة إلى فرنسا. وكان يدور في خلده أنها لو تزوجا وسافرا معاً إلى العراق، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. فعاش لحظات الحسرة على عدم اكتمال علاقتهما العاطفية.
أثناء رحلة السفر في الباخرة تعرّف سوسة على فتاة أمريكية اسمها ماري ايزالبيث تومسون وعمرها ٢٤ عاماً ، تحمل شهادة الماجستير من جامعة آيوا ، وأنها ذاهبة إلى باريس لقضاء العطلة الصيفية وتقوية لغتها الفرنسية. زادت لقاءاتها على ظهر السفينة ، وتوطدت العلاقة بينهما . وطلبت مرافقتها في باريس لأنها لا تعرف أحداً هناك فوافق أنه أراد الاطلاع على معالمها السياحية. في باريس نزلا في غرفتين متجاورتين ، وقضيا النهار في الجولات بين المتاحف والمتنزهات والمعارض الفنية ، وفي المساء يقضيان السهرة في الفندق. وأمضيا على هذا المنوال مدة أسبوعين ولم يقبّلها ولو مرة واحدة احتراماً لوضعها.
وقرر قضاء بضعة أيام في سويسرا ثم في لبنان قبل العودة إلى العراق ، ليستعيد صحته . وكانت ماري ترغب بمرافقته لكنه رفض اصطحابها لحين ما تتطور الأمور وتنتهي بزواجهما. زار سويسرا ثم بقي في لبنان حيث استهوته الأجواء السياسية المشغولة بوعد بلفور (١٩١٧) ، مما دفعه لكتابة مقال في جريدة الأحرار البيروتية نشر في ٢٨ آب ١٩٣٠. تناول سوسة المطامع الاستعمارية البريطانية ودورها في دعم الصهيونية لاستعمار فلسطين ، وتشريد سكانها العرب. (٩)
زواجه بفتاة أمريكية
عاد سوسة إلى العراق ، ثم استلم رسالة من روبي تقول فيها أنها على حصلت على الطلاق من زوجها ، وترجو أن يراسلها . ولكن تطور العلاقة مع ماري جعلته يتأمل الارتباط بها. علم أن ماري تركت أمريكا وعملها وجاءت إلي بيروت ، فسافر إليها وعقد زواجه عليها في القنصلية الأمريكية ببيروت في ٩ مايس ١٩٣٢.
لم يبد أهل نسيم سوسة ارتياحهم من زواجها بأمريكية ، لذلك قام سوسة باستئجار بيت في بغداد . وكانت أحياناً ترافقه في عمله الهندسي خارج بغداد ، وتنام معه في خيمة. أصيبت ماري بداء الخناق ، فكان عليه أن يقوم بخدمتها ويمرضها لأنه مرض معدي. شفيت من المرض ، ورزقا بولد في ١٩ كانون الثاني ١٩٣٤ اسماه (فيصل جميل). عندما بلغ الطفل ثمانية أشهر تم نقل سوسة إلى بعقوبة مسؤولاً عن منطقة ري ديالى ، وهي أول مسؤولية فنية مستقلة يتسلمها عراقي من المهندسين البريطانيين. بقي في بعقوبة بين ٢٠ أيلول ١٩٣٤ إلى ٢١ مايس ١٩٣٥ ، ثم نقل إلى الحلة للعمل كمهندس مسؤول عن بناء سدة الهندية.
بدأت الأمور تتعثر عندما أصيب الطفل فيصل جميل بمرض عجز الأطباء عن تشخيصه . كما أن أمه تأثرت بحالته فمرضت هي الأخرى. نصحه بعض الأصدقاء أن يذهب بماري والطفل إلى أهلها في أمريكا ، وكان الوقت في عز الشتاء والبرد. فكان عليه ركوب الباخرة والقطار والسيارة حتى يصل إلى مزرعة أهل ماري. جلبوا لها الطبيب فوراً ، ففحص الطفل وشخّص المرض ووصف العلاج. ومرت ثلاثة أيام حتى استعاد الطفل صحته ، وكذلك شفيت ماري من مرضها.
بعد شفاء زوجته وطفله أراد سوسة العودة إلى العراق لكن زوجته ووالديها أصرا عليه بالبقاء في أمريكا لأن أجواء العراق لا تناسبها. رفض الطلب وقرر العودة لوحده وتركهما في أمريكا. ورغم شوقه الكبير لزوجته وابنه البكر لكن سوس يصرح أنه لم يندم لأنه أراد خدمة وطنه ، وهو ما حققه بدليل المناصب التي تولاها والمؤلفات التي أغنى بها المكتبة العراقية.
أولاد سوسة
لم يطق سوسة البقاء أعزباً فخطب فتاة مسلمة تحمل الشهادة الابتدائية لكنها ذات تربية صالحة فعقد عليها في ٩ آذار ١٩٣٩ ، وبعد عشر سنوات من الانتظار رزق بابنة في ٢٨ نيسان ١٩٤٩ وأسماها (عالية) على اسم الملكة عالية زوجة الملك غازي وأم الملك فيصل الثاني. ثم رزقهما الله بصبي في ٣٠ حزيران ١٩٥١ فأسمياه علي. وقد أحسن تربيتهما حتى تخرجا من الكلية.
تخصصت عالية سوسة (١٩٤٩- ٢٠٠٣) في التاريخ الحديث من كلية الآداب بجامعة بغداد. وحصلت علي البكالوريوس من الجامعة الامريكية ببيروت ، والماجستير من جامعة لندن ، والدكتوراه من جامعة السوربون في باريس ، وكلها في علم التاريخ. عملت أستاذة في قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة بغداد للفترة ١٩٧٦- ١٩٩٠، ثم طلبت إحالتها على التقاعد. وكانت لها محاضرات في جامعة شيكاغو الامريكية في صيف ١٩٨١. كما حاضرت في كلية القانون بجامعة بغداد ١٩٩٠-١٩٩١ . وعملت خبيرة في المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط في واشنطن ، ومحررة للقسم الإنكليزي في مجلة (المؤرخ العربي). وقد أشرفت على طبع من عدد من مؤلفات والدها أحمد سوسة. كما تركت مؤلفين هما (مدخل إلى التاريخ العربي عام ١٩٨٢) و (ميادين الدراسات اليهودية عام ١٩٨٢). تزوجت من عائلة الصراف ، ولها بنت اسمها سارة تقوم بالمحافظة علي تراث عائلتها بما فيها منزل جدها أحمد سوسة.
استشهدت عالية سوسة في حادث انفجار سيارة مفخخة ، دبره تنظيم التوحيد والجاهد بزعامة أبو مصعب الزرقاوي الذي اصبح فيما بعد جزءً من تنظيم القاعدة ، استهدفت مبنى بعثة الأمم المتحدة في بغداد بتاريخ ١٩ آب ٢٠٠٣ مع مبعوث الأمم المتحدة الدبلوماسي البرازيلي سيرجيو دي ميللو (١٩٤٨- ٢٠٠٣) ومعه عشرين موظفين آخرين . وكانت عالية تعمل مترجمة في هيئة الأمم المتحدة. أما أخوها علي فقد توفي وترك ابناً اسمه حيدر.
في عام ١٩٥٢ وصلت أحمد سوسة رسالة من ولده جميل فيصل (عمره آنذاك ١٦ عاما) من زوجته الأمريكية ماري ، أخبره فيها علاقته الغرامية بزميلته في الكلية. وعاتبه بقوله (لقد تركتني وأنا في الثانية من عمري ... وأن أمنيتي في الحياة أن أراك وتراني قبل أن يقضي الدهر عليّ أو عليك ... ونرغب أنا وخطيبتي (جودي) بزيارة العراق وقضاء شهر العسل حيث بغداد مسقط رأسي )... (ولم يبرح من ذاكرتي رغم صغر سني ذلك اليوم الذي تركتنا أنا وأمي ، وإنا طفل ابن حولين آنذاك أتوسل إليك أن لا ترحل عنا وكنت تؤملنا بالعودة الينا. وها أنا ابن عقدين تقريباً شاء القدر أن يحرمني طيلة هذه السنين من عطف الوالدين . وما زلت أعيش في حلاوة ومرارة تلك الذكريات السعيدة والأليمة. وقد أصبحت الآن في غمرة من اليأس والقنوط من تحقيق أمنيتي باللقاء بك بعد أن اتخذت قراري الذي أبسطه عليك). ثم أخبره بأنه تطوع في الجيش الأمريكي لحرب كوريا ، فتأثر سوسة خوفاً على ولده البكر. وبعد سنتين وصلته رسالة من ابنه يقول له فيها أنه أعيد إلى أمريكا لقضاء المدة الباقية من التطوع وهي سنتان. وأمضى الفترة المتبقية ثم تسرح من الجيش ، وأكمل دراسته ، وتزوج من خطيبته جودي ، ورزق منها بولد في ٢٣ تموز ١٩٦٨ أسماه (جيفري) ، وهو يعيش مع أمه وزوجته وولده في مزرعة العائلة التي يقوم بإدارتها.
في الطريق إلى الإسلام
يكتب سوسة: عندما كنت في الجامعة الامريكية ببيروت أخذت أطالع الكتب التي تبحث في تاريخ الأديان. وحتى بعد التحاقي بكلية الهندسة في أمريكا تفرغت صيفية كاملة ، ودخلت دورة لدراسة تاريخ الأديان وعلم اللاهوت على أشهر أستاذ في جامعة شيكاغو . وكان ذلك سنة ١٩٢٥-١٩٢٦.
ولما كانت متطلبات الدراسة تقتضي بوجوب تقديم بحث في الموضوع ، فقد اخترت موضوعاً بعنوان (الإسلام والمسيحية) . حظي هذا البحث برضا الأستاذ وعلق عليه بعبارة (بحث جميل يتسم بالروح الطيبة). وقد ناقشته كطالب يكشف عن حقيقة الإسلام من دراسة فرقانه الكريم. وقد اخترت هذا الموضوع بالذات لإفهام القارئ الأمريكي المسيحي حقيقة الإسلام وتسامحه. (١٠)
بعد تقديم هذا البحث تأكد سوسة (ان الإسلام هو الدين الحق الذي يجمع بين الديانات السماوية ، وهو مبني على المبدأ الإنساني الذي يقوم على المساواة والتسامح والفطرة فاخترته عن عقيدة وإيمان ، ولكني كتمت ذلك عن عائلتي مدة لتجنب انزال مصيبة على العائلة تكون هي الثانية بعد أن طوى الزمن ذكرى الحادثة الأولى أي اعتناق أخي الاسلام) . (١١) لم يخبر سوسة عائلته بأمر اعتناقه الإسلام إلا بعد أن أنهى دراسته وحصل على الدكتوراه والعودة إلى العراق.
عن دوافعه لاعتناق الإسلام وبداياته يقول سوسة: يرجع ميلي إلى الإسلام إلى ما قبل ثلاثة عشرة سنة حينما شرعت في مطالعة القرآن الكريم للمرة الأولى في عهد دراستي في الجامعة الأميركية البيروتية ، فولعت به ولعاً شديداً ، وانصرفت إلى تلاوته مستعيناً بالكتب المزوّدة بحواشي التفسير لفهم معناه حتى أهملتُ البعض من دروسي المدرسية الأخرى ، وكنت أطربُ لتلاوة آيات القرآن ، وكثيراً ما كنت أنزوي في مصيفي تحت ظل الأشجار وعلى سفح جبال لبنان فأمكثُ هناك ساعات طوالاً أترنم بقراءته بأعلى صوتي). (١٢)
بعد عودته من الغرب أسرّ سوسة لأحد أصدقائه برغبته باعتناق الإسلام ، كما فاتح زوجته وهي مسيحية المذهب. كان يشعر أنه عربي في نزعته ، وحبه للعربية هي غريزة في نفسه جبل عليه منذ حداثة سنه ، فأصبح حباً فطرياً طبيعياً. ويستشهد سوسة بتصريح لوزير مالية مصر مكرم عبيد أمام علماء الأزهر : أنه مسيحي ديناً ولكنه مسلم وطناً. يقول سوسة ( وبدخولي في الدين الإسلامي إنما أشعر بأني أدخل في حياة جديدة وهي حياة الجامعة الإسلامية التي تحمل علم الإخاء الإنساني فيعيش كل مسلم فيها مسلماً أخاً رائعاً في خضرة التحابب البشري السامي). (١٣)
عاد سوسة إلى بغداد وتوظف في دائرة الري ثم استقال وسافر إلى مصر حيث قضى أربعة أشهر لحضور دورة إسلامية في الجامع الأزهر، بعدها أشهر إسلامه في ٢٢ شعبان ١٣٥٥ هج المصادف ٧ تشرين الثاني ١٩٣٦ م.
شهادة الإسلام
بعد أداء الشهادتين أصدرت محكمة مصر الابتدائية الشرعية اعلاماً شرعيا يثبت اعتناقه الاسلام جاء فيها:
(( فؤاد الأول ملك مصر
محكمة مصر الابتدائية الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم
محكمة مصر الابتدائية الشرعية في يوم السبت ٢٢ شعبان ١٣٥٥ هج المصادف ٧ نوفمبر ١٩٣٦ برئاسة الأستاذ الشيخ محمد علي أبو السعود القاضي بها المحامي عليه حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ علي عبد الوهاب نائبها سماه ما يأتي: حضر الدكتور نسيم سوسة بن موسى بن إسحاق المقيم بلوكاندة (نهضة مصر الكبرى) بشارع (السلطان شعبان ) بقسم الأزبكية ، وأخبر بأنه كان يهودياً اسرائيلياً ربانياً ، وهداه الله للإسلام وشهد على نفسه بأنه اعتنق الدين الإسلامي ونطق بالشهادة قائلاً (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وأن موسى عبده ورسوله. برئت من كل دين يخالف دين الإسلام ، وقد اختار لنفسه من الأسماء (أحمد نسيم سوسة) وذلك بعد أن وردت التحريات مستوفاة من محافظة مصر بتاريخ ٥ نوفمبر ١٩٣٦ تحت ١٢٥ صدر هذا بحضور (الشاهدين) حسن عبد النبي علي المطبعجي (ساكن بشارع زين العابدين ٢٧ بقسم السيدة) وخليل محمد خليل المكوجي (ساكن بشارع الفجالة ٩ بقسم الأزبكية وهما شاهدان هذا الم....
قيد هذا ... و١٢ ... أول قسم ... في سنة ٣٦م ٩٣٧ .
توقيع (سوسة) توقيع المراجع أبو... توقيع كبير الكتبة محمد علي ))
أثناء إقامته في مصر وضع كتابه أحمد سوسة (في طريقي إلى الإسلام) الجزء الأول وطبع في مصر ، والجزء الثاني طبع في العراق، بعد عودته إلى وظيفته.
وفي مصر كتب مقالة بعنوان (القضية الصهيونية والروح العربية) نشرته (مجلة الرابطة العربية) لصاحبها أمين سعيد ، في العدد (٢٥) الصادر في ١١ تشرين الثاني ١٩٣٦.
وحول المذهب الذي اعتنقه أحمد سوسة يقول:
وأقف هنا لحظة لأثير نقطة حساسة تدور حول المذهب الذي أخذت به من مذاهب الإسلام الخمسة ، فكثيراً ما وجه إلي السؤال: إنك أعلنت عن إسلامك ولكنك لم تعلن المذهب الذي اخترته من مذاهب الإسلام ، فإلى أي مذهب انتسبت؟ وهذا السؤال الذي يؤلف أهمية كبرى في وطننا. فجوابي عن هذا: إن الإسلام واحد وان تعددت المذاهب .. فالإسلام هو الجوهر.. فلم يكن في صدر الإسلام مذاهب وفرق. إن ظروفاً سياسية أدت إلى انقسام المسلمين إلى مذاهب.. ولحسن الحظ أن هناك عاملاً قوياً يجمع بينهم جميعاً هو التمسك بالقرآن الكريم الذي لا يمكن أن يُحرّف ، ثم حب آل البيت وتكريمهم ذلك الحب الذي يعد فرضاً من مبادئ الدين الإسلامي).
ويروي الدكتور فاضل الجمالي مشاعر أحمد سوسة قبل اعتناقه الإسلام فيكتب:
(( وكان يميل إلى الثقافة الإسلامية الحقة. ولما سافر إلى أمريكا وأخذ يتقدم في الدراسة العالية بقي مولعاً بالكتب العربية والإسلامية. وقد لقيته في أمريكا مراراً ووجدته متحمساً للعرب والإسلام أكثر من السابق ، وبعد رجوعه إلى بغداد بقي الدكتور سوسة متابعاً دراسته للكتب الإسلامية ومتعمقاً في التأمل في الحياة الاجتماعية ، شرقية كانت أو غربية ، محاولاً تشخيص أمراض البشرية ووضع علاج لها. وبعد رجوعه من سفرة قصيرة له إلى أمريكا خلال سنة ١٩٣٥ وجدتُ فيه ثورة نفسية عنيفة ضد المدنية المادية المجردة من روح الإنسانية والعدل وجدتُه يائساً من المدنية الغربية ومن مستقبلها ، مقتنعاً أنها في حد ذاتها لا تؤمن السعادة للبشر. كما كان يحلل الأديان والمعتقدات البشرية واحدة واحدة بكل تجرّد نزاهة فيجد في كل كمنها نواقص – إما روحية أو عملية – إلّا الإسلام ، فقد وجدته مقتنعاً بأن الإسلام بما يحويه من مبادئ روحية ودساتير عملية هو أفضل واسطة لخلاص البشرية وسعادتها. ولم تكن هذه القناعة عاطفية لأول وهلة بل كانت قناعة متأتية عن درس وتفكير وبحث وتحليل استمر سنين طوالاً. وأذكر أنه حلَّ ضيفاً عليّ في أوائل صيف سنة ١٩٢٦ لمدة أسبوع فوجدتُه منكباً ليل نهار على دروس القرآن والقواعد الإسلامية . ولم يشغل فكره شيء سوى الإسلام والعقائد الإسلامية . فهو إذا اعتنق الإسلام والحالة هذه فإنما يعتنقه سداً لحاجة روحية شَعَرَ بها ، وإجابة لداعي العقل والمنطق لا يبتغي من وراء ذلك مرضاة الناس ، ولا يهمه سخط الكثيرين عليه من أبناء جلدته وأعمامه . وليس هذا بغريب من نسيم بعد ما عرفتُ فيه من قوة الإرادة ونزاهة الضمير وشرف النفس وحب البحث والتتبع وحرية التفكير))
(١٤)
في الوظائف الهندسية
بعد عودته من أمريكا تسنم أحمد سوسة عدة مسؤوليات وتقلد مناصب هندسية عديدة في الحكومة العراقية:
- في عام ١٩٣٠ أول تعيين له في مهندساً في دائرة الري، وخلال ١٨ عاماً عمل في عدة وظائف فنية. في دائرة الري.
- في عام ١٩٤٦ عيّن معاوناً لرئيس الهيئة الفنية التي تشكلت لدراسة مشاريع الري الكبرى في العراق.
- في عام ١٩٤٧ عيّن مديراً عاماً للمساحة ،
- في عام ١٩٥١ عندما تم تأسيس مجلس الإعمار عيّن مساعداً شخصياً في الأمور الفنية لنائب رئيس مجل الإعمار إضافة إلى وظيفته الأصلية.
- عام ١٩٥٤ عيّن مديراً عاماً في ديوان وزارة الزراعة.
- عام ١٩٥٧ أعيد مديراً عاماً للمساحة .
كما كانت لسوسة نشاطات غير وظيفية منها:
-عضوية المجمع العلمي العراقي منذ تأسيسه عام ١٩٤٦ وحتى وفاته عام ١٩٨٢
- خلال سنتي ١٩٣٩ و١٩٤٠ ترأس البعثتين اللتين أوفدتهما الحكومة العراقية إلى السعودية لدراسة مشاريع الري في (الخرج) والإشراف على تنفيذها.
- مثل الحكومة العراقية في أكثر المؤتمرات الهندسية في البلدان العربية عضواً ورئيساً.
- كان أحد مؤسسي جمعية المهندسين العراقية عام ١٩٣٨. وعمل فيها سكرتيراً لأكثر من عشر سنوات ، وبقي حتى وفاته عضواً فيها.
- عام ١٩٦٢ أصبح عضو نقابة المهندسين العراقية وعمل فيها بصفة مدير عام فيها ، ثم مستشاراً للنقابة عام ١٩٧٠ وحتى عام ١٩٧٤، حيث تفرغ للبحث والتأليف.
مؤلفات سوسة
ترك أحمد سوسة العديد من المؤلفات شملت الري والزراعة والجغرافية والتاريخ والحضارة وهي:
-(نظام الامتيازات في الدولة العثمانية) بالإنكليزية عام ١٩٣٣
-(في طريقي إلى الإسلام) بجزئين ، الأول طبع في القاهرة عام ١٩٣٦ ، الثاني طبع في النجف عام ١٩٣٨
- (الري في العراق) طبع في مطبعة التفيض الأهلية ببغداد عام ١٩٤٢
- (المصادر عن ري العراق) طبع في مطبعة الحكومة عام ١٩٤٢
- (دليل ري العراق) بالإنكليزية عام ١٩٤٤
- (وادي الفرات) بجزئين طبع في مطبعة المعارف ببغداد عام ١٩٤٥
- (الري في العراق) بالإنكليزية عام ١٩٤٥
-(سدة الهندية) بالإنكليزية ١٩٤٥
- (تطور الري في العراق) عام ١٩٤٦
- (مشروعات الري الكبرى – خزان هور السويجة) عام ١٩٤٧
- (مشروعات الري الكبرى – خزان بحيرة الشارع) عام ١٩٤٧
- (مشروعات الري الكبرى – مشروع الحبانية)
- (مأساة هندسية أو النهر المجهول) بحث في منشأ النهري الذي حفره المتوكل في سامراء، عام ١٩٤٧
- (ري سامراء في عهد الخلافة العباسية وتاريخ سامراء) بجزئين عام ١٩٤٨ و ١٩٤٩.
- (أطلس العراق الإداري) عام ١٩٥٢
- (أطلس بغداد) عام ١٩٥٢
- (أطلس العراق الحديث) عام ١٩٥٣
- (فيضانات بغداد في التاريخ) بثلاثة أجزاء عام ١٩٦٣ وعام ١٩٦٥ وعام ١٩٦٦
- (تاريخ يهود العراق)
- (العرب اليهود في التاريخ) عام ١٩٧٢
- (حضارة العرب ومراحل تطورها عبر العصور) عام ١٩٧٩
- (حضارة وادي الرافدين) عام ١٩٨٠
- (المفصل في خارطة بغداد) مع الدكتور مصطفى جواد
- الشريف الادريسي في الجغرافية العربية)
الجوائز والأوسمة
-وسام الملك عبد العزيز آل سعود لتنفيذه مشروع ري مدينة الخرج في نجد عام ١٩٣٩
- وسام الرافدين من الدرجة الثانية عن خدماته في دوائر الري والمساحة في العراق عام ١٩٥٣
- جائزة أحسن كتاب من الكويت عن كتابه (فيضانات بغداد في التاريخ) عام ١٩٦٣
- جائزة المنظمة العربية للتدريب والثقافة والعلوم عام ١٩٧٥
- وسام الكفاءة الفكرية من ملك المغرب الحسن الثاني عن كتابه (الشريف الادريسي في الجغرافية العربية) في عام ١٩٧٦
وفاته
توفي في بغداد عام ١٩٨٢ .
الهوامش
١- أحمد سوسة (حياتي في نصف قرن) ، ص ٥٢ ، الطبعة الأولى : ١٩٨٦
٢- أحمد سوسة (حياتي في نصف قرن) ، ص ٦٠
٣- ياقوت الحموي (معجم البلدان) ، مجلد ٣ ، ص ٥٣
٤- أحمد سوسة (حياتي في نصف قرن) ، ص ١١٠
٥- أحمد سوسة (حياتي في نصف قرن) ، ص ١١٦
٦- أحمد سوسة (حياتي في نصف قرن) ، ص ١١٨
٧- محمد فاضل الجمالي (الدكتور نسيم سوسة كما عرفته) ، في مقدمة أحمد سوسة (في طريقي إلى الإسلام) ، ص ٥
٨- أحمد سوسة (حياتي في نصف قرن) ، ص ١٣٦
٩- أحمد سوسة (حياتي في نصف قرن) ، ص ٢٠٤
١٠- أحمد سوسة (حياتي في نصف قرن) ، ص ٧١-٧٢
١١- أحمد سوسة (حياتي في نصف قرن) ، ص ٧٢
١٢- أحمد سوسة ( في طريقي إلى الإسلام) ، ص ٣٩
١٣- أحمد سوسة ( في طريقي إلى الإسلام) ، ص ٤١
١٤- محمد فاضل الجمالي (الدكتور نسيم سوسة كما عرفته) ، في مقدمة أحمد سوسة (في طريقي إلى الإسلام) ، ص ٥ .
أمس, 16:39 تقرير اوربي : تحركات تركية بشأن سجون داعش
أمس, 12:05 لن ننحني.. ومنا يولد الأمل
سمير السعد16-12-2024, 18:09 قامات عراقية خالدة - ٨ .. ميخائيل عواد مؤرخ الحضارة العربية والإسلامية
د. صلاح عبد الرزاق16-12-2024, 11:25 ثقافة العنصرية ضد العراقيين من أصول إيرانية افتراضية
د. علي المؤمن15-12-2024, 23:03 (وما أدراك مالعقبة) .. سوريا والدول المؤثرة والمتأثرة
عباس الجبوري