قامات عراقية خالدة – ١٤ .. عاتكة الخزرجي شاعرة التصوف في العصر الحديث
"Today News": بغداد
٣١ كانون الأول ٢٠٢٤
عاتكة الخزرجي (١٩٢٤- ١٩٩٧) أكاديمية وشاعرة تميز شعرها بالقوة والرصانة ، والتزامها بالطريقة العمودية الأصيلة ، وغلب عليه الحزن والتفجّع والألم. ونزعت إلى التصوّف فنظمت في الزهد والعشق الإلهي قصائد من عيون الشعر.
عاتكة الخزرجي شاعرة رائعة تعد من ابرز شاعرات العراق في العصر الحديث ضم شعرها بين سطوره و ابياته روح بغداد و عشقها و صوفيتها و شوقها للماضي و صبابتها للحاضر فقد نهلت من ثقافات مختلفة في دار المعلمين العالية و من خلال سفرها خارج العراق و مع ذلك فقد حصرت ادبها و شعرها في الادب العربي فقط , و كان في شعرها نلمس نزعة تقليدية لتأثرها بشعر العباس بن الاحنف و نفس المتنبي , و طابع قصصي رائع و ابرز ما يتسم به شعرها فيه نغمة ذاتية و موسيقى رائعة .
السيرة
هي الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي ولدت الشاعرة عاتكة في عام 1924م ببغداد . وهي حفيدة صوفي خزرجي ، دغدغ صوت والدها يدغدغ سمعها وهي بعد طفلة ، فقد كان منشداً شعر أبيه وساه من شعراء التصوف.
بعد ستة اشهر من ولادتها توفي والدها ( و كان متصرفا للواء الموصل لفترة ) فكفلتها امها و ربتها التربية الحسنة فأدخلتها المدرس الحيدرية للبنات الابتدائية ، ثم المتوسطة و الاعدادية في بغداد و هنا و خلال دراستها الثانوية انبجست منابع عيون الشعر في قريحتها فكانت لها قصائد جميلة في هذه الفترة.
بعد تخرجها من الثانوية درست اللغة العربية بدار المعلمين العالية ببغداد فنالت اللسانس في الآداب عام 1945م فعينت بعد تخرجها مدرسة للأدب العربي في ثانوية الأعظمية للبنات , ثم نقلت الى الارشاد في الوسائل التعليمية و الايضاح .
بدأت بنظم الشعر منذ أن كانت في العاشرة من عمرها ، ونشرت منه وهي في الرابعة عشرة في الصحف العراقية. وكتبت مسرحية (مجنون ليلى) وهي في السادسة عشرة في مرحلة الدراسة الإعدادية ، وطبعتها في القاهرة سنة ١٩٦٣ .
في عام 1950م سافرت الى خارج العراق الى فرنسا , و دخلت كلية الآداب في جامعة السوربون في باريس فنالت الدكتوراه بتفوق في الآداب عام 1955م بأطروحة عن الشاعر العباسي العباس بن الاحنف و في غربتها هذه عن بلدها و امها و حبيبتها بغداد قدمت كثيرا من قصائدها و قد اتسع مجال شعرها متسما بالواقعية .
عينت مدرّسة في قسم اللغة العربية بدار المعلمين العالية ( كلية التربية فيما بعد ) ثم استاذة للأدب العربي الحديث في كلية التربية بجامعة بغداد , و بقيت في عملها حتى احيلت على التقاعد في اواخر الثمانينات. انضمت الشاعرة عاتكة الى نادي القلم سنة 1957م توفيت ببغداد عام 1997م عن عمر يناهز الرابعة و السبعين .
سمات شعرها
نشرت الخزرجي مجموعة من أعمال الشاعر عباس بن الأحنف عام 1954، كما نشرت عملاً عن الشاعر إسماعيل صبري. وأصدرت ما يقارب 10 كتب ما بين الشعر والمسرحية والنقد والتحقيق منها دواوين شعرية (أنفاس السحر) القاهرة 1963، و(لألأء القمر) عام 1975، و(حياة العباس بن الأحنف وشعره) (بالفرنسية) وترجم إلى العربية ونشر عام 1977م في بغداد، ولها مسرحية شعرية باسم (مجنون ليلى).
تحولها نحو الشعر الصوفي
إن ديوانها الأول (أنفاس السحر) يكشف فترات التكوين الأولى ما رافق فترة التلمذة ، ومنها ما رافق فترة التغرب في أوروبا حيث نلمح فيه بداية التحرر الروحي. يقول الدكتور داود سلوم : إني أرى أن مادة هذا الشعر الوجداني الذي نسبته الشاعرة إلى مسرحية (عُليّة بنت المهدي) كان تهرباً من الاعتراف بعواطفها في الفترة الأولى.
أما في ديوانها (لألاء القمر) فتظهر فيه القديسة وبين يديها حب جديد تعترف به وتنسبه إلى نفسها لا إلى علية بنت المهدي ، وهذا الحب الصوفي خلاصة تأمل في الذات الإلهية.
تقول الباحثة فرح البيرماني: إن عاتكة على الرغم من أنها عاشت في أول شبابها في مجتمع متحرر نوعاً ما ، ثم سفرها إلى فرنسا للدراسة ، ورجوعها بعد ذلك وهي تحمل دكتوراه الدولة في الأدب العربي ، وسلوكها بعد عودتها من دراستها خارج العراق سلوكاً تحررياً وشعورياً بالكثير من السعادة في حياتها الأولى قبل زواجها الأول ، الذي لم يكتب له الاستمرار ، ثم في زواجها الثاني الذي هو الآخر لم يعّمر طويلاً نرى أن الشاعرة قد تغيرت في أفكارها وأشعارها. وظهر في المرحلة من حياتها نوع من التشاؤم في الحياة أدى بها إلى الاتجاه نحو شعر التصوف والعرفان مما سنقراً قسماً منه في هذا البحث.
يقول عنها الأديب المصري أحمد حسن الزيات: الناقد الذي لا يؤمن بصوفيتها أنها تدخل في الغزل باباً من أبواب الشعر لا مجرى من مجاري الشعور فهي تعبّر بالفن لا بالوحي وتؤثر بالصنعة لا بالطبيعة.
ويضيف الزيات: إن لقاءه بالشاعرة عاتكة الخزرجي وإصغائه إلى إنشادها لمقطعات شعرها بعث في نفسه ذكريات الأديبة مي زيادة التي اشتهرت بإلقائها العذب للشعر والنثر.
إما الدكتور داود سلوم الذي أطلق عليها القديسة وناداها به فيقول ( إن القديسة في صلواتها الشعرية لا تتكلف في اختيارها ، فهي تشعر بالقرب من تخاطب ، وتشعر أنه قريب منها . ففي شعرها تنتفي قاعدة – لكل مقام مقال – وتستحيل ألفاظها إلى ألفاظ هامسة بسيطة . ألفاظها تشبه حواراً بين اثنين في زوضة ، بعيدين عن الزحام ، وقد غابا عن الوجود حول منضدتهما أحدهما ينظر في أعماق عيني الآخر فيقول ما يشعر بما يقوله ، إنه شعر يشبه النثر ، ونثر يشبه الشعر ، إنه صلاة قديسة ، ودعوة محتاج.
وقد حصرت أدبها وشعرها في الأدب العربي فقط، لكن في شعرها نزعة تقليدية لتأثرها بالعباس بن الأحنف والمتنبي، وكان الطابع القصصي أبرز ما يتسم به شعرها.. وفيه نغمة وموسيقى رائعة. ويجد القارئ في شعرها قوة المعنى وترابط الأبيات. ونجده في قصيدتها "أمي" التي تقول فيها:
أمّا هواك فلست من أنساه يوما إذا نسي المحب هواه
أواه ! لو تدرين ما فعل الجوى بحشاشة عزت عليها الآه
يدري الورى خبري ولا من لائم فهواك ما يدعو إليه الله
كانت عاتكة بحق استاذة ماهرة يعشق سماع محاضرتها كل من يسمعها .. كانت تهتم بموسيقى الشعر و رقته و ترعى كل من تتلمس لديه موهبه في الشعر , و تشدد عليه حتى يصفو شرابه و يشتد عوده .
كان لها دورها الثقافي المميز من خلال حواراتها و ما تنشره من قصائد و كانت عاتكة عاشقة لبغداد و هي تسكن في بيت انيق تعتني به عناية فائقة و هي تعيش بين نباتاتها و ازهارها المختارة و اوراقها و كتبها و صورها التي كانت تعشقها كثيرا .. لم تستطع عاتكة فراق بغداد , و الدكتورة عاتكة كانت تلقي شعرها بنفسها في المحافل شعرا عذبا رقراقا بانغام ساحرة تأخذ بالوجدان و كانه سلاسل من الذهب تجود بها بين حين و اخر .
إن الشعور الصوفي أو ذو النزعة الصوفية بات هو المتنحى او السمة التي تميز الراقي في مخاطبتها للرمز سواء كان الغائب الحاضر من الوطن و هو الحب الاكبر و تتوسع دوائر هذا العطاء الوجداني لتشمل كل نبض القلب عند شاعرتنا الادبية و نابع من القلب و الوجدان .
و ما احلاها و هي تنشد قصيدتها ( امانة ) :
يهون عليك اليوم مثلي ولم***اكن احسب يوما انني سأهون
يلذ لكم ذلي فانكر عزتي***لديكم و يقسو قلبكم و الين
من قصائدها الصوفية:
عشقتُكَ يا ربّ عِشْقَ الذليل
لـمولى جليـل عزيـز المكــان
وكم عند بابك طال الوقـوف
وطاب لديك الهــــوى والهوان
وأنتَ جميلٌ تُحبُّ الجمـال
فأنّى تجلّيـت كـان افتــتـان…
فوجهُك قِبلتُنـا في الصــلاة
وذكرك تسبــيحنـا كلّ آن…
أحِبّكَ فوق الهوى والفتون
وما أنا إن قلتُها مُعربــه
وماذا يقول بك العاشقـون
وعن بغداد، قالت:
بغداد أن أزف الوداع وصاح بي داعي الرحيل مناديا بنواك
وشددت من فوق الحشا واستعبدت عينان لم تدر البكا لولاك
لهواك زادي بل لقاك تولهي والعيش ان أحيا على ذكـراك
لولاك يا بغداد ما اخترت النوى وتركت أمي والحمى لولاك
الغزل الصوفي في شعر عاتكة
إن من يطلع على شعر عاتكة يلمس في تركيزها على موضوعات الحب والتصوف. وهذا ما لا حظه الأديب أحمد حسن الزيات فهي ربيبة الرصافة ، ونزيلة الكرخ حيث يتعطر بأنفاس الملائكة ، وتحوم حول أرواح المتصوفين كالجنيد البغدادي والحلاج ومعروف الكرخي. حيث أن الينابيع الصافية التي ارتوى من فيضها شعر الدكتورة عاتكة والينابيع هي (الله والطبيعة والنفس). والينبوع القدسي هو أندى على كبدها ، وأروى لشعورها من الينبوع النفسي والينبوع الطبيعي ، لأنها حين تصف النفس أو تصور الطبيعة يتمثل فيها بديع السموات والأرض الذي أحسن كل شيء خلقه ، ومنح كل جميل جماله.
فهي تقول:
بالذي رقرق الصبابة في القلب وشى بالحب أثناء نفسي
والذي برّأ الحنايا وأصفاها صفاء الأنداء في ضوء شمس
أنت عندي معنىً أجدُ الله حيالي في الصبح أو حين أمسي
(شهد الله لم يغبْ عن جفوني شخصه لحظة ولم يخلُ حسي)
فهذا الحب الصوفي الإلهي خلاصة تأمل في الذات الإلهية ، ونوع من الذوبان في ذات الله ، وأن هذا الشعر وليد التأمل والنضج الفكري والتقدم في الثقافة والتأثر بالنصوص الدينية وجذور النشأة الأولى. وهنا تستخدم الشاعرة كل ما استخدم غيرها من دلائل الربوبية ، ولكن كونها امرأة تجعل من شعرها عشقاً يقوم بين إله روحاني وامرأة بشرية ذات لحم ودم.
إن هذا العشق الحاد بين الروح والمادة لم يتكرر بهذا الجمال والصفاء واللطف والظرف منذ أن غنت رابعة العدوية النغم لنفس الإله. ومن خلال شعرها نراها تسجّل اعترافاتها في أكثر من قصيدة عن مدى عشقها (للإله) وتؤكد عليه. وإذا كان هناك من يسألها ما تعشقين؟ أجابت:
أهوى الذي خلق الوجود من العدمْ
أهوى الذي سوّاك من لحم ودمْ
أهوى الذي شقَّ الضياءَ عن الظُلَمْ
قالوا تعالى من له الملكوت من برأَ النسمْ
وتجيب عمن يسألها:
قالوا: وماذا تعشقين؟ فقلت سرّ الحسن كله
قالوا: ومن ذا؟ قلت ربي بارئ الكون جمله
ونلمس عشق الشاعرة إلى كل شيء جميل خلقه الله ، وبعد ذلك تؤكد محبتها (للإله) فتقول:
أحبك .. لو صحَّ أن الهوى***تترجمه أحرفٌ أو معان
أحبك للحب لو أعربتْ***عن الحب قافية أو بيان.
دواوينها الشعرية :
(انفاس السحر) عام 1963
(لألاء القمر) عام 1975
(أفواف الزهر) عام 1975
(شعر عاتكة الخزرجي) عام 1986
و لها مسرحية شعرية بعنوان ( مجنون ليلى )
الشاعرة الحالمة
يقول الباحث دكتور سيار الجميل عن ذكرياته معها في كتابه (نسوة ورجال) "إنها الحالمة عند الغسق الرائع عندما تصفو الحياة من وعثائها.. وهي صاحبة الصوت الرخيم في غناء الشعر.. وتموسقه بهدوء ورقة".
الذكرى القديمة
يروي الدكتور سيار الجميل ذكرياته مع الخزرجي فيقول:
التقيت بها مرة واحدة في حياتي وانا على مقاعد الدراسة في واحد من مهرجانات الشعر والادب والثقافة التي كان العراقيون يعشقونها .. كنا نرصّ انفسنا رصاً في قاعة كبرى بانتظار اطلالتها .. كانت صورتها في مخيلتي انها تعشق الالوان والبهرجة والالبسة الجميلة .. كان الصمت يخيم في تلك القاعة التي امتلأت بنا نحن طلبة واساتذة في واحد من ربيع بداية عقد السبعينيات ، وقد بدأ الموسم الثقافي لجامعة الموصل ، اذ كان من تقاليده وقت ذاك دعوة كبار المثقفين والمبدعين العرب لسماع ما يقولونه لنا .. دخلت برفقة رئيس جامعتنا وكان مثقفا بارعا قبل ان يكون رئيسا قديرا ، انه الدكتور محمد صادق المشاط ( المقيم في كندا حاليا) ، وضجت القاعة بالتصفيق ، وقام كل من كان جالسا احتراما لشاعرة مبدعة ذاع اسمها في الافاق .. جلستْ والابتسامة تملأ وجهها وقد بانت الكهولة عليها ، ولكنها لم تفتر عن اهتمامها بنفسها ومكياجها وملابسها المبهرجة الملونة .. اذ كانت ترى في ذلك جمالية من نوع خاص بها كفنانة تختلف عن بقية الناس .
قدمّها لنا رئيس الجامعة بعد ان حّياها بكلمة قصيرة ذكرنا بروائعها ، ثم خطت خطواتها معتلية المسرح وبدأت بعد ان ران الصمت ثانية الا من كلماتها التي جعلتنا نغرد معها في فضاء من الموحيات الجميلة في مناخ ملائكي رائع .. تذكرت البحتري في صوره عن الطبيعة وخمائلها الجميلة ، وطرق سمعي العباس بن الاحنف التي لم يعتن به احد كعناية عاتكة بسيرة حياته وبشعره الرائع .. تذكرت جرير وانا احرك يدي مع موسيقى عاتكة بكل عذوبة الانشاد وحلاوة الكلمات وطلاوتها .. كانت محاضرتها عن العباس بن الاحنف وشعره قد جعلتنا نسبح في بحر من الرومانسية برغم العوالم الكلاسيكية الرحبة وقرأت قصائده وقصائدها بصوت لم يزل يرن في اعماقي ..ـ
معلومة تاريخية غير معروفة
كنت اسمع شعر عاتكة وهي تنشده بكل قوة واعتزاز وقد تملكت من ناصية اللغة العربية .. تستلهم من خزرجيتها اصالة التلوين وعراقة التكوين .. قلت في نفسي : حبذا لو غدت كل نسوتنا العربيات كهذه العاتكة الخزرجية العربية .. وهنا اعلن للتاريخ ولأول مرة انني وجدت في دفاتر قديمة كان قد تركها جدي الاديب المصلح علي الجميل عضو المنتدى الادبي في مكتبته معلومات تشير الى ان وهبي الامين الذي تسمت ابنته عاتكة بالخزرجي ، كان صديقا له عندما حل متصرفاً في الموصل على العهد العثماني ، وكان يتميز بآرائه الغريبة والعناد في رأيه عليها الى درجة تثير السخرية .. وكان هذا قبل ان تلد عاتكة بسنوات طوال فقد علمت ان عاتكة من مواليد 1924.
التكوين المتنوع منذ البواكير
بدأت موهبتها الشعرية الخارقة منذ مراهقتها لتنافس مجنون ليلى لشوقي الذي عشقت شعره . لقد تعلمت في العراق الذي كان على العهد الملكي يهتم بالمثقفين والمبدعين اهتماما لا يضاهى ، وذهبت الى باريس وتعلمت الفرنسية لتكمل دراستها ، وبدأت تقرأ وتطلع على الاداب العالمية وتدرك معاني الحياة الجديدة ومعترك التفكير الحديث وشغلت هناك دورا رائعا في قول الشعر والتف المثقفون العرب من حولها ، وعملت على شعر العباس بن الاحنف كثيرا وكتبت اطروحتها عنه بكل حب واعجاب ، وبقيت طوال حياتها تذكره وتغني ابيات من شعره الجميل .. ورجعت الى بغداد لتغدو واحدة من مثقفاتها اللواتي برزن بإبداعاتهن وقد شكلن ثقلا متنوعا في الساحة النسوية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين .
عاشقة بغداد
لقد تخرج على يديها العدد الكبير من المثقفين والادباء والمبدعين والمبدعات ، وكانت استاذة ماهرة يعشق سماع محاضرتها الكبار والصغار .. كانت تهتم بموسيقى الشعر ورقته وترعى كل من تتلمس لديه موهبة الشعر ، وتشدد عليه حتى يصفو شاربه . وكان لها دورها الثقافي المتميز من خلال حواراتها وما تنشره من قصائد كنا نترقبها لتغدو حديثا بيننا نحن الشباب من المثقفين في اوائل تكويننا .. كانت عاتكة عاشقة لبغداد وهي تسكن في بيت انيق تعتني به عناية فائقة مع نباتاتها وازهارها واوراقها وكتبها وصورها التي تعشقها كثيرا .. لم تستطع عاتكة فراق بغداد ، ولكنها بارحتها وهي كلمى حزينة ولم ترجع اليها لأنها كما علمت قد تعذبت وألم بها القهر والاسى ، ولا ادري اين هي الان ، اذ ادعو المثقفين العراقيين اليوم ان يهتموا بها وبكل رموز العراق التي ابدعت وانتجت روائع الاعمال.
العزلة الروحانية: الدواوين والاعمال
كانت عاتكة تحب العزلة من اجل المناجاة وتذكر بأنها عرفت الله ومن ثم عرفت نفسها من خلال وحدتها التي تصفو نفسها فيها من كل الاكدار .. وقد كان لذلك تأثيره في ينبوع صفائها بذكرها الله كثيرا في قصائدها وكأنها في محراب تصوفي لا اول له ولا اخر .. تذكر ان ربة الشعر تتنزل عليها من اعالي السماوات على كل حين حيت يخيل اليها ان ثمة انجذاب وتعلق بها وهي من اسعد الناس بذلك . اصدرت عاتكة عدة دواوين شعرية ، منها :ـ
ـ ( ديوان نوراني ) في العشق الالهي وقصائدها روحانية نورانية تقارب المائتي قصيدة . وديوان (قصائد آخر) ، وديوان (من القلب الى القلب) وفيه معان انسانية خصبة تزخر بها رقة الشاعرة وشفافيتها . ومسرحية (علية بنت المهدي) الاميرة الشاعرة والموسيقارة المغنية ..
ومن كتبها في الادب العربي : (من روائع الشعر العربي) وكتاب (من روائع الشعر الفرنسي) وكتاب (في أجواء الاثير ) وكتاب (نسيب الشريف الرضي) وغير ذلك من المحاضرات والاعمال .
نماذج ونصوص رائعة
من المعاني الزاخرة التي انشدتها عاتكة الخزرجي في شعرها الذي نال اهتماما كبيرا من لدن المهتمين والمثقفين والادباء العرب فضلا عن بعض المسؤولين والرؤساء ، قالت وهي تنشد :ـ
تمهل ـ أبيت اللعن ـ جرت على القصد فليس لمثلي أن تقابل بالصد
بلادك ـ ان ترشد ـ بلادي وانها عشيري وأحبابي وأنفس ما عندي
هواي بها ، ما حدت عن حبها وحاشا لمثلي أن تحيد عن العهد
وكيف وقد ملكتها كل مهجتي واني لأخفي في الهوى فوق ما ابدي
هواي بها ، اني نذرت جوانحي الى كل شـــبر في العـروبة ممتـد
اليكم، الى الصحراء، للرمل، للربى لموج الخليج الثر، للروح من نجد
لمكة ، للبطحاء ، للخيف من منى لسيناء ، للجولان، للقدس ، للخلد
الى كل عرقٍ في العروبــة نابضٍ وكل فؤادٍ يذكــرُ الله بالحمــد
الى تونس ، او الجزائر ، للهوى بمغربنا الاقصى القريب على البعد
يمينا لقد أحببتكـم حب زاهد وأعنف أهواء المحبيـن في الزهد
ونظمت في موضوع اسمته (أمانة ):
يهون عليك اليوم مثلي ولم أكن لأحســــب يوما أنني ســــأهون
يلـذ لكـم ذلي فانكــر عزتي لديكــم ويقســـو قلبكــم وأليــــن
فحتـام أرجو والرجاء يخونني وقلبي على العلات ليـس يخون؟
فديتك ، هل ترجى لمثلي شفاعة لديك و هل لي في هواك معيـن
وكيف اصطباري عنك والشوق عقّني وأمرك أعياني فلست أبين
وهذى النوى ترمي المرامي بيننا وتلك ســهول دوننا وحزون؟
تمنيت لو أني وأياك نلتقـي لو ان المنى مقضــية فتكــون
وان يلتقي طرفي وطرفك لحظة فترتاح نفـس أو تقرّ عيـون
والا فطيف من خيـالك طارقـي اذا جنَّ ليلٌ واســــتُثير حنيـــن
فديتك ، ذا قلبي لديك أمانة وأنت عليها ، ما حييت ، أمين
قالوا في عاتكة
قالت عنها فرح غانم البيرماني : شاعرة جمعت في شعرها بين رقة البحتري ، وغزل العباس بن الأحنف ، وتعفف الشريف الرضي واستعطافه ، وصوفية ابن الفارض وهيامه .
وقال عنها الكاتب صدام فهد الأسدي "الشعور الصوفي أو ذو النزعة الصوفية بات هو السمة التي تميز شعرها الراقي في مخاطبتها للرمز سواء كان الغائب الحاضر من الوطن، وهو الحب الأكبر وتتوسع دوائر هذا العطاء الوجداني لتشمل كل نبض القلب عند شاعرتنا نابع من القلب والوجدان. إنها المرأة المتمرسة في صنع أجيال من المبدعين".
ووصفها أحد طلبتها الدكتور نجاح كبة قائلا "أهم سماتها احترام العلم والصرامة في تقديس الدرس الأدبي. وكانت عاتكة تحب العزلة من أجل المناجاة، وتذكر بأنها عرفت الله ومن ثم عرفت نفسها عبر وحدتها التي تصفو نفسها فيها للأقدار.. وكان لذلك تأثيره في ينبوع صفائها بذكرها الله كثيرا في قصائدها، وكأنها في محراب تصوفي لا أول له ولا آخر".
عنها قال الناقد الراحل دكتور صفاء خلوصي إن "شعرها قويّ رصين التزمت فيه الطريقة العمودية الأصيلة وغلب عليه الحزن والتفجّع والألم. ونزعت إلى التصوّف، فنظمت في الزهد والعشق الإلهي قصائد من عيون الشعر".
ويقول الناقد علي الفواز "من الخطأ أن نقرأ الحاضر بعيون الماضي لأن آراء ذلك الزمن جاءت وفق نسق ثقافي كان سائدا آنذاك.. والخزرجي حافظت على القصيدة باعتبارها قصيدة خيالية، حافظت على وضوحها وتركيبتها".
ويستدرك "لذا من الظلم بحقها أن نقول اليوم ما لا يتفق وزمانها.. لأنه كان جزءاً من النسق الثقافي آنذاك. هذه القضية لم تكن مسألة فنية بحتة بل هي جزء تاريخي داخل الثقافة العراقية والعربية حين تفككت الكثير من المركزيات ونقل الثقافة من الاتحاد السوفيتي وأوروبا إلينا".
وعنها أيضا تقول الشاعرة آمنة عبد العزيز "كان صوت الخزرجي رخيما في غناء الشعر وكانت تموسقه بكل هدوء ورقة حتى تحيل المكان إلى بستان وافر الظلال تشدو به البلابل والطيور. وراحت تسمّي نفسها "ابنة الآلام والشعر والحب".
المصادر
-مير بصري ( أعلام الأدب في العراق الحديث) ، ج ٣ ، ص ٤٢٩ ، دار الحكمة ، لندن : ١٩٩٩
- فرح غانم البيرماني (الغزل الصوفي في شعر عاتكة الخزرجي) ، مجلة كلية تربية البنات ، المجلد ١٨ (١) ٢٠٠٧ .
-سيار الجميل ( قيثارة العراق.. شاعرة وقت الشفق.. حالمة عند الغسق)
فصلة من كتاب نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية لمؤلفه سيار الجميل
اعيد نشرها في جريدة المدى اليومية ، ملحق عراقيون ، بغداد ،
بتاريخ : الأربعاء ١٨ أيلول ٢٠١٣ ، http://www.almadasupplements.com/
- منار جابر حسين (الشاعرة عاتكة الخزرجي: دراسة موضوعية وفنية ) ، جامعة البصرة ، كلية التربية للعلوم الإنسانية – قسم اللغة العربية ، في ٢٨ حزيران ٢٠١٨
-قحطان جاسم جواد (في ذكرى وفاتها.. عاتكة الخزرجي قيثارة العراق وأبرز شاعراته في العصر الحديث) ، موقع الجزيرة https://www.aljazeera.net/culture/2021 ، في ١٠ تشرين الثاني ٢٠٢١
1-01-2025, 12:50 بضمنها العراق .. أكبر 10 دول عربية ديونا عام 2024
أمس, 23:42 "تعفن الدماغ" .. كلمة عام 2024 تعكس تحديات العصر الرقمي
الدكتور محمد عصمت البياتي2-01-2025, 21:26 قامات عراقية خالدة – ١٥ .. طه باقر قارئ الألواح السومرية وملحمة كلكامش
د. صلاح عبد الرزاق31-12-2024, 20:53 قامات عراقية خالدة – ١٤ .. عاتكة الخزرجي شاعرة التصوف في العصر الحديث
د. صلاح عبد الرزاق28-12-2024, 22:05 قامات عراقية خالدة - ١٣ .. الدكتور فرحان باقر عميد الطب الباطني في العراق
د. صلاح عبد الرزاق