• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

قامات عراقية خالدة – ١٥ .. طه باقر قارئ الألواح السومرية وملحمة كلكامش

قامات عراقية خالدة – ١٥ .. طه باقر قارئ الألواح السومرية وملحمة كلكامش

  • 2-01-2025, 21:26
  • مقالات
  • 250 مشاهدة
د. صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 

٢ كانون الثاني ٢٠٢٥

طه باقر ناصر (1912-1984) عالم آثار ومؤرخ ولغوي وأستاذ جامعي وكاتب. اكتشف تل حرمل الآثاري وترجم ملحمة كلكامش التي كشفت عن أدب سومري رائع وغني. وفك رموز الألواح الرياضية البابلية ، واكتشف قانون إشنونا. وكان يجيد اللغات العراقية القديمة وهي السومرية والآرامية والأكدية ، إضافة إلى العربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية.  

الأسرة والنشأة
ولد طه ابن باقر ابن ناصر ابن حسين ابن علي ابن عزام الكبير في محلة جبران ، إحدى المحلات الرئيسة الأربع  لمدينة الحلة في أسرة معروفة بالعلم والأدب والثقافة. عُرفت عائلته بآل عزام، وهي من الأسر الحليّة المشهورة التي ينتهي نسبها إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع).
لم تكتف أسرته بما كان يتعلمه في المدارس الرسمية ، فحرصت على تعليمه علوم اللغة العربية والنحو والصرف على يد والده وعمه وبعض شيوخ الحلة. فأنهى دراسة الأجرومية وقطر الندى لابن هشام وألفية ابن مالك المعروفة. وكان يعتمر العمامة السوداء وهو يدرس هذه العلوم. وهذه الدراسة مكنته كثيراً في دراسته فيما بعد وتخصصه في الآثار.
 
الدراسة
أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة في الحلة ، وكان أخوه محمد الأكبر سناً يقيم في بغداد فيرسل له المجلات الصادرة في مصر مثل مجلة (الهلال) وهو طالب في المتوسطة ، لعلمه بشغفه بالقراء والمطالعة. وأكمل الدراسة الاعدادية الفرع العلمي في الثانوية المركزية في بغداد على نفقة وزارة المعارف ، لأنه كان من الأوائل في المدرسة المتوسطة . ونظراً لنبوغه واجتهاده وتميزه اجتاز المرحلة الثانوية بتفوق كبير عام 1931- 1932 ، حيث كان من الطلاب الأربعة الأوائل على ثانويات العراق.
بعد تخرجه من الثانوية المركزية اختير كأحد طلاب البعثة لدراسة الآثار على نفقة وزارة المعارف , في المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة. وقبل سفره أرسلته الوزارة إلى مدينة صفد الفلسطينية لينال شهادة ماتريكوليشن Matriculation في اللغة الإنكليزية. ثم انقل مع طلاب البعثة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت لاجتياز مرحلة السوفومور Sophomore ,،وهي عبارة عن فترة دراسية تحضيرية.
بعد آن أنهى مرحلة الدراسة التحضيرية غادر بيروت إلى أمريكا مع زميله فؤاد سفر لدراسة مادة الآثار واللغات القديمة في المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو. درس فيها علم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) ، وعلم الآثار وطرق التنقيب والتاريخ القديم ، واللغات التي كتبت بالخط المسماري مثل السومرية والأكدية والبابلية والآشورية وكذلك العبرية. وكان له إلمام كاف باللغتين الألمانية والفرنسية.
وخلال وجوده في أمريكا ، مارس طه باقر أعمال الحفر والتنقيب ، حيث ساهم في تنقيب إحدى المستوطنات القديمة في الولايات المتحدة برفقة طلاب قسم الأنثروبولوجيا.
بعد مضي أربع سنوات وإكمال دراسته حصل خلالها على البكالوريوس والماجستير عاد طه باقر إلى العراق.

استقبال حافل الحلة
في عام 1938 عاد طه باقر إلى بلدته الحلة وتم استقباله بشكل لا نظير له. إذ خرجت خمسون سيارة تكمل المستقبلين ، وهي تمثل 70% من السيارات الموجودة في الحلة آنذاك. وأقيم له حفل تكريمي في نادي موظفي الحلة ، حضره الأصدقاء والأقرباء والمحبون والمعجبون للتهنئة والتحية ولقاء ابن مدينتهم الذي عاد من أمريكا وتعلم وحاز الشهادات العليا.
بعد ذلك أقام له صديقه الحميم السيد رضا حفلة أخرى امتدت لعدة أيام في داره ، حضرها معظم أبناء الحلة.

المناصب والوظائف
بعد عودته بفترة قصيرة صدر أمر تعيينه مع زميله فؤاد سليمان اللوس سفر (1911- 1978) بدرجة خبير فني في مديرية الآثار القديمة العامة و التي كان مديرها العام ساطع الحصري و وهو سوري الأصل .
وفي حركة مايس 1941 التي قادها رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة التي انتهت بهروب الكيلاني وإعدام العقداء ونشوب الحرب البريطانية العراقية ، التحق طه باقر بالخدمة العسكرية ، ومنح رتبة ضابط احتياط في الجيش العراقي , وكان ضمن القوات العراقية في منطقة التاجي.
عاد طه إلى عمله في مديرية الآثار استمر بوظيفته حتى عام 1941، حيث أصبح مدير عام المتحف العراقي. وهو أول عراقي درس الآثار واللغات القديمة يتقلد منصب أمين المتحف العراقي. وبقي في منصبه حتى عام 1951 حيث أصبح معاون مدير الآثار العام , واستمر فيه حتى عام 1958 عندما تم تعيينه مفتش الآثار العام , ثم بعد عدة أشهر حتى صار مديراً للآثار العام. واستمر بهذا المنصب حتى عام 1963.
في عهد عبد الكريم قاسم عرض عليهِ الزعيم منصب وزارة التربية، وكان الزعيم عبد الكريم قاسم قد أوكل إدارة جامعة بغداد إلى عالم الفيزياء العراقي الصابئي الدكتور عبد الجبار عبد الله، وقد رفض طه باقر طلب الزعيم قاسم بإجابته: (الآثار أفضل من الوزارة) ، فعيّنه الزعيم قاسم مديراً عاماً للآثار حتى عام 1963م.
 وبعد انقلاب 8 شباط 1963 بزعامة عبد السلام عارف وحزب البعث ، سجنته سلطة الانقلاب الأولى بتهمة (الشغف بعبد الكريم قاسم) وعزلته من وظيفته مع نخبة من علماء الآثار. ولقد تحدى طه سلطة الانقلابيين ولم ينكر محبته وشغفه بالزعيم قاسم أمام هيئات التحقيق. وكان قد قدم بعد ذلك طلباً لتأسيس حزب باسم الحزب الجمهوري مع الشاعر محمد مهدي الجواهري وعبد الحليم كاشف الغطاء. ولم يكن باقر شيوعيا رغم تأثّره بأفكار العدالة الاجتماعية التي دعت إليها الأحزاب اليسارية.
أمام التهميش الذي تعرض له باقر بعد الخروج من السجن، اضطر إلى مغادرة العراق. فسافر إلى ليبيا عام 1965 وأسس مركز الأبحاث الآثارية فيها، وعمل مستشاراً في مصلحة الآثار الليبية، فضلاً عن توليه منصب أستاذ في الجامعة الليبية.

عبقرية طه باقر
يُعد طه باقر من أشهر العاملين في مجال ترميم الذاكرة العراقية وصلتها بتاريخها الحيوي المتحرك الحي والمنتج. عمل طه باقر في مجال التاريخ القديم وعلى الأخص تاريخ العراق، وشغله إعادة صورة الجماعة العراقية المنتجة والجدية في تفاعلها القديم مع بيئتها الطبيعية والاجتماعية، لقد كانت الدولة العراقية الحديثة والتي عاش بداياتها وفتوتها مدعاة للنظر في تاريخ هذا الإنسان العراقي وكيف أبدع في أشهر حضارات العالم القديم قبل وقوعه في براثن التخلف والانحطاط. ربط طه باقر بين التاريخ وعلم الآثار ربطاً وظيفياً. فالآثار لدى باقر ليست حجراً أصم يؤرخ لأزمان جامدة ومعزولة. إنه تعبير متحرك عن واقع بحاجة دائما إلى إغناء مضامينه الإنسانية بالكشف والتنقيب عن إمكانات الإنسان العراقي وقدراته الابداعية.
ومثلما أسس الفرنسيون علوم التاريخ والآثار في مصر كذلك فعل الإنجليز والفرنسيون أيضا في مجال الآثار العراقية. ولا بد من ذكر حقيقة للتاريخ وهي التنويه بجهود العاملين بالآثار من الأجانب الذين حفزوا ونبهوا بلداننا على الاهتمام بتاريخها القديم. إلا أن ذلك لا ينفي جملة من السلبيات التي فطن إليها طه باقر في عمل هؤلاء. فبالإضافة إلى أعمال القرصنة والتهريب التي قام بها بعض من العاملين في هذا المجال فإن نظرتهم إلى التأريخ العراقي وقراءتهم لآثاره لا تلائم المعنى الذي يبغيه المؤسسون العراقيون للتواصل مع حضاراتهم الأولى. وفي أول انطلاقته تحدث طه باقر عن (نحن العراقيين علينا أن نكتشف تاريخنا بجهدنا ودماغنا والمنطق الذي نحمله).

أمانة بغداد وهدم الآثار
يتحدث زميله محمد علي مصطفى (1911-1997) المنقب الأول في العراق عن طه باقر بأنه أخبره يوماً (أنه ارتكب خطأ كبيراً في حياته يتمثل في قبوله المناصب الإدارية. ويعود السبب في أن المسؤولين الكبار في الحكومة لا يهتمون بموضوع الآثار. وكان يرى أنهم يشكلون حجر عثرة في طريقه , وهو يرسم الخطط لإقامة أسس علم الآثار في العراق , وتوسيع ثقافة الآثار واحترامها بين المواطنين و خاصة بين المسؤولين الكبار).
وكان طه باقر يتألم من أمر تهديم المدرسة المرجانية الملحقة بجامع مرجان التي عمرها ثمانمائة عام , الذي أصدره أمين العاصمة بحجة أنها تعترض مسار شارع الرشيد , ولم يأبه مطلقاً لاحتجاج مديرية الآثار.
واعترض طه باقر على قرار مجلس الوزراء عندما قرر رفع الباب الشرقي الكائن في الكرادة , لكن لا أحد استمع له , على الرغم من محاولاته لإقناع أعضاء المجلس بضرورة التريث وعدم تهديم الباب العباسي القديم الذي لا مثيل له.
له موقف مع نوري السعيد اذ طلب الى الأستاذ طه باقر فتح المتحف العراقي في يوم عطلة لقائد بريطاني زار العراق فرفض قائلاً: هل مدير المتحف البريطاني مستعد لفتح المتحف لأكبر شخصية عراقية يوم عطلة؟

نشاطاته الأخرى
إضافة إلى مناصبه ووظائفه كان طه باقر عضواً في هيئة تحرير مجلة (سومر) التي تهتم بشؤون الآثار والحضارات القديمة , وتأسست عام 1945 في عهد ناجي الأصيل مدير الآثار السابق. وفي عام 1958 عندما أصبح طه مدير عام الآثار ، أصبح رئيس تحرير المجلة واستمر حتى عام 1963.
 أما عن نشاطاته في مجال التدريس فكثيرة ، كانت بدايتها في عام 1941 عندما قام بتدريس مادة التاريخ القديم والحضارات في كلية دار المعلمين العالية سابقاً (كلية التربية حالياً) ، واستمر فيها حتى عام 1960. وكان هدفه ليس التدريس بل لبث الوعي الآثاري في العراق.
كما تطوع للعمل في برامج إذاعية لبث الثقافة الآثارية بين الجماهير.
قام طه باقر بتأسيس قسم الآثار في كلية الآداب ، ومارس  تدريس مادة التاريخ القديم واللغات القديمة في القسم نفسه ، واستمر في التدريس فيه منذ تأسيسه عام 1951 وحتى عام 1963.

كان طه باقر بإجماع الطلاب والأساتذة صاحب علم غزير وعميق وموسوعي قل نظيره. وطان يدرِس اللغة السومرية وهي أصعب مادة في قسم الآثار.
في عام 1951 حصل طه باقر على درجة أستاذ في كلية الآداب ، واستكر بهذه الدرجة حتى عام 1959 حيث حصل على درجة الأستاذية (البروفيسور). كما أصبح عضواً في المجلس التأسيسي لجامعة بغداد خلال عامي 1957-1958 ، وعضواً في مجلس جامعة بغداد ممثلاً عن وزارة المعارف للفترة 1960- 1963 . كما شغل خلال تلك الفترة منصب نائب رئيس جامعة بغداد.
إنجازات آثارية
منذ عام 1941 ساهم طه باقر بالأعمال الفنية الخاصة بإعادة عرض مقتنيات المتحف العراقي . وقد استخدم في ذلك لأول مرة أسلوب التسلسل التاريخي في عرض المواد الاثرية. إذ كان يجيد تصنيف الآثار حسب تسلسلها الزمني أثناء دراسته في أمريكا.
اكتشف طه باقر بعض المواقع الأثرية القديمة في بغداد، ومنها موقع تل حرمل وهي التسمية الحديثة لهُ إذ كان يسمى (شادوبوم)، وكان في الماضي مركزا إداريا تابعا إلى مملكة اشنونا والتي كان مركزها تل أسمر الواقع شرق بغداد في محافظة ديالى، ويقع قريبا منها تل محمد الذي كان يسمى بنايا، وكلا التلّين الأثريين يقعان في منطقة بغداد الجديدة. وعثر على رقم طينية منها لوحين طينيين في حفريات آثار تل حرمل وسجلت فيهما مواد وأحكام قانونية، وتحتوي هذه المواد القانونية التي عثر عليها على أحكام مختلفة في السرقات والاعتداء والديون والأحوال الشخصية والأجور والأسعار والبيع والشراء إلى غير ذلك من الشؤون القانونية، ومما ذكره طه باقر في بحث لهُ في قانون أشنونا المكشوف عنه في تل حرمل: ((أن قانون مملكة أشنونا المعثور عليه في تل حرمل أقدم القوانين المدونة والتي جاءَتنا من العراق القديم، وكان قانون حمورابي إلى زمن قريب أقدم شريعة في تاريخ البشر، ثم بدل هذا الرأي بعد استكشاف أجزاء من قانون سومري يعود إلى الملك لبث عشتار. وبما أن القانون المستكشف في تل حرمل أقدم زمناً من حمورابي بنحو من قرنين فيكون بذلك أقدم شريعة كشف عنها البحث حتى الآن)).

وأشرف طه باقر على عدة تحريات وتنقيبات آثارية ، وترأس الهيئات الآثارية التي نقبت في مدينة واسط ، وفي موقع تل الدير (قرب اليوسفية) عام 1941 ، وفي موقع عكركوف (الاسم القديم دور كوري كالزو) في أبي غريب للفترة 1941-1947، وفي موقع تل حرمل شرق بغداد (منطقة بغداد الجديدة) للفترة 1945-1961 ، وفي موقع تل الضباعي القريب من تل حرمل عام 1960.
وأشرف على التحريات الأثرية الواسعة في منطقتي دوكان للفترة 1956- 1959 ومنطقة شهرزور لإنقاذ الآثار وتسجيل الأدوار التاريخية فيها على اثر مشروعي سدًي دوكان ودربنديخان.
ولم يقتصر عمله الآثاري على العراق بل امتد خارجه . فبعد إحالته على التقاعد عام 1963 تلقى عروضاً من السعودية والأردن وليبيا للعمل فيها ، إلا أنه آثر العمل في ليبيا لعلمه المسبق بأن مصلحة الآثار في ليبيا بحاجة ماسة إلى من يعينها في مهمتها لأنها تفتقر تماماً إلى الاختصاصيين بالآثار وبالتاريخ. لذلك عُين عام 1965 بمنصب خبير فني في مصلحة الآثار الليبية. وفي عام 1966 مُنح منصب مستشار في المصلحة ذاتها ، واستمر بهذا المنصب حتى عام 1970. وخلال إشرافه على أعمال التنقيب والصيانة الأثرية في ليبيا ، ترأس هيئة تحرير المجلة الآثارية عنوانها (ليبيا القديمة) للسنوات 1965 – 1970. كما نشر عدة بحوث ومقالات باللغتين العربية والإنكليزية.
في عام 1970 طُلب إليه رسمياً العودة للعراق ، بعد أن أمضى مدة خمس سنوات في ليبيا ، قام مجلس قيادة الثورة قد عرض عليه رئاسة مديرية الآثار العامة ، التي كان يرأسها الدكتور عيسى سلمان الذي كان أحد طلاب طه باقر. لذلك عزَ عليه أن يحل محل تلميذه ، وفضَل التعيين كأستاذ في قسم الآثار في كلية الآداب من جامعة بغداد.
في عام 1971 تم تعيينه عضواً عاملاً في المجمع العلمي العراقي. كما أشرف على عدة رسائل ماجستير من عام 1972. وفي عام 1977 عُيِن عضواً في إدارة مركز إحياء التراث العلمي العربي العائد إلى جامعة بغداد.
وكان طه باقر قد مثَل العراق في مؤتمرات عربية ، في الجامعة العربية عام 1947 ، وفي المغرب عام 1957 ، وفي القاهرة عام 1968 ، وفي بنغازي عام 1976-1968.
وحظي طه باقر بالتكريم عام 1978 بمناسبة انعقاد الندوة العلمية العالمية الثانية عن بابل وآشور وحمرين ، والتي حضرها علماء آثار ومسماريات من مختلف الأقطار الأجنبية والعربية. إذ مُنح وسام التكريم الذي صنعه النحات محمد غني حكمت (1929- 2011) ، حيث كتبت على وجهه جملتان باللغة البابلية والكتابة المسمارية:
مجموعة تراتيل كلكامش
الذي رأى كل شيء  
 كما وصدرت عام 1978 ميدالية خاصة بالمناسبة ، تحمل في أحد وجهيها وجه جانبي لطه باقر مع كتابة سومرية ، وعلى الوجه الآخر مكتوب (تكريم طه باقر) بالعربية والإنكليزية.
 
مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة
يعد كتاب (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة) من أبرز ما ألًفه طه باقر. تعود بداية تأليف هذا الكتاب إلى عام 1941 ، أي إلى الفترة التي بدأ بها بتدريس مادة التاريخ القديم في دار المعلمين العالية. وكانت هذه المادة تُدَرس لأول مرة في العراق. وتدريسها يتطلب جمعها وترتيبها حسب التسلسل التاريخي ، إضافة إلى عرضها بالشكل الذي يستطيع فيه الطلاب استيعابها وفهمها. وكان يطبع المحاضرات على وريقات ثم يوزعها على طلابه.
وخلال عشر سنوات تجمعت لديه عدد كبير من هذه الأوراق لتشكل مادة تاريخية كافية تكفي لتكون كتاباً مستقلاً. فقام بطبعه عام 1951 بعنوان (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة). يتألف الكتاب من جزئين: الأول ، خاص بتاريخ وحضارات وادي الرافدين ، منذ أقدم العصور الحجرية وحتى نهاية الدولة البابلية الحديثة (عام 539 ق. م.). آما الجزء الثاني فخاص بتاريخ وحضارة بلاد وادي النيل وبلاد الشام وجزيرة العرب.
ويعد هذا الكتاب فريداً في نوعه ومصادره واتساعه ، ولم يظهر كتاب آخر بمستواه العلمي ودقته. فهو يقدم تاريخاً متسلسلاً عن منطقة الشرق الأوسط في كتاب واحد. وعرض طه باقر تاريخ المنطقة العربية منذ أقدم عصورها وحتى فترة ظهور الإسلام وانتشاره خلال فترة الخلفاء الراشدين.
أعيد طبع الكتاب عدة مرات منذ ظهور الطبعة الأولى. فقد صدر الجزء الأول من الطبعة الثانية عام 1955 ، وظهر الجزء الثاني عام 1956. وفي عام 1973 أعيد طباعته للمرة الثالثة.
يصف طه باقر في مقدمة كتابه فيقول:
تجمعت لدي مادة غزيرة حتّمت عليّ آن أعيد كتابة الكتاب في كتاب جديد ضمنته كل ما استجد من دراسات وبحوث ، وبدّلت في أسلوب عرض مادته. فأولاً إن سعة المادة الجديدة التي تجمعت لديّ عن حضارة وادي الرافدين ، استلزمت توزيع هذه المادة في جزأين ، خصصت الأول منهما ، لتاريخ العراق القديم منذ أبعد عصور ما قبل التاريخ إلى نهاية العصر الساساني أي بداية الفتح العربي الإسلامي ، موجزاً فيه عهود هذا التاريخ المتطاول في القدم ، وخلاصة الأحداث السياسية والحضارية ، والسلالات والدول التي حكمت فيها ، وما صاحب ذلك من تغييرات اقتصادية واجتماعية وفنية ، بإيجاز الخصائص الحضارية والثقافية لكل دور من أدواره التاريخية.
أما القسم الثاني فقد خصصته للأوجه والمقومات الحضارية المختلفة من ديانة ومعتقدات ، وشرائع ، وآداب ومعارف وعلوم ، ونظم ومؤسسات اجتماعية وسياسية واقتصادية.
وإذا كان كتابي هذا قد وضع بالدرجة الأولى ليَفي بحاجة طلاب التاريخ القديم وفرع الآثار والحضارات القديمة في كليات الجامعات العراقية ، وبحاجة غير المختصين في الموضوع أيضاً . فإنني على يقين من أنه سيحقق حاجة المختصين وعامة المثقفين ويغنيهم عن مراجعة المئات من البحوث والدراسات المختلفة المتفرقة في عشرات المجلات الآثارية في اللغات الأوروبية.

ملحمة كلكامش
ملحمة گلگامش (أو ملحمة جلجامش ) هي ملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري على 11 لوحا طينيا اكتشفت لأول مرة عام 1853 م في موقع أثري اكتشف بالصدفة وعرف فيما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى في العراق ويحتفظ بالألواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة في المتحف البريطاني. الألواح مكتوبة باللغة الأكادية ويحمل في نهايته توقيعا لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني الذي يتصور البعض أنه كاتب الملحمة التي يعتبرها البعض أقدم قصة كتبها الإنسان.

بداية الملحمة
تبدأ الملحمة بالحديث عن گلگامش ملك أوروك الذي كانت والدته إلاهة خالدة ووالده بشراً فانياً. ولهذا قيل بان ثلثاه إله و الثلث الباقي بشر. وبسبب الجزء الفاني منه يبدأ بادراك حقيقة أنه لن يكون خالدا. تجعل الملحمة گلگامش ملكاَ محبوباً من قبل سكان أوروك حيث تنسب له ممارسات سيئة منها ممارسة الجنس مع كل عروس جديدة وأيضاً تسخير الناس في بناء سور ضخم حول مدينة أوروك العظيمة.

ابتهل سكان أوروك للآلهة بأن تجد لهم مخرجاً من ظلم گلگامش فاستجابت الآلهة ، وقامت إحدى الإلهات واسمها أرورو بخلق رجل وحشي ، كان الشعر الكثيف يغطي جسده ، ويعيش في البرية يأكل الأعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات ، أي أنه كان على النقيض تماما من شخصية گلگامش.  ويرى بعض الخبراء أن هناك رموزاً تشير إلى الصراع بين المدنية وحياة المدن الذي بدأ السومريون بالتعود عليه تدريجياً بعد أن غادروا حياة البساطة والزراعة المتمثلة في شخصية أنكيدو.

كان أنكيدو يخلّص الحيوانات من أفخاخ الصيادين الذين كانوا يقتاتون على الصيد ، فقام الصيادون برفع شكواهم إلى الملك گلگامش الذي أمر إحدى خادمات المعبد بالذهاب ومحاولة إغراء أنكيدو ليمارس الجنس معها. وبهذه الطريقة سوف تبتعد الحيوانات عن مصاحبة أنكيدو ويصبح أنكيدو مروَّضاً ومدنياً. حالف النجاح خطة الملك گلگامش ، وبدأت خادمة المعبد و اسمها شامات ، وتعمل خادمة في معبد الآلهة عشتار بتعليم أنكيدو الحياة المدنية من كيفية الأكل واللبس وشرب النبيذ ، ثم تبدأ بأخبار أنكيدو عن قوة جلجامش وكيف أنه يدخل بالعرائس قبل أن يدخل بهن أزواجهن . وعندما يسمع أنكيدو هذا الشيء يستشيط غضباً ويقرر أن يتحدى گلگامش ويدعوه للمصارعة كي يجبره على ترك تلك العادة. يتصارع الاثنان بشراسة حيث أن الاثنان متقاربان في القوة ، ولكن في النهاية تكون الغلبة لگلگامش ويعترف أنكيدو بقوة گلگامش وبعد هذه الحادثة يصبح الاثنان صديقين حميمين.

يحاول گلگامش دائما القيام بأعمال عظيمة لكي يبقى اسمه خالداً فيقرر في يوم من الأيام الذهاب إلى غابة من أشجار الأرز ويقطع جميع أشجارها.  ولكي يحقق هذا يجب عليه القضاء على حارس الغابة الذي هو مخلوق ضخم وقبيح واسمه خومبابا. ومن الجدير بالذكر أن غابة الأرز كان المكان الذي تعيش فيه الآلهة . ويعتقد أن المكان المقصود يقع الآن في منطقة بين إيران والبحرين.

الصراع في غابة الأرز
يبدأ گلگامش وأنكيدو رحلتهما نحو غابات أشجار الأرز ، بعد حصولهما على مباركة شمش إله الشمس الذي كان أيضا إله الحكمة عند البابليين والسومريين. وهو نفس الإله الذي نشاهده في مسلة حمورابي المشهورة وهو يناول الشرائع إلى الملك حمورابي.  وأثناء الرحلة يرى گلگامش سلسلة من الكوابيس والأحلام ، لكن أنكيدو ، الذي كان في قرارة نفسه متخوفا من فكرة قتل حارس الغابة ، يطمأن گلگامش بصورة مستمرة على أن أحلامه تحمل معاني النصر والغلبة.

عند وصولهما الغابة يبدآن بقطع أشجارها فيقترب منهما حارس الغابة خومبابا ويبدأ قتال عنيف ، ولكن الغلبة تكون لگلگامش وأنكيدو حيث يقع خومبابا على الأرض ، ويبدأ بالتوسل منهما كي لا يقتلاه ، ولكن توسله لم يكن مجديا حيث أجهز الإثنان على خومبابا وأردياه قتيلا. أثار قتل حارس الغابة غضب آلهة الماء أنليل ، حيث كانت أنليل هي الآلهة التي أناطت مسؤولية حراسة الغابة بخومبابا.

بعد مصرع حارس الغابة الذي كان يعتبر وحشاً مخيفاً ، يبدأ اسم گلگامش بالانتشار وتطبق شهرته الآفاق ، فتحاول الآلهة عشتار التقرب منه بغرض الزواج من جلجامش ، ولكن گلگامش يرفض العرض فتشعر عشتار بالإهانة وتغضب غضباً شديداً فتطلب من والدها آنو، إله السماء، أن ينتقم لكبريائها ، فيقوم آنو بإرسال ثور مقدس من السماء ، لكن أنكيدو يتمكن من الامساك بقرن الثور ويقوم گلگامش بالإجهاز عليه وقتله.

بعد مقتل الثور المقدس يعقد الآلهة اجتماعاً للنظر في كيفية معاقبة جلجامش وأنكيدو لقتلهما مخلوقاً مقدساً ، فيقرر الآلهة قتل أنكيدو لأنه كان من البشر. أما گلگامش فكان يسري في عروقه دم الآلهة من جانب والدته التي كانت آلهة ، فيبدأ المرض المنزل من الآلهة بإصابة أنكيدو الصديق الحميم لجلجامش فيموت بعد فترة.

رحلة گلگامش في بحثه عن الخلود
بعد موت أنكيدو يصاب گلگامش بحزن شديد على صديقه الحميم حيث لا يريد أن يصدّق حقيقة موته ، فيرفض أن يقوم أحد بدفن الجثة لمدة أسبوع ، إلى أن بدأت الديدان تخرج من جثة أنكيدو فيقوم گلگامش بدفن أنكيدو بنفسه وينطلق شارداً في البرية خارج أوروك ، وقد تخلى عن ثيابه الفاخرة وارتدى جلود الحيوانات. بالإضافة إلى حزن گلگامش على موت صديقه الحميم أنكيدو كان جلجامش في قرارة نفسه خائفاً من حقيقة أنه لابد من أن يموت يوماً لأنه بشر ، والبشر فانٍ ولا خلود إلا للآلهة. بدأ جلجامش في رحلته للبحث عن الخلود والحياة الأبدية.
ولكي يجد جلجامش سر الخلود عليه أن يجد الانسان الوحيد الذي وصل إلى تحقيق الخلود ، وكان اسمه أوتنابشتم والذي يعتبره البعض مشابها جدا أن لم يكن مطابقاً لشخصية نوح في الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام. وأثناء بحث گلگامش عن أوتنابشتم يلتقي بإحدى الآلهات واسمها سيدوري التي كانت آلهة النبيذ ، وتقوم سيدوري بتقديم مجموعة من النصائح إلى گلگامش والتي تتلخص بأن يستمتع جلجامش بما تبقى له من الحياة بدل أن يقضيها في البحث عن الخلود. وأن عليه أن يشبع بطنه بأحسن المأكولات ، ويلبس أحسن الثياب ، ويحاول أن يكون سعيداً بما يملك ، لكن گلگامش كان مصراً على سعيه في الوصول إلى أوتنابشتم لمعرفة سر الخلود. فتقوم سيدوري بإرسال گلگامش إلى المعداوي أورشنبي، ليساعده في عبور بحر الأموات ليصل إلى أوتنابشتم الإنسان الوحيد الذي استطاع بلوغ الخلود.

عندما يجد گلگامش أوتنابشتم يبدأ الأخير بسرد قصة الطوفان العظيم الذي حدث بأمر الآلهة. وقصة الطوفان هنا شبيهة جدا بقصة طوفان نوح, وقد نجى من الطوفان أوتنابشتم وزوجته فقط ، وقررت الآلهة منحهم الخلود. بعد أن لاحظ أوتنابشتم إصرار گلگامش في سعيه نحو الخلود قام بعرض فرصة على گلگامش ليصبح خالداً ، إذا تمكن گلگامش من البقاء متيقظا دون أن يغلبه النوم لمدة 6 أيام و 9 ليالي فإنه سيصل إلى الحياة الأبدية ، ولكن جلجامش يفشل في هذا الاختبار ، إلا أنه ظل يلّح على أوتنابشتم وزوجته في إيجاد طريقة أخرى له كي يحصل على الخلود. تشعر زوجة أوتنابشتم بالشفقة على گلگامش فتدله على عشب سحري تحت البحر بإمكانه إرجاع الشباب إلى گلگامش. بعد أن فشل مسعاه في الخلود ، يغوص گلگامش في أعماق البحر ويتمكن من اقتلاع العشب السحري.

عودة گلگامش إلى أوروك
بعد حصول گلگامش على العشب السحري الذي يعيد نضارة الشباب ، يقرر أن يأخذه إلى أوروك ليجربه هناك على رجل طاعن في السن قبل أن يقوم هو بتناوله ، ولكن في طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر ، سرقت العشب إحدى الأفاعي وتناولته. فرجع گلگامش إلى أوروك خالي اليدين. وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أوروك فيفكر في قرارة نفسه أن عملاً ضخماً كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلد اسمه. في النهاية تتحدث الملحمة عن موت گلگامش وحزن أوروك على وفاته.

ملحمة كلكامش في الأدب القديم
تُعد ملحمة كلكامش من الأدب السومري القديم فقد دونت قبل (4000) عام ، وما تزال من الآداب العالمية الشهيرة الخالدة. وقد أطلق طه باقر عليها اسم (أوديسة العراق القديم) أسوة بملحمة الألياذة اليونانية القديمة.
ويرى طه باقر أن ملحمة كلكامش حظيت بانتشار وشهرة في العالم القديم ، حيث لم يقتصر تداولها على سكان القسم الجنوبي والوسطي من العراق ، وهو القسم الذي عُرف باسم بلاد سومر وأكد ، بل تسربت أيضاً إلى القسم الشمالي أي بلاد آشور. فقد وجدت نسخ كثيرة لها في حواضر العراق القديم من عهد ازدهار الحضارة البابلية في العهد البابلي القديم (الألف الثاني ق. م.).
أما بالنسبة لبلاد آشور ، فإن آخر نسخة من الملحمة قد وجدت نصوصها في خزانة مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال الشهيرة. كما وجدت ترجمات لها باللغتين الحثية والحورية. وتم اكتشاف نسخة من بعض فصولها في إحدى مدن فلسطين القديم وهي (مجدو) التي وردت في التوراة. ويرجع زمن النسخة الصغيرة إلى حدود القرن الرابع عشر قبل الميلاد. كما وجد المنقبون في موقع أثري (سلطان تبة) قرب حران في جنوبي تركيا.
إن انتشار ملحمة كلكامش في مراكز الحضارات القديمة قد ترك تأثيراً في آداب الأمم القديمة وقصصها وملاحمها بطرق غير مباشرة ، أي التأثر بسردية الملحمة وأحداثها. ولعل أهم تأثير واضح هي حادثة الطوفان الشهيرة التي شغلت من ملحمة كلكامش فصلاً مهماً بارزاً. وسيقف القارئ على مدى الشبه الكبير بين روايات الطوفان لدى الأمم القديمة ، وأطولها وأسهبها ما ورد في التوراة ، وبين رواية الملحمة لهذا الحدث الذي أثّر في عقول أبناء الحضارات القديمة فاقتبست أخباره ورواياته من أدب حضارة وادي الرافدين.
ويرى طه باقر (أن الطوفان في الأصل كان حادثة تاريخية واقعية جرت في طيات الماضي البعيد ، وكانت من جسامة التأثير وفداحته أنها تركت أثراً بليغاً في عقول الأجيال المختلفة ، فتناقلتها بالروايات الشفوية ، فشوّهت تفاصيلها التاريخية. وبالنظر لأوجه الشبه الكثيرة بين رواية الطوفان في ملحمة كلكامش وبين رواية التوراة ، فإننا معتقد أن كلتا الروايتين ترجع إلى حادثة واحدة ، وأن هذه الحادثة وقعت في العراق القديم ، ولا سيما في القسم الجنوبي منه ، أي في السهل الرسوبي ، وأن زمنها يرجع إلى نهاية العهد المسمى في تاريخ حضارة وادي الرافدين باسم جمدة نصر (في حدود 3200 ق. م.) وإلى أوائل العصر الحضاري المسمى بعصر فجر السلالات (في حدود بداية الألف الثالث ق. م.). كما يرجح ذلك بدلالة التنقيبات المتأخرة ، حيث عُثر على بقايا ترسبات طوفان تفصل بين عهدي جمدة نصر وعصر فجر السلالات في جملة مدن قديمة مثل كيش (تل الاحيمر الآن) والوركاء وشروباك (فارة الآن) ).
ويضيف باقر (إن مدينة شروباك ، كما جاء في ملحمة كلكامش ، هي موطن نوح الطوفان البابلي المعروف باسم (أوتو-نابشتم ). كما ذكرت في إثبات الملوك السومرية من المدن الثماني التي حكمت فيها سلالات قبل الطوفان. فقد قسّمت تلك الاثبات الشهيرة السلالات الحاكمة في العراق إلى قسمين: سلالات حكمت قبل الطوفان ، وسلالات حكمت بعد الطوفان. أما سبب الطوفان فلا يعسر علينا ادراكه ، ولاسيما في أرض مثل السهل الرسوبي من العراق الذي كان معرضاً في جميع عهوده إلى خط الفيضانات. والبطل كلكامش نفسه انقل اسمه إلى معظم آداب الأمم القديمة أو أن أعماله نسبت إلى أبطال الأمم الأخرى مثل هرقل والاسكندر ذي القرنين والبطل أوديسوس في الأوديسة).
إن كلكامش شخصية تاريخية وردت في تاريخ أدب وادي الرافدين القديم من أبطال القصص والملاحم. وقد أصبحت أعماله ومغامراته مادة لملاحم وقصص سومرية وبابلية عديدة. أما الحقائق التاريخية عنه فهي قليلة. فقد ورد اسمه في اثبات الملوك السومريين من سلالة الوركاء الأولى ، وهي السلالة الثانية  التي حكمت بعد حاثة الطوفان مباشرة. ويأتي ترتيب حكمه في سلالة الوركاء الأولى خامس ملك. وقد خصصت اثبات الملوك له حكم (126) عاماً.
وتروي القصص ، كما في ملحمة كلكامش ، أن أمه كانت الالهة (ننسون) زوجة الإله (لوكال بندا) ، ولكن أبا البطل كلكامش لم يكن (لوكال بندا) ، وانما هو بهيئة (للا) الذي يعني نوعا من الشياطين ، وأنه كان كاهن كُلاب. وذكره أحد ملوك الوركاء المسمى (أنام) (من العهد البابلي القديم في مطلع الألف الثاني ق.م.) بأن سور الوركاء كان من أعمال ذلك البطل. كما ذُكر في كتابات الملك (أورنمو) مؤسس سلالة أور الثالثة (2100-1900 ق. م.) أن كلكامش صار ملكاً وقاضياً في العالم الأسفل.
أما كتابة اسمه فقد وردت في عدة صيغ أشهرها:
1-في السومرية - GISH-BIL-GA-MESH
2- في الأكدية – IS(GISH)-TU-BAR وهي مرادفة للقيم الصوتية أي GI-IL-GA-MESH
3- في ألواح العهد البابلي القديم كتب الاسم مختصراً (il) GISH
4- في نسخ عاصمة الحثيين (وفي النص الأكدي والحثي) GISH-GIM-MASH
5- في الآرامية ذكر البطل بصيغة (كميموس) و (كلمكوس).
ولا يُعلم معنى كلكامش بالضبط ز لكن بعض النصوص الأكدية ترجمت معناه (المحارب الذي في المقدمة). كما أن هناك احتمالاً لاسمه السومري معناه (الرجل الذي سيكون نواة لشجرة جديدة) أي (الرجل الذي سيولد أسرة).
يُصوّر كلكامش في المنحوتات القديمة بأنه بطل يصارع الحيوانات البرية المفترسة ، وتوجد مشاهد تصوره يصارع أسداً . كما عُثر على ختم عليه اسم الملك الأكدي (شاركالي شاري) وفيه صورة البطل كلكامش وفي رأسه القرون التي كانت من شارات الآلهة. وفي المنحوتات الآشورية الملكية صور مختلفة لكلكامش أشهرها شخص يحمل جديين لتقريبهما إلى الإله شمش. وصُوّر في منحوتيتن كبيرتين وجدتا في قصر الملك الآشوري سرجون في عاصمته خرساباد (720-702 ق. م.) يُشاهد فيهما كلكامش بالنحت البارز بحجم كبير وهو يحمل بإحدى يديه ساطوراً ، وباليد الأخرى أسداً بولغ في صغر حجمه للتأكيد على ضخامة البطل.
أما أنكيدو فكثيراً ما صُوّر بهيئة مركبة من رأس وصدر بشريين ، وقسمه الأسفل (لا سيما الخلفي) بهيئة ثور ، وهو يلبس لباس القرون في رأسه الذي قلنا أنه كان علامة الألوهية وشارة القدسية.  

مصادر ملحمة كلكامش
يرى طه باقر أن أصول الملحمة المؤلفة باللغة الأكدية (البابلية) تعود إلى مصادر سومرية. وقد وجدت بالفعل قطع أدبية سومرية ، منها ما يدور عن أعمال كلكامش وأنكبدو ، وعن العفريت خومبابا ، وقصة حب عشتار لكلكامش وقصة الثور السماوي. أما رواية الطوفان فقد وجدت لها جملة نصوص سومرية ، ووجد للوح الثاني عشر أصل سومري يكاد يكون النص الأكدي ترجمة حرفية له.
تعد ملحمة كلكامش من الأدب العالمي التي يجمع المختصون أن زمن تدوين الملحمة يرقى إلى مطلع الألف الثاني ق.م. ، وهو عهد يُعرف في تاريخ وادي الرافدين باسم العهد البابلي القديم (2000- 1500 ق. م.). وتميز بحركة كبرى في التأليف والجمع والتصنيف والترجمة في شتى صنوف العلوم والمعارف والآداب.  

اكتشاف ألواح الملحمة وترجماتها
اكتشف ألواح الملحمة البالغة اثنا عشر لوحاً من قبل هواة الآثار وقناصل الدول الأجنبية في منتصف القرن التاسع عشر. ويرجع الفضل إلى أوستن هنري لايارد (1817-1894) Austen Henry Layard و العالم الموصلي هرمز رسام ( 1826-1910) وجورج سمث (1840- 1876) George Smith في الفترة 1839- 1853 في خزانة كتب الملك الآشوري آشور بانيبال في نينوى.  ولم يفطن أحد إلى هذا الاكتشاف إلا في عام 1872 حين أعلن جورج سمث اكتشافه لخبر الطوفان في محاضرة مثيرة ألقاها على الجمعية الآثارية للتوراة في لندن. فأثارت ضجة وحماساً بالغين في العالم ، مما حدا بجريدة (الديلي تلغراف) أن تتبرع بألف جنيه إسترليني ، لينفقها جورج سمث في التنقيب في خرائب نينوى. وقد نجح فعلاً في العثور على أجزاء مكملة ، ونشر بحوثه قبل وفاته المبكرة في عام 1876 ، وهو في السادسة والثلاثين من عمره.
وقد ترجمت الملحمة إلى اللغات الجنبية الحية مثل:
1-الإنكليزية عام 1926 و عام 1928 و 1930
2- الألمانية عام 1934
3- تعليقاته اللغوية عام 1938 و 1939 و1949.
4- ترجمة ألمانية عام 1958
5- اللغة الجيكية عام 1958 ، وترجمة بتصرف وتحليل عام 1960.
6- اللغة الروسية عام 1962.
7- اللغة الدانماركية عام 1953 .
8- اللغة الفنلندية عام 1943.
9- اللغة الجورجية عام 1924 .
10- اللغة الإيطالية عام 1958.
11- اللغة الهولندية عام 1955.
12- اللغة العبرية

الترجمة العربية  
يقول طه باقر (قبل أن تظهر ترجمته العربية لملمة كلكامش عام 1962 ، شاركت بترجمتها مع زميلي بشير يوسف فرنسيس (1909- 1994) المفتش العام في مديرية الآثار العامة . وقد نشرناها في مجلة (سومر) عام 1950 ، معتمدين في ترجمتها بالدرجة الأولى على ترجمة إنكليزية تعود لعام 1946 وأخرى تعود لعام 1950).
فيما بعد أخذ طه باقر يقارن الترجمة العربية بالنصوص الأكدية . وخلال تدريسه النصوص المسمارية لطلاب قسم الآثار في كلية الآداب منذ عام 1952 . فصارت لديه مادة كافية لإعادة ترجمتها إلى العربية. وتمت طباعتها من قبل وزارة الارشاد لتنشر ضمن سلسلة الثقافة الشعبية.  

مفردات عراقية أصلها سومري وبابلي
التفت طه باقر إلى وجود مفردات في اللغة العربية والدارجة تعود جذورها إلى لغات قديمة كالأكدية (البابلية والآشورية) والسومرية. وهي تتوزع على مختلف شؤون الحياة كالمعاملات التجارية وأسماء آلات وأدوات في الزراعة ، وأسماء الأشجار والنباتات والأعشاب الطبية. وهذه قائمة بأهم المفردات:
1-الآجر ، وأصلها  بابلي وردت بصيغة أكرو Aguru
2- أرجوان وهو اللون القرمزي ، وأصلها بابلي أركمانو ِArgamanu
3- الشوندر وردت في النصوص المسمارية سمون-دار Sumun-Dar
4- لوبياء ، وردت في النصوص المسمارية لو-أب
5- بغداد: لقد جاءت كلمة بغداد في المصادر المسمارية بصيغتين هما: “بكدادو” و”بكدادا” ويكتبان بالمقاطع المسمارية ” باك – دا – دو” و”باك – دادا”. وان اقدم وثيقة بابلية ورد فيها اسم هذه المدينة ترجع في زمنها الى عصر الملك الشهير حمورابي “1792 –1750 ق.م” سادس ملوك بابل الأولى. وتكرر اسم بغداد في العصر الذي أعقب سلالة بابل الأولى وهو العصر العروف بالعصر “الكيشي”- القرن الرابع عشر قبل الميلاد وكذلك بعض الوثائق الآشورية ما بين القرن الثالث عشر قبل الميلاد والقرن التاسع ق.م.

اكتشاف لوح بابلي في الرياضيات
أثناء التنقيب في تل حرمل الأثري شرق بغداد ، عثر طه باقر على لوح طيني مكتوب باللغة المسمارية ، يتضمن حساب المثلثات وفق نظرية اقليدس الشهيرة. وكانت مهمة شاقة في فهم الأسلوب الذي اتبعه الرياضي البابلي ، وباستخدام عقليته الرياضية تمكن طه باقر من حل لغز اللوح الطيني. والمثلث المكتشف يشابه مثلث فيثاغورس الذي جاء بعده بقرون عديدة. ويقوم مثلث فيثاغورس القائم الزاوية على أن مربع الضلع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين. وهي نفس النتيجة التي وصل إليها الرياضي البابلي قبله بألف عام.
 
رحلته العلاجية إلى لندن
في عام 1980 أصيب طه باقر بجلطة دماغية استوجبت سفره إلى بريطانيا لغرض العلاج. في تاريخ 14 أيلول 1980 وصل إلى لندن ، وأُدخل مستشفى هامرسميث Hammersmith ، وقام بعلاجه الدكتور ليك N. G. Legg . بعد ذلك عاد إلى العراق بتاريخ 10 تشرين الأول 1980. اثر ذلك توقف طه باقر عن القراءة والكتابة ففقد معنى الحياة ، وصار يتمنى الموت.
في عام 1983 أصيب بنكسة صحية ثانية ، وتم إرساله إلى مستشفى ابن البيطار التخصصية في منطقة الصالحية ، فاستقر قرار الأطباء على إرساله إلى خارج العراق للعلاج. لكنه لم يسافر.

من مؤلفاته:
1-ملحمة كلكامش
٢- الانسان في فجر حياته
٣- بابل وبورسيبا
٤- بحث في التاريخ
٥- تاريخ العراق القديم
٦- تاريخ ايران القديم
٧- طرق البحث العلمي في التاريخ والاثار
٨- المرشد إلى مواطن الاثار والحضارة
٩- علاقات بلاد الرافدين بجزيرة العرب
10-مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة (جزءان)
11- موجز في تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة والحضارة العربي الاسلامية.
12- من تراثنا اللغوي القديم ما يسمى في العربية بالدخيل

ومن الكتب التي ترجمها:
•بحث في التاريخ: وهذا الكتاب اختصار للمجلدات الستة الأولى التي ألفها ارنولدج توينبي (1889- 1975) Arnold Toynbee واختصرها الأستاذ د يفيد تشرشل سومرفيل (1885-1965) ، طبع العام 1955م في مطبعة التفيض.
•الواح من سومر: وهو من تأليف صموئيل نوح كريمر (1897- 1990) Samuel Noah Kramer ، احتوى الكتاب على خمسة وعشرين فصلاً وملحقين وكل واحد من الفصول والملاحق ناقش الحدث الأول في حياة الانسان العراقي القديم الذي ينم على انتاج حضاري رائع. كأول مدينة في التاريخ وأول برلمان ذي مجلسين وأول الامثال والاقوال المأثورة وأول اغنية  في الحب وغيرها.
•الرافدان: وهو تأليف سيتون لويد (1902- 1996) Seton Howard Lloyd  يتألف هذا الكتاب من أحد عشر فصلاً، ناقش فيها الأستاذ طه باقر تاريخ العراق القديم منذ نحو 500 سنة ق.م حتى الوقت الحاضر، إذ كان عنوان الفصل الحادي عشر هو “العرب في القرن العشرين”.
•الانسان في فجر حياته: وهو من تأليف دورثي ديفيس (1916-2014) Dorothy Salisbury Davis ترجمه بالاشتراك مع فؤاد سفر، طبع العام 1945م بمطبعة المعارف وتناول الكتاب موضوعات مهمة مثل: نشوء الدماغ، أقدم الاناسي، السلم في العصر الحجري القديم، الباعث على الفن القديم وغيرها.
•تاريخ العلم: وهو من تأليف جورج سارتون (1884-1956) George Sarton في ستة أجزاء ترجمه بالاشتراك مع ستة من العلماء منم: د. محمد عبد الهادي أبو ريده  (1909- 1991) ، ود. أحمد فؤاد الأهواني (1908- 1970) ، ود. رشيد الناصري (1920-1962) ، وفيه اختراع الكتابة، دور السجلات والمحفوظات في المدارس، نشأة علم اللغة، الرياضيات، الفلك وغيها.

وفاته
شاءت يد القدر أن يتوفى طه باقر في يوم 28 شباط 1984 . وفي اليوم التالي تم تشييعه في بغداد ، ثم نقل جثمانه إلى المقبرة الخاصة بالعائلة في جامع براثا.
في 5 آذار 1984 أصدر رئيس اتحاد المؤرخين العرب الدكتور حسين أمين بياناً ينعى فيه الفقيد طه باقر ، مع موجز لسيرته. وبمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته ، أقيم له في كلية الآداب حفل تأبيني ألقيت فيه كلمات منها كلمة عميد الكلية الدكتور أحمد مطلوب. وألقى الدكتور حسين علي محفوظ كلمة اتسمت بالتطرق لفلسفة الموت ، وأنها خاتمة الحياة. وتناول أهم إنجازات الفقيد العلمية والآثارية ، وكتابه (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة) وما تميز به. وأنه بعث ملحمة كلكامش التي لم يعرفها العرب ، ولا ذكرت في الأدب العربي رغم أنها كُتبت قبل أربعين قرناً. وسلط محفوظ الضوء على كتاب (أدب العراق القديم) وما انفرد من وصف للأدب العراقي من ملاحم وقصص وحكايات وأساطير ، والحكمة والأمثال ، والمناظرة والمفاخرة ، والمسامرة والتحاور والسخرية والفكاهة والرثاء والغزل والصلوات والدعاء والمناجاة والتراتيل . وأن قانون التقطيع والعروض ، والحكة والسكون ، والأوتاد والأسباب ، والتفعيلات والأقسام ، والصدر والعجز ، والشطر والبيت ، والايقاع والوزن ، أشياء قديمة جداً في أدب الجزيرة والقريض العربي والشعر العراقي .

المصادر
-طه باقر (ملحمة كلكامش..أوديسة العراق الخالدة) ،
- طه باقر (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة) ، دار الوراق ، لندن : 2009  
- فوزي رشيد (طه باقر : حياته وآثاره) ، دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والاعلام ، الطبعة الأولى ، بغداد : 1987  
- محمد يسري (بعث الحياة في ملحمة كلكامش .. من هو طه باقر؟) ،
موقع ارفع صوتك https://www.irfaasawtak.com/ ، في 23 مايس 2023
-ناصر محسن المعاضيدي (طه باقر.. سيرته وآثاره : الآثاري الكبير يرفض فتح المتحف العراقي أمام مسؤول بريطاني) ،

أخر الأخبار