• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

قامات عراقية خالدة – ٢٤ جواد سليم .. عبقري ملحمة نصب الحرية

قامات عراقية خالدة – ٢٤ جواد سليم .. عبقري ملحمة نصب الحرية

  • اليوم, 20:16
  • مقالات
  • 11 مشاهدة
د. صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 

٢ شباط ٢٠٢٥

جواد سليم (١٩١٩-١٩٦١) من أبرز الفنانين العراقيين في القرن العشرين. ولعل نصب الحرية الذي شيده في وسط بغداد صار من إيقونة الفن المعاصر ، ومعلَماً شاخصاً تُرف به بغداد ، ومزارا سياحياً ، وقبلة للأحرار يرفعون أصواتهم تحته . إنه ملحمة عراقية حضارية تربط الماضي وفنونه بالحاضر وثيماته ، ويمثل سردية الصراع بين الظلم والتحرر ، صاغته عبقرية فنان عراقي ترك بصمة الخلود في صفحة بغداد.  
 
الأسرة والنشأة
ولد جَواد مُحمد سَليم عبدُ القادِر الخالِدي عام ١٩١٩ في أنقرة لأبوين عِراقيين منَ الموصل، ونَشأ في عائلة فَنية اِشتُهرت بالرسم. كان والده الحاج سليم ضابِطًا عسكريًا في الجيش العثماني ، مُتمركِزًا في أنقرة وقت ولادة جَواد،  لكنه عاد إلى بَغداد في عشرينيات القِرن الماضي. كان والدُه فنانًا، وكانَت والدَتُه فنانة تطريزة ماهِرة، وأصبح أخوته سُعاد ونَزار ونزيهة كلهُم فَنانين تشكيليين. كان جَواد مُنذ طفولته يصنع من الطين تماثيل تحاكي لعب الأطفال، ولقد أكمل دراسته الابتدائية والثانوية في بغداد.

سيرته
نالَ وهوَ بعُمر أحد عشر عاماً الجائزة الفضية في النَحت في أول مَعرض للفنون في بغداد سنة ١٩٣١. وأرسل في بعثة إلى فرنسا حيث درسَ النَحت في باريس بين 1938-1939، توقفت دراسته بسبب اندلاع الحرب. انتقل إلى روما بين 1939-1940، ولكن مرة أخرى توقفت دراسته بسبب الحرب، مما أجبره على العَودة إلى بَغداد. في نِهاية الحَرب، بين 1946-1948 التحقَ بمدرسة سليد للفنون الجميلة في لندن Slade School of Fine Art ، حيث تأثر بشِدة بالفنانين الغربيين أمثال الرسام بابلو بيكاسو (١٨٨١- ١٩٧٣) والنحات الإنكليزي هنري مور (١٨٩٨-١٩٨٦). في إنكلترا، التقى جواد بالفنانة الإنكليزية لورنا بيريل (١٩٢٨- ٢٠٢١)، من مواليد شيفيلد، وتزوجا في عام 1950، وأنجبا ابنتين هما مريم وزينب.
خِلال فَترة توقف دِراسته، عمل في صيانة الآثار بالمتحف العراقي بين 1940-1945، وكان رئيس قسم النحت في مَعهد الفنون الجميلة في بغداد حتى وفاته في ٢٣  كانون الثاني ١٩٦١.
 عرّفته دراسَتُه على تقاليد الفَن العِراقي القديمة، وسعى بوعي إلى اكتِشاف إمكانيات الجَمع بين الزخارف القديمة والفن التجريدي الحديث الذي لاحظه في أوروبا. أشارت زوجته لورنا سليم إلى أنه كان مفتونًا بمنحوتات بلاد الرافدين قالت:
(كان يَهَدُُف لخَلق لُغة فَنية فَريدة للعِراق، مَبنية على الفن العَظيم لحضاراتِه الماضِية، سومر، بابل، آشور وبالطبع الفَن الاسلامي ولكن بلُغَة القرن العشرين).

النضج الفني
يُنسب إليه المُحاولة الأولى ، كفنان عِراقي، للرَسم والنَحت اعتِمادًا على تُراث بَلده، وتوجيه الفَنانين المَحليين نَحو الأسلوب العِراقي المُميز.
كان لدى العراق في الثلاثينيات عددٌ قليل مِنَ المَتاحف وصالات العَرض الفنية. وبناءً على ذلك، أقيم أول مَعرض فردي لسليم في المَنزل الخاص للمهندس المِعماري العَراقي البارز محمد مكية(١٩١٤- ٢٠١٥).
في عام 1944، تمت دَعوَتُه لمُساعدة عُلماء الآثار في أعمال التَرميم الضرورية. عَزَزَت هذه المواجهات مع التُراث القَديم إحساسًا قويًا بالفَخر بالتراث الفني العِراقي القَديم وأثارت تساؤلات حول العِلاقة بين (التراث) والفن (المعاصر)، تساؤلات ستشغل الفنان لبقية حياته العَملية.
 كان سليم من مؤسسي جماعة بَغداد للفَن الحَديث، مع زميله الفنان التشكيلي شاكر حسن آل سعيد  (١٩٢٥- ٢٠٠٤) والنحات محمد غني حكمت ( ١٩٢٩- ٢٠١١). هذه مَجموعة حاولت الجَمع بينَ تقاليد الفن العِراقي القَديم والتقنيات الأوروبية الحديثة. كان شعار الجماعة هو (استِلهامُ التُراث).
استوحى سليم، إلى جانب آل سعيد وأعضاء آخرين في المَجموعة، مِن فَنون مَدرسة بغداد التي تعود إلى القرن الثالث عشر وأعمال الخطاطين والرسامين القدامى أمثال يحيى بن محمود الواسطي الذي كان نشطًا في بَغداد في ثلاثينيات القِرن الثاني عشر. كانوا يعتقدون أن الغزو المغولي عام 1258مثلَ (كسراً في سِلسلة الفَن العِراقي التصويري) ، وأرادوا استعادة التقاليد المَفقودة.  لقد أنجزت هذه المَجموعة الكثير من حيث الترويج للفن الحديث من خِلال مَنح العِراقيين شعوراً بالفخر الوطني بتراثهم الفني القديم.
لفتَ سليم انتباه الجَماهير الدولية لأول مرة في عام 1952 عِندما شارك في المُسابقة بعمل ( السَجين السِياسي المَجهول)، كان واحدًا من ( 80 ) عَمل تم اختيارُه من بين ( 3500 ) مُشاركة، لكي يَتمُ عرضُها في مَعرض تيت لندن Tate Gallery، الذي تأسس عام ١٨٩٧ . وكان الفنان العربي الوحيد الذي شارك في المَعرض. في العام التالي قام بجولة في الولايات المتحدة وتم استقبال عمله بشكل جيد. على الرغم من أنه عمل رسامًا ونحاتًا، إلا أنَ مَخاوفه بشأن مُمارسة كليهما في وقت قَد أزعَجَتهُ. قرب نهاية الخَمسينيات منَ القرن الماضي، اتخذ قرارًا بالتركيز على النَحت حصرًا.

قصة النصب برواية زوجته
تروي الرسامة البريطانية لورنا ، زوجة جواد سليم أنها في تموز 1958 كانت تمضي إجازة هادئة مع طفلتيها في ويلز، صحبة والديها، بينما بقي زوجها في بغداد لارتباطه بأعمال مختلفة. وصباح الخامس عشر من ذلك الشهر نزل أبوها لشراء الصحف وعاد مسرعاً ليقول: (لقد قتلوا مَلِكَكم). أمضت الأسرة ما تبقى من العطلة في متابعة الأخبار الآتية من بغداد. إلى أن جاءت برقية من جواد يطمئنها إلى أنه بخير.
بعد عودتها تلقى جواد طلباً، عن طريق صديقه المعمار رفعت الجادرجي، لعمل منحوتة كبيرة عن الثورة التي قلبت نظام الحكم الملكيّ إلى جمهوريّ. كان عليه أن يُنجز تصميماً مُصغّراً للعمل، وأن يسافر إلى فلورنسا في إيطاليا لاستكمال المنحوتات وصبّها في قوالب من البرونز. أرادوها جاهزةً في العيد الأول للثورة. مهلة وجيزة ومهمة مستحيلة. خصصوا له ثلاثة آلاف دينار. والسفارة في روما تطالبه بقوائم الصرف وهو فنان لا يفقه في الحسابات. زاد عليه الضغط فانفلتت أعصابه.
كان يتوتّر ويمضي الليالي يذرع الشقة ذهاباً وإياباً، يتخيّل أن هناك من يراقبه ويتآمر عليه لمنعه من إنجاز النصب. بل إن هناك من يُدبّر لاغتياله. وقد اضطرت زوجته إلى نقله إلى المستشفى. قدموا له العلاج وتعافى بعد أسبوع. لكنها فوجئت بأنهم يرفضون إطلاق سراحه. يمنع القانون الإيطاليّ نزلاء المصحات النفسية من المغادرة قبل مرور ثلاثة أشهر على دخولهم.
في مثل ذلك المخاض ولدت المنحوتات الأربع عشرة المعلّقة على الجدارية الشهيرة في ساحة التحرير. وفي تموز 1961، جرى افتتاح النصب دون أن يكون صاحبه بين المحتفلين. أزمة قلبية أسكتت نبض جواد وهو بحدود الأربعين. وذهبت لورنا للوقوف، مرتعشة خاشعة، أمام نصب الحريّة. تتأمل الصرح البديع بعينيها وبعيني جواد.

حكاية نصب الحرية
نصب الحرية سجل مصوّر يحكي قصص الشعب العراقي في حقب زمنية مختلفة. ولم يأت اختيار ساحة التحرير موقعاً لتشييد نصب الحرية اعتباطا: فهذا الموقع بالذات يربط أهم شارعين في تأريخ بغداد هما شارع الجمهورية وشارع السعدون، وهو مواجه لجسر التحرير، ذلك الجسر الذي ينقل البغداديين من الكرخ إلى الرصافة وبالعكس. وقد ساهم الشارعان والجسر في تنويع زوايا رؤية النصب مما أضفى قيمة فنية أخرى على النصب.
في عام 1959، بعد فترة وجَيزة من حِصول العِراق على استِقلاله، كلٌف الزعيم الجديد للجمهورية، العميد عبد الكريم قاسم، المهندس المعماري رفعت الجادرجي بإنشاء نَصب تِذكاري في وَسط العاصِمة ليكونَ احتفالًا بحصول العراق عَلى استِقلاله. كان منَ المُقرر أن يَقع النَصب في قَلب مَنطقة الأعمال المَركزية في بَغداد، ويطل على ساحة التحرير وجسر الجمهورية.
وسارع الجادرجي بنقل فكرة النصب وتكليف قاسم إلى الفنان التشكيلي والنحات العراقي جواد سليم، وقد خول بالعمل دون أي تأثيرات سياسية أو محددات سابقة، فعكف سليم على العمل وصمم النصب على مخططات ورقية (Sketches) لعدة تماثيل مترابطة على طول مساحة الـ50 مترا للنصب وبعثها إلى الجادرجي لعرضها على قاسم.
أدرك النحات أن النصب يجب أن يكون رمزًا لعالَم جَديد، وصمم عملاً كان سرديًا لثورة 1958، لكنه أشاد أيضًا بتاريخ الفن العراقي العَميق من خلال تَضمين النقوش الجدارية العباسية والبابلية، وإنتاج نحتًا كانَ (حديثًا بشكل لافِت للنَظر) ولكن بنَفس الوَقت يُشير إلى التُراث.
عمل سليم على المَشروع في ظل ظروف صَعبة، وقاوم كل مُحاولات قاسِم لدمج صورتَه. في البِداية، أراد سليم أن يكون النَحت على مُستوى الأرض، لكن المُهندس المِعماري رفعت الجادرجي (١٩٢٦-٢٠٢٠) أصرّ على رفعه بحيث يبدو أكثر (أثرًا). فصمم النصب على شكل لافتة عريضة بـ (50  ) مترا و بارتفاع ( 8 ) أمتار، ولا سيما أن بغداد كانت تشهد مظاهرات كبيرة ضد الحركات المناوئة لثورة عام 1958، فاستوحى فكرة اللافتة منها. وقال الجادرجي حينها إنه أراد أن (يرمز النصب إلى جميع فئات الشعب كتعبير على أنها بطلة الثورة ووقودها، وهي تتصدى لأي فئة سياسية تريد الإضرار بها).
وعن ذلك، قال الجادرجي إنه استشف أن قاسم يريد وضع صورته داخل النصب رغم أنه لم يقلها حرفيا، حيث وصف النصب بأنه يشبه نصبا يونانيا أو رومانيا ونريده أن يرمز للعراق، ويبدو أن حاشية قاسم لمحت بأنه يريد أن يرى نفسه في النصب.
ونقل الجادرجي التصورات لسليم فغادر بالمخططات إلى إيطاليا لنحتها على المرمر وصبها بالبرونز، وكان ينازعه الشك والغضب من طلب قاسم، فصمم العمل دون الالتفات إلى ذلك رغم تدخلات السفارة العراقية في روما.
ان اختيار النصب في حديقة الأمة (حديقة الملكة عالية سابقاً، افتتحها الملك غازي عام ١٩٣٧) في الباب الشرقي ، سَيواجه حَركة المرور المُزدحمة بدلاً من الأشخاص الذين يَمشون في الحَدائق المجاورة. على الرغم من أن النَصب كان من تَصميم سليم، إلا أنه لم يره حتى اكتماله؛ بعدَ وفاته المُبكرة، تم الانتهاء من المَشروع في عام 1961 من قبل صَديق سليم، النَحات محمد غني حكمت، الذي ساعَده في السابِق مِن خلال صَب التماثيل البرونزية.
وصار أحد أشهر مَعالم العاصِمة بَغداد. يُشار لسليم باعتباره الفنان الأكثر نفوذاً في حَركة الفَن العِراقية الحَديثة،  كتبَ عنه المُثقف العِراقي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا (١٩٢٠-١٩٩٤) :
(إن جواد سليم وفي غمرة نشوته، وجد أن الأنظار تتجه إليه ليجسد الحلم الذي راوده لسنين طوال، فأراد أن يصمم نصبا للثورة في ساحة التحرير أكبر ساحات بغداد وأعطي مطلق الحرية في التعبير وهي التي أصر عليها قبل كل شيء. وأبرز ما فيه أنه يرمز إلى اسم الساحة للتحرر من الاستعمار الأجنبي، فإن "الحرية" في اسم النصب جاءت مكمّلة وأشمل في دلالاتها المتنوع. ويضيف جبرا : لا يوجَد فَنان واحِد كانَ لهُ مِثل هَذا التأثِير الكبير على الفَن فِي العِراق ... تأثير فاضَ مِن حِدود العِراق إلى بَقية العالَم العربي).
(سليم كان جزءاً من عصر هيمنت فيه الأيديولوجيا بقوة على الفنون وعلى تنظيراتها"، مشيراً إلى أنّه و"وهو يهمّ بإنجاز نصب الحرية، كان يحاول أن يتخطّى المحلّية ذات الحلول الفجّة التي كانت تظهر في نتاجات جماعة بغداد للفنّ الحديث، وتصرّف بوصفه فنّاناً معنياً بدرجة كبيرة بالجانب البَصَريّ، رغم كلّ الأهداف الإيديولوجية). (لقد قال جواد إنه جعل هذه المنحوتة، من الناحية الفنية، في الأسلوب المفضّل لديه، حيث تبرز الفكرة بأقل التفاصيل، معتمداً الخطوط الزوبعية في الحركة والدوران. وأقرب الوحدات الأخرى أسلوباً إليها 'نصب الحرّية'. ومهما يكن من أمر فإنه من السهل أن نرى هذه الوحدات الأربع تؤلّف معاً مجموعة مترابطة ترابطاً عضوياً، تكاد العين تفرزها عمّا يليها، وتُصبح فيها خطوط السيقان أشبه بأصداء يردّد بعضها بعضاً، وفي الطرف الأعلى تتردّد خطوط الأذرع في أنغام مقابلة. في إحدى كتابات شبابه، شبّه الفنان النصب الكبير بالسمفونية).
الرموز والمعاني في نصب الحرية
يتكون النصب من ( 14 ) مَسبوكة من البرونز، تُمثل ( 25 ) شَخصية على لوح من الرخام، ترتَفِع ( 6 ) أمتار عن الأرض. يقدم النصب سرداً لثورة 1958 مع إشارات إلى التاريخ العراقي من خلال دمج نقوش الحضارات العراقية القديمة . من المُفترض أن تُقرأ النُقوش على هَيئة أبيات من الشعر العربي، من اليَمين إلى اليسار، بدءًا من الأحداث التي سبقت الثورة، وتنتهي بالانسجام بعد الاستقلال. ظهر النَصب على الورقة النقدية فئة 10 آلاف دينار عِراقي لعام 2013-2015 تكريما له. ألهمت الَمراجع المُتعددة وطبقات المَعنى المَخفية في العَمل، الفنانين العرب في جميع أنحاء المنطقة وشَجعتهم على مُتابعة الأعمال الفنية بهوية وطنية في وقت كانت فيه العَديد منَ الدول العربية تَنال استِقلالَها.
قام جواد سليم بصياغة النصب عن طريق الرموز وأراد من خلالها سرد أحداث رافقت تاريخ العراق، مزج خلالها بين القدم والحداثة، حيث تخللت النصب الفنون والنقوش البابلية والآشورية والسومرية القديمة و كثير من الموضوعات التي استلهمها من قلب العراق. ولعل أهم ما يجذب المشاهد عندما يطالع النصب للوهلة الأولى هو الجندي الذي يكسر قضبان السجن الذي يتوسط النصب لما فيه من قوّة وإصرار ونقطة تحوّل تنقل قصة النصب من مرحلة الاضطراب والغضب والمعاناة إلى السلام والازدهار. فلولا الثقافة التاريخية والفنية العميقة والواسعة التي يتمتع بها الفنان جواد سليم، لما كان هناك عمل فني شامخ كـ”نصب الحرية” بمفهومه الفكري الإنساني والفني العالي، الذي أنار درب الفن العربي عموما، وأصبح السمة البارزة والمهمة في مسيرة الحركة الفنية في المنطقة، و امتدّ تأثيره للأجيال التي جاءت بعده من الفنانين.
إن “جدارية النصب” بحجمها الكبير (50م × 10م) وانتصابها الهندسي الرمزي الدقيق، تضم بين دفتيها أربع عشرة قطعة فنية برونزية باهرة في أفكارها الإنسانية وخطابها البليغ، مضامينها مستلهمة من عمق تاريخ الحضارات العراقية المتواترة. وقد اختار جواد سليم أسلوب النحت البارز لأنّه السمة الأساسية للفن العراقي القديم، لتكون الجدارية بالتالي خطابا إنسانيا وأخلاقيا وفنيا شاملا في كل زمان ومكان. و قد جمع بين الاتجاه الرمزي والاتجاه الواقعي في فن النحت وأثبت عبقريته الفنية وحضوره الإبداعي والإنساني في تيار النحت العربي والعالمي وألقى ظله الفني والوطني على حركة النحت من خلال رسالة هذه الجدارية العملاقة.
حينما تنظر إلى مصبوبات النّصب البرونزية المنفصلة فإنّك تقرأ رواية تبدأ من اليمين إلى اليسار كما في الكتابة العربية. الحركة يمين النصب مضطربة لكنّها تنتظم مع التحرك نحو اليسار وتصبح نابضة بالعزيمة والإصرار بصورة إنسان يتقدم بخطوة واسعة إلى الإمام لترتفع اللافتات والرايات الجديدة في السماء. بعد ذلك يطالعنا رمز البراءة والأمل على هيئة طفل صغير يشير إلى بداية الطريق. تطالعنا بعدها امرأة مشحونة بالانفعال والغضب والحزن، ومن ثم منظر مؤثر حيث تحتضن الام ابنها الشهيد وتبكي عليه، وهذا الأمر كثير الورود في التاريخ العراقي القديم والحديث، تليه صورة الأمومة التي تغمر الحياة الجديدة بالحب والحنان: فقد تكون للثورات والمآسي ضحاياها لكنها تملك في الوقت ذاته أجيالها الجديدة و لعل في ذلك التفاتة جميلة من الفنان لنبذ اليأس.
ثمّ نصل إلى الجزء الأوسط وهو الأهم في النصب حيث يشير إلى نقطة التحوّل، ويتألف من ثلاثة تماثيل: على اليمين يطالعنا تمثال السجين السياسي ، وتبدو الزنزانة على وشك الانهيار تحت تأثير رجل مزّقت ظهره السياط ، ولكن القضبان لا تنفصل في النهاية الا بإصرار وقوة وجهد الجندي الذي يظهر في الوسط.
بعد ذلك تنقلب صفحة المعاناة والمآسي لنقرأ صفحة السلام والازدهار والحرية وهنا تظهر لنا امرأة تمسك مشعلاً، وهو رمز الحرية الإغريقي، وتندفع نحو محررها.  وبعد الانفعال يأتي الهدوء فيتوقف الغضب ومواجع الثورة وتحل الراحة والسكينة في القلوب وتتحول بعدها القضبان الحديدية إلى أغصان.
نهرا دجلة والفرات اللذان يعدّان العمود الفقري لحضارة وادي الرافدين لم يغيبا عن النصب حيث تمثلهما امرأتان أحداهما تحمل سعف النخيل والأخرى حبلى، وثمة فلاحان , أحدهما في زيّ سومري والثاني في رداء آشوري, يرمزان إلى العرب والأكراد، يتطلعان نحو رفيقيهما دجلة والفرات ويحملان مسحاة (مجرفة) واحدة تعبيراً عن وحدة البلد الذي يعيشان في كنفه.
الغريب والمحزن في قصة النصب وفاة النحات الفنان جواد سليم قبل افتتاحه بعدة شهور فأكملته زوجته البريطانية لورنا التي كانت تعيش معه في بغداد منذ عودته من الدراسة في الخارج نهاية الأربعينيات.
قالوا في النصب الشهير
يقول د. تيسير عبد الجبار الآلوسي عن النصب (تجد فيه تلخيصاً لأسطورة الخلق ولأساطير الإنسان السومري يبني وجوده بحكمة عقل متمدن، وبأذرع سمر ارتفعت فضاءاتها مشرعة كصواري السفائن التي تمخر عباب العواصف المتلاطمة وتنتصر عليها منعتقة من أسرها، متحررة من قيودها).
وفي كتابه (جواد سليم- الفنان والآخرون) يقول الأستاذ شاكر حسن آل سعيد إن الجدارية (عمل معماري ونحتي في آن واحد. وهو من حيث الخامة توالف بين المرمر الأبيض كخلفية سحيقة تذكره بورق (الترمة)، وما بين الكتل النحاسية التي تجمع بين النحت المدور، والنحت البارز.  مستنتجاً ان الريليف هو حل وسط ما بين النحت المدور والرسم) (جواد سليم ونصب الحرية.. وثائق وشهادات- عادل كامل)
وحسب عادل كامل فإن شاكر، في قراءته للنصب من اليمين إلى اليسار (يرى أربع مجموعات، موزعاً المنحوتات من الحصان إلى كف المتظاهر الذي يبدو بهيئة راقصة. بينما تمتد المجموعة الثانية لتبلغ حدود المرأة الحانية على الطفل. وتبدأ الثالثة من مشهد خروج السجناء السياسيين من سجنهم، وحتى تمثال المرأة الممثلة للخصوبة، ويختتم المجموعات بموضوع الفلاحة والعمل، فهي تجمع ما بين شكل العامل حامل المطرقة وحتى شكل الفلاحة حاملة الحصيد أو الواقفة إزاء النخلة).
ووفق هذا التأويل، حسب عادل، فإن العلاقة بين الكتل (المنحوتات)، وكل منها يرمز إلى وظيفة محددة، تكمّل بعضها البعض الآخر، تعاقبياً، لتكون المجموعة الأخيرة من النصب مقابلة للأولى : فالثور يقابل الحصان/ والعامل يقابل حامل اللافتة/ والأشخاص الثلاثة من الفلاحين يقابلون الممسك بالعدة والممسك باللجام، بالميت الساقط على الأرض.
أما الوسط، الفاصل بين ما قبل وبعد التحرر، نرى الجندي واثباً بين قضبان سجون سياسية محطماً إياها، فيما يرى السجناء الحرية، يحمل أحدهم شعلتها.
وفي الجانب الأيسر، نشاهد رموزاً لنهري دجلة والفرات والزراعة والثور والصناعة، أما القطعة الرابعة عشرة والأخيرة في الجدارية، تصوّر وقفة مهيبة عامل يحمل بيده المطرقة، وفي هذا يرى جبرا "انتصار الطبقة العراقية العاملة.
والنصب، لدى حسن، يبدأ من: التاريخي، والعياني، المباشر، نحو (الشيئي ـ الجنيني)، كي يمنح المتلقي حرية كالتي عمل بها سليم، حرية كأنها هبطت من كوكب آخر، لكنها بالضرورة، نهاية المطاف: حصيلة تحديات.
أما جبرا، فيصف الجدارية من أقصى اليمين الذي يمثل ما قبل "الثورة"، ممثّل برأس حصان مدارٍ بعُنف إلى اليسار، والحصان محاط بثلاثة رجال، أحدهم يقف ويرفع لافتة، والمشهد الذي يليه من نفس الجهة، يصوّر روّاداً يحملون لافتات، ثم ينتقل للكتلة الرابعة في النصب مصوراً امرأة باكية، وهو يؤشر على أهمية تضحيات المرأة العراقية في الثورة والانتفاضات في بلدها، ومنها إلى المنحوتة التي تليها، يصوّر سليم فكرة الموت والموت لوهب الحياة، حتى تصل للوسط. ((الفن والسياسة في العراق: نصب الحرية نموذجاً- أورانس البهادلي).
لن يتكرر جواد سليم…”، لا تعني لا نحت بعد جواد سليم، بل إنها توضح إن النصب الذي أنجزه سليم، لم يكن ثمة نحات آخر باستطاعته أن يمنح فن النحت (القديم) الدور ذاته لاستنطاق المخبأ والمخفي في الضمير الجمعي لحضارة لا وجود لها إلا عبر المخيال الشعبي، وأسيرة جدران المتاحف، أو قابعة في الكتب.
     فالأسطورة ـ الحرية ـ التي شغلت الفنان، هي بمثابة تعويض الحاضر، ولكن ليس بالعودة إلى الماضي، بل برؤية قائمة على ذات المرتكزات التي قامت عليها الحضارات:
ـ العمل… الزراعة / الصناعة / الفكر.
ـ الأرض….الأمومة /المرأة / الأمل.
ـ الحرية إزاء عصور الظلمات / القيود / والعبودية.

من أقوال جواد سليم
• الفن لغة، وهذه اللغة يجب أن نتعرف عليها ولو قليلاً.
• الفن قطعة لموزارت وقصيدة من المعري وصفحة من موليير، والفنان الجيد يخدم الإنسان.
• الفنان يتابع ما يجري حوله ويعبر عنه بإخلاص، ولكن عليه أن يعرف كيف يحقق هذا التعبير.
• الفن الحديث في الحقيقة هو فن العصر، والتعقيد فيه ناتج عن تعقيد العصر. إنه يعبر عن أشياء كثيرة: القلق، الخوف، التباين الهائل في اكثر الأشياء، المجازر البشرية، وابتعاد الإنسان عن الله، ثم النظرة الجديدة إلى الأشياء بما أحدثته النظريات الجديدة في علم النفس وفي باقي العلوم.
• الفنان الذي ينشد الوصول إلى هدفه يجب أن يكرس له كل قواه وحياته، فيجب عليه أن يهضم كل قديم فيأتي بالجديد، وما هذا القديم إلّا دنيا هائلة.

كلمة عبد الكريم قاسم في افتتاح النصب
افتتح نصب الحرية يوم ١٧ تموز ١٩٦١ بحضور البعثات الدبلوماسية في بغداد والمسؤولين وكبار الضباط والفنانين والإعلاميين. وألقى الزعيم قاسم كلمة جاء فيها:
السلام عليكم أبناء الشعب .. انكم أحرار ولا استعباد بعد اليوم
السلام عليكم أيها الضيوف الكرام
أخواتي وإخواني
يسرني جدا في هذا اليوم أن أفتتح وأزيح الستار عن نصب الحرية .. رمز الحرية التي استردها الشعب العراقي في الجمهورية العراقية الخالدة في ثورته المظفرة في يوم ١٤ تموز .
إن هذا النصب ، والحق يقال ، من تصميم ووضع المهندسين العراقيين بالذات.
إننا نفتخر ونعتز بجهودهم وسوف تبقى جهودهم رمزاً للكفاح ما دام نصب الحرية قائماً في هذه البلاد.
إننا في هذا الوقت نحمي هذه الحرية ، وان الشعب يحمي هذه الحرية.
 أما من بعدنا فإن المخلصين في هذه البلاد سوف يسعون جاهدين لحماية هذه الحرية.
إن الشعب بعد أن حصل على حريته ، واستردها ، وهو ينعم ويرفل بظلها في هذه البلاد ، سوف لن يستعبد بعد اليوم مطلقاً.
وعليه فإنه يسرني أن أزيح الستار من نصب الحرية باسم الحرية ، باسم الله وباسم الشعب والوطن ، باسم الشعب في الجمهورية العراقية الخالدة يشع نورها في البلاد المجاورة . والسلام عليكم.

النصب كمنبر سياسي
يقع النصب في وسط بغداد في الباب الشرقي ، وهي ساحة تشكل عقدة الشوارع في العاصمة. إذ يصب فيها شارع الجمهورية (شارع الملك غازي) ، وشارع الرشيد العريق ، وشارع السعدون ، وشارع أبو نؤاس ، وشارع النضال .
وكان لهذه الساحة دور مهم في بعض الثورات والمسيرات والانتفاضات التي شهدتها مدينة بغداد. وسمت ساحة التحرير نسبة الى التحرر من الاحتلال والاستعمار الأجنبي.
بعد سقوط نظام صدام في ٩ نيسان ٢٠٠٣ تم نسيان الساحة والنصب ، وصارت التظاهرات تتجمع في ساحة الفردوس ، حيث أسقط تمثال صدام . وعاد الاهتمام بساحة التحرير لأول مرة في تظاهرات ٢٥ شباط ٢٠١١ ، والتي جاءت كرد فعل وتقليد لتظاهرات الربيع العربي في مصر.
وجاءت تظاهرات ١ تشرين ٢٠١٩ لتتخذ ساحة التحرير مكاناً للتجمع والاعتصام ، حيث نصب المتظاهرون خياماً يعتصمون فيها ليل نهار . كما اتخذوا من المطعم التركي المقابل لنصب التحرير مكاناً للتجمع والمبيت ومتابعة التظاهرات ووضع الشعارات واللافتات.

وفاته
تعرض إلى نوبة قلبية شديدة أودت بحياته في 23 كانون الثاني عام 1961م، الموافق 6شعبان 1380هـ، وشيع بموكب مهيب ، وكانت زوجته مع المشيعين ، ودفن في مقبرة الخيزران في الأعظمية.
كان محاطًا بأصدقائه من المُجتمع الفَني؛ حافظ الدروبي (١٩١٤- ١٩٩١)، إسماعيل الشيخلي (١٩٢٤- ٢٠٠١)، شاكر حسن آل سعيد (١٩٢٥- ٢٠٠٤) ، فائق حسن (١٩١٤- ١٩٩٢)، سالم الدملوجي (١٩٢٤- ١٩٧٠) وخالد القصب، وبالأخص تِلميذُه وزَميلٌه النَحات الكَبير خالد الرحال (١٩٢٦- ١٩٨٧)، والذي في يوم تَشييعه، أَتى حامِلًا حَقيبة سَوداء وتوجه نَحو الجُثمان شاقًا طَريقُه بصِعوبة في تلك الزَحمة من المُشيعين، وعِند وصوله ركعَ بجانِب الجُثمان قرب رأسِه ثم رَفعَ الغِطاء عَن وَجه جواد سَليم وأخذ يُقبله ويَبكي بصوت عال َسمعه الجَميع وتأثروا بهذا المَوقف المؤلم، ثُمَ فَتَح تِلك الحَقيبة السوداء وأخرج مِنها عجينة من الجبس ووضعها فَوقَ وجِهه، وأخذ يَضَغط عَليها بِكِلتا يَديه بلُطف ليَعمل مِنها قناع المَوت لأُستاذِه، ثم رَفعها ببُطء وأعادَها إلى تِلكَ الحَقيبة.

المصادر
-قحطان جاسم جواد (في الذكرى الـ ٦٠ لإقامته .. ما قصة نصب الحرية ببغداد الذي مات نحّاته جواد سليم قبل أن يراه؟) ، موقع الجزيرة https://www.aljazeera.net/arts/2021/7/16/  ، في ١٦ تموز ٢٠٢١  
- موقع المعرفة https://www.marefa.org
- انعام كجه جي (الحرية بلبلت جواد سليم) ، https://aawsat.com   جريدة الشرق الأوسط
- جبرا إبراهيم جبرا (جواد سليم ونصب الحرية) ، موقع العربي https://www.alaraby.co.uk
 في ١٨ كانون الثاني  2022  
-عادل كامل (بعد ٥٥ عاماً .. جواد سليم ونصب الحرية ، وثائق وشهادات) ، موقع ألواح سومرية معاصرة .

أخر الأخبار