• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

في عَصرِ الفوضى الرقمية .. صِراعُ الحقيقة في زَمنِ التَضليل

في عَصرِ الفوضى الرقمية .. صِراعُ الحقيقة في زَمنِ التَضليل

  • 9-02-2025, 21:00
  • مقالات
  • 43 مشاهدة
د. محمد عصمت البياتي

"Today News": بغداد 

*مقدمة*
في عالمٍ تتسارعُ فيه نبضاتُ التقنية كما لم يحدث من قبل، نجدُ أنفسَنا أمام سَيلٍ عارمٍ من المعلومات التي تتدفقُ بلا هوادةٍ عبر الشاشاتِ والمنصاتِ والفضاءاتِ الافتراضية. لم تعُد المعلومةُ حكرًا على وسائل الإعلام التقليدية، بل انطلقت كالنارِ في الهشيم تغزو عوالمَ التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية، والمدونات، والتطبيقات الذكية. وسط هذا الانفجارِ المعلوماتي، تتلاشى حدودُ الحقيقة، ويتحولُ التحققُ من المصادر إلى مهمةٍ شاقة، تُشبهُ البحثَ عن إبرةٍ في كومة قشٍ رقمي. هذا التحول لم يغير فقط طريقة استهلاكنا للمعلومات، بل أعاد تشكيل مفهوم الحقيقة ذاته، حيث أصبح الخلط بين الواقع والخيال أمرًا يوميًا يواجه كل فرد منا.

*طوفان البيانات: حين يصبحُ الكمُّ عدوَّ الدقة*
تشير الإحصاءات العالمية إلى مشهدٍ مذهلٍ يعكسُ حجمَ البياناتِ المتدفقةِ في كل لحظة. وفقًا لتقرير صادر عن شركة IDC، يُنتَج سنويًا أكثرُ من 97 زيتابايت من البيانات، مع توقّعاتٍ بارتفاع هذا الرقم إلى 175 زيتابايت بحلول عام 2025. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائياتٍ صمّاء، بل هي مرآةٌ تعكسُ عمقَ التحوّلاتِ الرقميةِ التي اجتاحت عالمنا. فكل تغريدة، منشور، فيديو، أو حتى تعليق بسيط يُضيف إلى هذا المحيط الهائل من البيانات، مما يجعلُ عملية التنقيب عن المعلومة الدقيقة كالتنقل في متاهةٍ لا نهاية لها.
إن هذا الطوفان لا يهدد فقط الدقة، بل يخلق أيضًا بيئة خصبة لتكاثر المعلومات المغلوطة، حيث يُصبح من السهل تمرير الأكاذيب وسط زحام الحقائق. تأمّلْ هذا: يوميًا، تُنشرُ 500 مليون تغريدةٍ على منصة X (تويتر سابقًا)، وتُرسل أكثرُ من 350 مليار بريدٍ إلكتروني، بينما تتدفق 720 ألف ساعةٍ من مقاطع الفيديو على يوتيوب. هذا الكمُّ الهائلُ من البيانات لا يُنتَج فقط؛ بل يُستهلكُ ويُعاد تدويرهُ ويُفسَّرُ بطرقٍ لا حصر لها، ما يجعلُ عملية فرزها وتقييم مصداقيتها مهمةً معقّدةً تتجاوزُ قدراتِ الإنسانِ العادي. في هذا السياق، يصبح السؤال الأهم: كيف يمكننا تمييز المعلومة الصحيحة من بين هذا السيل الجارف من المحتوى؟

*بين الحقيقة والتضليل: سلاحُ المعلومات في العصر الرقمي*
لم تعُد المعلوماتُ مجرّدَ ناقلٍ للمعرفة، بل تحوّلت إلى أداةٍ تُستخدمُ لتشكيل العقولِ وتوجيه السلوكيات. ففي عالمٍ يتحركُ على وقع الخوارزميات، لا تُنشر المعلوماتُ دائمًا بغرض الإخبار، بل قد تحملُ في طيّاتها أهدافًا خفيّةً: سياسية، واقتصادية، وحتى أمنية. الخوارزميات التي تتحكم في ترتيب وعرض المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي غالبًا ما تعزز المعلومات المثيرة للجدل أو التي تثير مشاعر قوية مثل الغضب أو الخوف، مما يزيد من انتشار المعلومات المضللة ويخلق فقاعات فكرية تعزل الأفراد عن وجهات النظر المختلفة.
وسط هذا المحيطِ المتلاطم، تظهرُ إشكاليةُ التحقق من المعلوماتِ كواحدةٍ من أخطر التحديات. فالسرعةُ الفائقةُ في انتشار المحتوى جعلت من الصعب تتبع أصول أي معلومة، بينما ساهم تنوعُ المصادرِ واختلافُ مستوياتِ مصداقيتها في خلق بيئةٍ خصبةٍ لنمو الأخبار المضللة. ومع تطوّر تقنيات الذكاء الاصطناعي وظهور ظواهر مثل التزييف العميق (Deepfake), أصبح تزويرُ مقاطع الفيديو والصوتيات أمرًا يسيرًا، مما يُفاقم من خطر التضليل ويهدد بثقة الشعوب في مؤسساتها. فالفيديوهات المفبركة لم تعد بحاجة لتقنيات معقدة؛ يكفي تطبيق بسيط لتحويل الحقيقة إلى كذبة مقنعة.

*الغاياتُ المستترة خلف تدفّق المعلومات*
المعلومات ليست بريئةً دائمًا من الغايات. فقد تُستخدمُ كأداةٍ لتوجيه الرأي العام، أو لتحقيق مكاسب مالية، أو حتى كسلاحٍ في الحروب السيبرانية. فهناك من يوظفُ المعلوماتِ لتضخيم المنتجاتِ والخدمات، وهناك من يزرعُ الأخبارَ الكاذبةَ لتأجيج الأزمات وزعزعة الاستقرار. هذه الاستراتيجيات تعتمد على فهم عميق لعلم النفس البشري، حيث تُصمم المعلومات لتستهدف نقاط الضعف الإدراكية، مثل الميل لتصديق المعلومات التي تتفق مع معتقداتنا المسبقة أو التي تثير استجابات عاطفية قوية.
لذلك، يتطلبُ التعاملُ مع المعلوماتِ وعيًا نقديًا عميقًا. يجبُ ألا نتعاملَ مع كل ما يُنشر وكأنه حقيقةٌ مسلّمة، بل ينبغي علينا فحصُ خلفياتِ المعلومات وتحليلُ سياقاتها قبل تصديقها أو إعادة نشرها. إن تطوير هذا الوعي يبدأ من التعليم، حيث يجب تضمين مهارات التفكير النقدي والتحقق من المعلومات في المناهج الدراسية.
إن انتشارَ المعلوماتِ المضللةِ لا يؤثر فقط على الأفراد، بل يمتدُّ ليطالَ المجتمعاتِ بأكملها. فقد يؤدي إلى اتخاذ قراراتٍ خاطئةٍ على المستويات السياسية والاقتصادية والصحية. خلال جائحة كورونا، شاهدنا كيف ساهمت المعلوماتُ الزائفةُ في خلقِ حالةٍ من الهلع والارتباك، مما عرقل جهود الاستجابة للأزمة. لم يقتصر الأمر على نشر نظريات المؤامرة حول الفيروس واللقاحات، بل تعداه إلى تحفيز سلوكيات خطيرة مثل رفض الامتثال للإجراءات الصحية، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الصحية.

*العراق كنموذج: هشاشة البنية التشريعية في مواجهة الطوفان الرقمي*
تتفاقم هذه التحديات في دولٍ مثل العراق، حيث تغيبُ الأطرُ التشريعيةُ والسياساتُ الواضحةُ لتنظيم المحتوى الرقمي. إن غيابَ قوانين صارمةٍ لمكافحة الأخبار المضللة يفتحُ البابَ على مصراعيه أمام حملات التشويه والتضليل، مما يؤثرُ سلبًا على الأمن الوطني ويهددُ الاستقرارَ الاجتماعي. ففي غياب رقابة فعالة، تصبح المنصات الرقمية مسرحًا لصراعات سياسية ومصالح متضاربة، تُستغل فيها المعلومات كسلاح لتصفية الحسابات أو تأجيج الخلافات. كما أن ضعف الوعي الرقمي بين الجمهور يجعل من السهل استغلاله لنشر الشائعات وتأجيج الصراعات.
لمواجهة هذه التحديات، نحتاجُ إلى نهجٍ متكاملٍ يجمعُ بين التوعية الرقمية، وتطوير التكنولوجيا، وسنّ التشريعات القانونية، وتعزيز التعاون الدولي. تواجهُ العراقُ تحديًا مضاعفًا نظرًا لغياب السياسات الوطنية المنظمة للمحتوى الرقمي. لذلك، يجب صياغة سياسات وطنية تُنظّم المحتوى الرقمي وتحدد المسؤوليات القانونية، وإنشاء هيئات رقابية مستقلة لضمان الشفافية والمساءلة، وتعزيز قدرات المؤسسات المحلية لمواجهة تحديات المعلومات الحديثة.
في عالمٍ يتغيرُ بسرعةِ الضوء، تبقى الحقيقةُ هي البوصلةُ التي يجبُ أن نهتدي بها. وبين طوفانِ المعلوماتِ وسُحبِ التضليل، تظلُّ معركتُنا الأهم هي الحفاظُ على نقاءِ المعرفةِ وسطَ ضوضاءِ العصر الرقمي.

أخر الأخبار