• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

وهم المعرفة: الإدراك الزائف والحدود الخفية للفهم

وهم المعرفة: الإدراك الزائف والحدود الخفية للفهم

  • اليوم, 18:00
  • مقالات
  • 17 مشاهدة
د. محمد عصمت البياتي

"Today News": بغداد 

في عصر المعلومات المتدفقة، حيث يمكن الوصول إلى كمٍّ هائلٍ من البيانات بضغطة زر، يقع الكثيرون في فخ "وهم المعرفة"—ذلك الشعور المضلل بأنهم يمتلكون فهمًا عميقًا لموضوع ما، في حين أن معرفتهم به سطحية أو غير مكتملة. هذه الظاهرة ليست مجرد خطأ إدراكي بسيط، بل يمكن أن تؤدي إلى تبعات خطيرة في مجالات متعددة، بدءًا من النقاشات اليومية وصولًا إلى اتخاذ قرارات مصيرية في السياسة والاقتصاد والصحة.

*ما هو وهم المعرفة؟*
وهم المعرفة هو الميل إلى المبالغة في تقدير مستوى الفهم والمعرفة حول موضوع معين، مما يجعل الشخص يعتقد أنه خبير في مجال ما رغم امتلاكه لمجرد معلومات سطحية. هذه الظاهرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يُعرف بـ"تأثير دانينغ-كروجر" (Dunning-Kruger Effect)، حيث يبالغ غير الخبراء في تقدير معرفتهم بينما يدرك الخبراء الحقيقيون مدى تعقيد الأمور. أحد الأمثلة الشائعة لهذه الظاهرة هو الشخص الذي يشاهد بضعة مقاطع فيديو على الإنترنت حول علم الفلك، ثم يبدأ بإلقاء محاضرات على الآخرين حول أسرار الكون وكأنه عالم فضاء، متجاهلًا سنوات الدراسة والبحث التي يحتاجها هذا المجال.

*أسباب انتشار وهم المعرفة*
إحدى الأسباب الرئيسية لانتشار وهم المعرفة هي سهولة الوصول إلى المعلومات دون الحاجة إلى التعمق. في الماضي، كان الحصول على المعرفة يتطلب مجهودًا كبيرًا، سواء عبر الدراسة الأكاديمية أو التجربة العملية. أما اليوم، فبضعة نقرات على محركات البحث أو تصفح مقاطع الفيديو المختصرة قد تجعل البعض يظنون أنهم أتقنوا موضوعًا معينًا، بينما لم يلمسوا إلا سطحه. على سبيل المثال، قد يقرأ شخص مقالًا قصيرًا عن القانون الدولي، ثم يبدأ في مناقشة متخصصين في المجال، معتقدًا أن لديه فهمًا يوازي دراستهم الأكاديمية الطويلة.

سبب آخر هو التحيز المعرفي والبحث الانتقائي، حيث يميل البشر إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم وتجاهل الأدلة التي تناقضها. هذا التحيز يُعزز وهم المعرفة، حيث يشعر الفرد بأنه يعرف الحقيقة الكاملة بينما هو في الواقع محصور في فقاعة فكرية تعزز قناعاته المسبقة. مثال على ذلك هو الشخص الذي يقتنع بنظرية مؤامرة معينة، فيبحث فقط عن مصادر تدعمها ويتجاهل الأبحاث العلمية التي تدحضها، مما يجعله يشعر بأنه "خبير" في القضية.
كذلك، فإن الأنظمة التعليمية القائمة على الحفظ والتلقين دون تحفيز التفكير النقدي تسهم في تعزيز هذه الظاهرة. عندما يقتصر التعليم على تخزين المعلومات بدلًا من تحليلها أو تطبيقها، يصبح الأفراد قادرين على ترديد الحقائق لكنهم يفتقرون إلى الفهم العميق لكيفية استخدامها. على سبيل المثال، قد يحصل طالب على درجات مرتفعة في الفيزياء لأنه يحفظ القوانين، لكنه لا يستطيع تفسير الظواهر الفيزيائية أو تطبيق ما تعلمه في مواقف جديدة.

*الآثار السلبية لوهم المعرفة*
إحدى أخطر عواقب وهم المعرفة هي اتخاذ قرارات خاطئة بناءً على معلومات غير مكتملة أو مضللة. عندما يظن الشخص أنه يعرف كل شيء عن موضوع معين، فقد يتجاهل آراء الخبراء أو يتخذ قرارات دون بحث كافٍ، مما قد يؤدي إلى نتائج كارثية. مثال على ذلك هو المستثمر الذي يعتقد أنه يفهم سوق الأسهم جيدًا بناءً على متابعة الأخبار السريعة، فيستثمر أمواله بطريقة خاطئة ويخسرها بسبب قرارات غير مدروسة.
انتشار المعلومات المضللة يعدُّ من أخطر تداعيات هذه الظاهرة، خاصة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي. يساهم وهم المعرفة في نشر الشائعات والمعلومات الزائفة بسرعة هائلة، حيث يقوم أشخاص غير مختصين بنقل معلومات غير دقيقة وكأنها حقائق مؤكدة. قد يقوم شخص، على سبيل المثال، بنشر "علاج معجزة" لمرض معين دون أي دليل علمي، مما قد يدفع بعض المرضى إلى تجنب العلاجات الطبية الفعالة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي وهم المعرفة إلى إعاقة التعلم الحقيقي. عندما يعتقد الإنسان أنه يعرف كل شيء، يفقد الرغبة في التعلم والتطور، مما يؤدي إلى ركود فكري وتراجع قدرته على التفكير النقدي والتحليل العميق. على سبيل المثال، قد يرفض موظف حضور دورات تدريبية متخصصة لأنه يظن أن خبرته كافية، بينما زملاؤه الذين يواصلون التعلم يحققون تقدمًا مهنيًا ملحوظًا.

*كيف يمكن التغلب على وهم المعرفة؟*

تقبُّل الجهل هو الخطوة الأولى نحو التعلم الحقيقي. الاعتراف بأن المعرفة الحقيقية تبدأ بإدراك حدود الفهم يساعد في تطوير الذات واكتساب فهم أعمق لمختلف الموضوعات. بدلاً من الشعور بالإحراج عند عدم معرفة شيء معين، من الأفضل طرح الأسئلة والبحث عن إجابات من مصادر موثوقة.
التحقق من المصادر والتعمق في البحث يُعدُّ أمرًا ضروريًا لمكافحة هذه الظاهرة. لا يكفي قراءة مقالات قصيرة أو متابعة منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، بل يجب البحث في الدراسات العلمية والكتب المتخصصة لضمان صحة المعلومات. كما أن ممارسة التفكير النقدي يمكن أن تساعد في تمييز الحقائق من الآراء والمعلومات المضللة. عند مواجهة معلومة جديدة، ينبغي التساؤل: من هو المصدر؟ هل هناك دليل علمي؟ هل تتعارض هذه المعلومة مع أبحاث موثوقة؟
التواضع المعرفي والانفتاح على آراء الآخرين يعدان من أهم وسائل التغلب على وهم المعرفة. الاستماع إلى وجهات نظر مختلفة، خاصة من الخبراء، يمكن أن يساعد في توسيع المدارك وكشف الفجوات في المعرفة الشخصية. من المفيد أيضًا النقاش مع أشخاص لديهم خبرة فعلية في الموضوعات المختلفة والاستعداد لتغيير الرأي إذا ظهرت أدلة قوية.

أخيرًا، فإن التعلم من التجربة والتطبيق العملي هو الطريق الأمثل لاكتساب المعرفة الحقيقية. لا تقتصر المعرفة على القراءة أو الاستماع، بل يجب أن تكون مدعومة بالتجربة العملية والتفاعل المباشر مع الواقع. إذا كان الفرد مهتمًا بموضوع معين، فعليه أن يجرب العمل عليه بشكل عملي، سواء من خلال مشاريع شخصية، أو دورات تدريبية، أو تطبيقات عملية في الحياة اليومية.
وهم المعرفة هو تحدٍّ ذهني يقع فيه الكثيرون، لكنه ليس عقبة لا يمكن تجاوزها. من خلال التواضع الفكري، والتفكير النقدي، والسعي المستمر لاكتساب المعرفة الحقيقية، يمكننا تقليل تأثير هذا الوهم وبناء فهم أعمق وأكثر دقة للعالم من حولنا. فالمعرفة ليست مجرد تجميع المعلومات، بل هي القدرة على تحليلها وتطبيقها بحكمة.

أخر الأخبار