• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

الإمام علي .. المدى الذي تعجز الأسماء عن بلوغه، وتذوب فيه الأشباه

الإمام علي .. المدى الذي تعجز الأسماء عن بلوغه، وتذوب فيه الأشباه

  • 20-03-2025, 23:22
  • مقالات
  • 61 مشاهدة
د. محمد عصمت البياتي

"Today News": بغداد 

في عوالم الفكر والتأمل، يعلّمنا الوجود أن لا ظاهر يخلو من باطن، ولا مبنى يقوم من دون معنى يسكنه ويتغلغل في تفاصيله. فكلُّ ما تراه العين تحمله روحٌ خفيّة، وكلُّ ما تُدركه الحواس ما هو إلا إشارات تُفضي إلى عمقٍ أبعد من الملموس. هكذا تواطأت الحكمة والفلسفة، وهكذا همس العارفون في سرائرهم: لا شيء منفصل عن دلالته، ولا هيئة إلا وفيها ظلٌّ من جوهرٍ مستتر.

غير أن في هذا الوجود من تتجلّى فيه هذه الحقيقة بنحوٍ أعجز العقول وأربك المقاييس، ومنهم الإمام علي بن أبي طالب، ذاك الذي لا يُحاط بمعادلات التشبيه، ولا يُختزل في رسم أو وصف. الإمام علي ليس مجرّد اسمٍ يمرُّ بين الأسماء، بل هو الاسم الذي كلّما نطقت به الألسن، تهامست الأرواح بأن وراءه سرًّا لا يُدرك، وجوهرًا لا تبلغه الأفهام.

أهو الإنسان الذي مشى بين الناس، يقاتل في الحروب، يحكم بالعدل، يسهر في المحراب حتى تتورّم قدماه؟ أم هو ذلك النور المكنون، الذي كلّما حاولت النفوس الإحاطة به، انكسرت مراياها وتلاشت حدودها؟

قالها الإمام علي بنفسه، في عبارةٍ تنوء بحملها العقول: "أنا المعنى الذي لا يقع عليه اسم، ولا شبه." كلمة واحدة، لكنها كفيلة بأن تهزّ أركان المنطق، وتفتح للعارفين بوابات الحيرة والدهشة.

فهو الإمام علي الذي يتجاوز معايير الظاهر، ويحلق في "الأفق الأعلى"، حيث تُلغى مقاييس المقارنة، وتسقط الاعتبارات المادية، ولا يبقى إلا المعنى الخالص، العصيّ على التحديد والتأطير. هو المرآة التي تعكس كمال الإنسان في أعلى مراتبه، والمثال الذي به تُقاس القيم لا الأشخاص، وتُوزن النفوس لا الأجساد.

ولأنّ العقول تقف أمام الإمام علي باطنًا وقفة المتحيّر، كان لا بدّ لها أن تتشبث بالإمام علي الظاهر، فتُطيل النظر في عدله، وشجاعته، وزهده، وحكمته. كأنّ الناس يُفتّشون في سيرته اليومية، عساهُم يجدون ما يسدُّ رمق عطشهم للمعنى. لكن الإمام علي، حتى في ظاهره، يظلّ امتحانًا مفتوحًا، كأنَّه نسخة أرضية لمعادلة سماوية لا تنكشف إلا لمن امتلك قلبًا يحمل النور، وعقلًا يذوب في العرفان.

أمام سيرة الإمام علي، نجد أنفسنا أمام إنسانٍ هو في آنٍ واحد: سيف الحقّ المسلول، ودمعة العابد الخاشع، وقنديل الزهد، وميزان العدل. مَن رام أن يفهم كيف تجتمع الأضداد في قلبٍ واحد، وكيف يُمكن للإنسان أن يكون حجرًا في وجه الباطل، وماءً رقراقًا أمام اليتيم والمسكين، صلبًا في الحق، رقيقًا مع الضعفاء، فلينظر في الإمام علي، فهو النور الذي إذا انكشف لك طرفٌ منه، أضاءت لك كلّ دروب الإنسانية.

إن الإمام علي، في باطنه وسرّه، سؤالٌ لا تُجيب عنه الكتب، ولا تستنفده العقول، وفي ظاهره وسيرته، مدرسةٌ كاملة تُدرّس للدهور دروس الأخلاق والبطولة والوعي.

هو الإمام علي، الإنسان الذي لا تحيط به الأسماء، والمعنى الذي لا تطاله الأشباه، والمبنى الذي كلّما حاولت تفكيكه، أعاد تركيبك على هيئة سؤال:
كيف يكون الإنسان وجهًا لله في أرضه، وظلًّا لعدله في خلقه، ومعنىً تتناسل منه المعاني دون أن يُحدّ أو يُحتوى؟

الإمام علي... هو الحيرة الباقية، والدلالة الدائمة، والعنوان المفتوح على آفاق لا تُدركها إلا القلوب العارفة، حين تترك الأسماء خلفها، وتغوص في بحر المعنى الذي لا ساحل له.

أخر الأخبار