تأسيس بغداد
في عام 145 هج/ 762 م قام الخليفة أبو جعفر المنصور بتأسيس مدينة بغداد. وامتازت المدينة الجديدة بكونها مدورة ، وهو شكل غريب في المدن الاسلامية، لكن بعض الباحثين (مصطفى جواد وأحمد سوسة) يرى أنها تقليد للتصميم البنائي لمدينة الحضر المدورة ، من حيث الشكل والمساحة، وآثارها ما تزال قائمة. كما أنها تشبه مدينة مأرب التي كانت مستديرة، وكذلك مدينة طيسفون (سلمان باك) جنوب بغداد. وكانت المدينة المنورة تقع في جانب الكرخ ، في موضع محلتي العطيفية والشالجية، وقريبة من الكاظمية. وقيل أن قطر المدينة من باب إلى باب مقابل كان يبلغ (2000) متراً ، ومساحتها تبلغ (180,000) متراً مربعاً . وقيل بأن مساحتها بلغت 3 ملايين متر مربع أو 3 كيلومتر مربع، وهو الأقرب. وبلغ عدد نفوس بغداد في أوجها بحدود مليون نسمة. وهو رقم كبير في تلك الفترة لم تبلغه أية مدينة في العالم طوال قرنين. وأصبحت بغداد مركزاً للحضارة العالمية والتمدن الاسلامي ومقراً للعلوم والفنون والآداب ، وزهت بالعلماء والأدباء والشعراء والكتاب والمترجمين وارباب الفنون والصناعات. وأنشئت فيها المساجد والمستشفيات والمراصد الفلكية والمدارس والمعاهد والكتاتيب وخزائن الكتب والمستشفيات ومعامل الزجاج والنسيج والورق. وفي بغداد وضعت أول خارطة للعالم سميت بالصورة المأمونية ، نسبة إلى المأمون. وقد فاقت ما قدمه اليونان من دراسات في الجغرافيا.
عمارة مدينة السلام
أحيطت المدينة بسورين وخندق ماء يفصل بينهما ، والخندق مدعم بمسناة ضخمة بنيت بالآجر . وعلى الأسوار توجد أبراج للمراقبة والتحصينات الدفاعية. وكان عرض السور الخارجي أو السور الأعظم كما يسمى في أساسه يبلغ 45 متراً ثم يصغر حجمه حتى يبلغ 12 متراً ونصف في أعلاه، وبارتفاع 30 متراً . ومن يدخل المدينة لابد ان يجتاز أحد الأبواب ، ثم يعبر فوق الخندق المائي.
كان لمدينة السلام أربعة أبواب: باب الشام، باب الكوفة ، باب البصرة، باب خراسان. والأخير كان يسمى أيضاً باب الدولة أو باب الاقبال ، لاقبال الدولة العباسية من خراسان. وعلى كل باب قبة معقودة عظيمة مذهبة ، وحولها غرف وممرات للجند والمشرفين على حركة الدخول والخروج.
وفي وسط المدينة خصص منطقة في الوسط هي الرحبة ، شيد المنصور فيها مسجداً كبيراً سمي بجامع المنصور. وحول الرحبة بنى الدوائر الحكومية كديوان الجند وبيت المال وديوان الرسائل وديوان الخراج وديوان الخاتم وديوان الحوائج وديوان الأحشام وديوان الفقات ومطبخ العامة. وقام بفرز الأراضي وفتح الشوارع وقسمها إلى محلات ، ورصف الشوارع بالحجر.
القصور العباسية
كان المنصور قد قرر أن يسكن في المدينة فبنى قصوراً له ولأولاده وأقاربه وأمرائه مثل:
1- قصر باب الذهب
المشهور بقبته الخضراء التي قلد بها خضراء الحجاج في واسط. وكان القصر معزولاً عن أي جوار سوى دار الحرس الذين يحرسون الخليفة وأسرته. وكانت هناك سقيفة كبيرة ، وممتدة على أعمدة مبنية من الطابوق والجص. وحول الرحبة تم بناء منازل أولاد المنصور الصغار ، ولعبيده القريبين منه.
كانت مساحة القصر 200متر في 200 متر . وكانت القبة الخضراء في وسطه ، وكانت ترى من أطراف بغداد لأنها كانت بارتفاع 40 متراً أي بارتفاع بناية ذات 12 طابقاً. وكان على رأس القبة تمثال على صورة فارس بيده رمح. وتحت القبة أنشئ مجلس كبير، في صدره إيوان عظيم على الطراز الفارسي، عرضه عشرة أمتار وارتفاع قوسه عن الأرض 15 متراً.
وكان قصر باب الذهب هو المقر الرسمي للمنصور والخلفاء الأوائل من بعده . ولم يقم الرشيد فيه ، لكن ابنه الأمين اتخذ منه بلاطاً له ولعائلته وحاشيته وخدمه. وكان الأمين قد تحصن بهذا القصر عندما هاجمته قوات أخيه المأمون عام 198 هج/ 814 م ، وتحصن رجاله بأسوار المدينة المدورة. وأصيب اللقصر بأضرار كبيرة بسبب قذائف المنجنيق. أما القبة الخضراء فظلت قائمة حتى سقطت عام 329 هج/ 941 م بسبب أمطار غزيرة مصحوبة برعد وبرق شديد، وقيل أنها أصيبت بصاعقة أحرقتها.
2- قصر الخلد
وقد بناه المنصور بعد بضع سنين على نهر دجلة قرب باب خراسان. وسمي بالخلد نسبة إلى حدائقه الواسعة وتشبيها بجنة الخلد ، و (ما يحويه من كل منظر رائق ومطلب فائق وغرض غريب ومراد عجيب ) على حد وصف الخطيب البغدادي. وتم بناء قصر الخلد عام 159 هج / 776 م وأختير ليطل على نهر دجلة ، بعكس قصر باب الذهب بعيد عن النهر. وقد أقام الرشيد في هذا القصر وعاش فيه طول إقامته في بغداد. ولم يبق شيء من هذا القصر.
3- قصر عيسى
وقد بناه الأمير عيسى بن علي عم المنصور على نهر الرفيل فصار يسمى نهر عيسى. ويذكر ياقوت الحموي: إن قصر عيسى هو أول قصر بناه الهاشميون في أيم المنصور ببغداد.
4- قصر القرار
وهو مشابه لقصر الخلد ، واسمه مستعار من القرآن الكريم ( وإن الآخرة هي دار القرار) ، كما أطلق على الخلد من قوله تعالى (لهم فيها دار الخلد) .
وقامت زبيدة بنت جعفر العباسية ببناء القصر وكان يعرف باسم قصر زبيدة، وسكنه ابنها الخليفة الأمين. وكان يقع على ضفة دجلة ، وتم فرشه بأفخر الستائر والسجاد ، وتم تذهيب السقوف والجدران . وكان الأمين يخصص له يوماً يجمع فيه الندماء والشعراء والمغنين والعازفين، و كانوا يشربون النبيذ فيه تحيط بهم الجواري والقيان والولدان، وورد أن أبي نؤاس كان يحضر هذه المجالس.
كانت جدران القصر بيضاء اللون تحيط بها إزارة ذهبية . أما أبوابه فكانت ضخمة مزدانة بمسامير الذهب المرصعة بالجواهر النفيسة . وأما الفرش فكانت حمراء عليه صور للصقور من الذهب . وكانت أنواع الطعام الفاخر تقدم للضيوف وصنوف الفاكهة والبطيخ .
وقد قتل الأمين في قصرالقرار وبعث برأسه إلى أخيه المأمون فبكى، وتم حرق القصر من قبل الطاهر بن الحسين عام 197 هج/ 812 م ، حتى قال الشاعر عبد الرحمن بن أبي الهداهد يرثي الأمين فقال:
أقول وقد دنوت من القرار سقيت الغوث يا قصر القرار
رمتك يد الزمان بسهم عين فصرت ملوحاً بدخان ونار
5- قصر التاج
فقد وضع أسسه المعتضد وأتم بناءه ابنه علي المكتفي. وقد أصبح أهم مركز رسمي.وكان قصر التاج يطل على نهر دجلة جنوب القصر الحسني. وأنشئت له مسانة عظيمة لصد تيار النهر ومنع تأثير مياهه فيه. وكانت المسناة على هيأة خاصة لقصر التاج. وكان القصر يشرف على هذه المسناة كأنه التاج. وكان المعتضد قد أمر بهدم القصر الأبيض الكسروي في المدائن، وجلب آجره في مشارف التاج. وبنى المكتفي إلى جانب القصر قبة دعيت قبة الحمار لأنه كان يصعد إليها في سلم حولها على حمار صغير ، وكانت عالية مثل نصف الدائرة. فكانت تشبه ملوية سامراء في الصعود إليها.
في عهد المقتدر (908-932م) أقيمت مبان أخرى حول قصر التاج من بينها اصطبلات كانت تسع لتسعة آلاف من الخيل والبغال والابل .
وكان ضمن حريم قصر التاج البستان الجميل الذي اعتنى بانشائه الخليفة القاهر أخو الخليفة المقتدر
وخلفه سنة (932-934 م) ، وقد وصفه المسعودي بقوله: (وكان للقاهر في بعض الصحون بستان نحو من جريب، قد غرس فيه من النارنج، وحمل إليه من البصرة وعمان مما حمل من أرض الهند. وقد اشتبكت أشجاره ، ولاحت ثماره كالنجوم من أحمر وأصفر ، وبين ذلك أنواع الغروس والرياحين والزهر. وقد جعل في ذلك الصحن أنواع الأطيار من القماري والدباسي والشحارير والببغ ، مما قد جلب إليه من الممالك والأمصار. فكان ذلك في غاية الحسن. وكان القاهر كثير الشرب عليه والجلوس في تلك المجالس).
وفي عام 1154 م شب حريق في قصر التاج بسبب صاعقة أصابته ، فاستمرت النار تشتعل فيه لمدة تسعة أيام حتى تحول إلى ركام، لكن أعيد بناؤه في عهد المستضيء.