الرئيسية / هذا ما دوّنه رحالة أندلسي عن بغداد ومعالمها قبل 837 عاماً

هذا ما دوّنه رحالة أندلسي عن بغداد ومعالمها قبل 837 عاماً

"Today News": متابعة 

في مثل هذه الأيام قبل 837 عامًا استقبلت بغداد رحالة أندلسيًّا مرّ بها في طريق عودته من الحج، لم يكن هذا الزائر مجرد عابر سبيل، بل كان كاتبًا خطّ قلمه كثيرًا من الكتب التي ضمّنها تجاربه في الحياة، وحكى فيها القصص التي عاشها في حلّه وترحاله.
إنه الرحالة محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي الذي ولد في مدينة بلنسية عام 540 للهجرة، وترعرع فيها وبرزت مواهبه في علوم الدين والحساب والشعر والنثر، وتنقل بين مدن الأندلس، ليستقر به المطاف في غرناطة، حيث استعمله أميرها أبو سعيد بن عبد المؤمن ملك الموحدين في وظيفة كاتم السر، ثم عزم الرحيل قاصدًا مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.
غادر ابن جبير غرناطة مع صديقه أحمد بن حسان في الثامن من شوال عام 578 للهجرة متجهًا إلى الإسكندرية، مارًّا في طريقه بسواحل الأندلس وجزرها، حتى بلغ ثغر مصر الشمالي في 29 من ذي القعدة من العام نفسه.
طالت رحلة ابن جبير، فشملت مصر وبلاد النوبة والحجاز ونجد والعراق والشام وبلدانا أخرى، دوّن خلالها مذكراته ويومياته، وحاول تحليل بعض الظواهر الاجتماعية وتفسيرها في ذلك الوقت المبكر قبل ظهور الاجتماع بصورته الأولية على يد ابن خلدون، وبأدوات بسيطة، جمعها أحد تلاميذه في كتاب عرف باسم "تذكرة بالإخبار عن اتفاقات الأسفار"، ثم ذاع صيته باسم "رحلة ابن جبير" التي قيل إنها بلغت 3 رحلات، وصارت من أهم مصادر البحث في تاريخ ذلك العصر وجغرافيّة أمصاره.

ماضي بغداد
وعند دخوله أرض العراق قادمًا من الحجاز، زار مدينتي الكوفة والحلة وعددا من البلدات والقرى التي صادفها في طريقه، وقدم كثيرا من التفاصيل عن عمرانها وطبائع أهلها وتقاليدهم، حتى وصل بغداد في بدايات عام 580 للهجرة.
استهل ابن جبير مدونته عن بغداد بوصفها بـ" المدينة العتيقة" التي "ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها إلا شهير اسمها"، وقد حملت هذه الكلمات شيئًا من الصدمة أو الخيبة التي راودته، حين رأى بغداد في زمان أفولها، في نهايات الخلافة العباسية، إذ تختلف عما كانت عليه أيام حكم العباسيين الأوائل.
ويشير ابن جبير في مدونته التاريخية هذه إلى انحسار مساحة بغداد التاريخية، وأفول نجمها، وذهاب كثير مما عرفت به من بهائها ومجدها السالف، بسبب كثرة ما أسماها "الفتن والاضطرابات"، متحدثًا عن الخراب الذي أصاب جانبها الغربي وهو الكرخ.
أما الجانب الشرقي وهو الرصافة، فيقول إنه يحتوي على 17 محلة، كل محلة منها مدينة مستقلة، وفي كل واحدة منها الحمامان والثلاثة والثمانية، كذلك "الزوارق فيها لا تحصى كثرة، فالناس ليلا ونهارًا من تمادي العبور فيها في نزهة متصلة رجالًا ونساء"، و"الشرقية حفيلة الأسواق عظيمة الترتيب، تشتمل من الخلق على بشر لا يحصيهم إلا الله، وبها من الجوامع ثلاثة"، ومنها "جامع الخليفة المتصل بداره، وهو جامع كبير، وفيه سقايات عظيمة ومرافق كثيرة كاملة، مرافق الوضوء والطهور".
وهو يشير إلى وجود جسرين في بغداد وقتئذ، "أحدهما مما يقرب من دور الخليفة، والآخر فوقه لكثرة الناس، والعبور في الزوارق لا ينقطع منها".

طبائع العامة
وفضلا عن خيبة أمله بعمران المدينة الذي انحسر كثيرًا، فقد أبدى ابن جبير خيبته كذلك في طبائع أهل بغداد يومئذ، وتحدث عنهم بشيء من القسوة -كما يرى بعض الباحثين التاريخيين- وانتقد غلبة بعض الصفات عليهم.
ولاحظ الرحالة الأندلسي أن بعض الأمراض الاجتماعية قد فشت بينهم، كالرياء والتكبر، وازدراء الغرباء، و"الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده"، "كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادًا أو عبادًا سواهم".
ولكنه عاد فأثنى على فقهائهم ومحدثيهم ووعاظهم، وحكى عن حضوره بعض مجالسهم التي تميزوا فيها بـ"طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير".
ولفتت نظر ابن جبير في بغداد أيضا أساليب الوعظ المؤثرة، وتوظيف شعر النسيب فيها، كذلك أبدى إعجابه بأصوات قرّاء القرآن في جوامع المدينة، الذين يتلون الآيات "على نسق بتطريب وتشويق"، يأتون فيها بـ"تلاحين معجبة، ونغمات محرجة مطربة"، على حد وصفه.
وكانت بعض هذه المجالس تعقد في ساحة قصور الخليفة "رخص بالوصول إليه والتكلم فيه ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته ومن حضر من الحرم، ويفتح الباب للعامة فيدخلون ذلك الموضع، وقد بسط بالحصر".

وصف المدينة
ولكن تلك الصورة "السوداوية" التي رسمها في مقدمة حديثه عن بغداد سرعان ما تلاشت حين شرع في وصف جوامع المدينة الكبيرة ومدارسها وأحيائها السكنية ومشافيها، و"أما المساجد بالشرقية والغربية فلا يأخذها التقدير فضلا عن الإحصاء". وقد لفتت نظره مدارس المدينة كالنظامية وغيرها، ودورها في تقديم العلوم، وتأثيرها الروحي الكبير في عامة الناس.
ويضيف أن "المدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية"، و"أعظمها وأشهرها النظامية وهي التي ابتناها نظام الملك، وجددت سنة أربع وخمسمئة، ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محبسة تتصير الفقهاء المدرسين بها، ويُجرون بها على الطلبة ما يقوم بهم، ولهذه البلاد في أمر هذه المدارس والمارستانات شرف عظيم وفخر مخلد".
و"أما حماماتها فلا تحصى عدة، ذكر لنا أحد أشياخ البلد أنها بين الشرقية والغربية نحو الألفي حمام، وأكثرها مطلية بالقار مسطحة به، فيخيل للناظر أنه رخام أسود صقيل".
ثم أسهب في الحديث عن محلات المدينة أو أحيائها، وما اشتهرت به، وقد لاحظ استيلاء الخراب على الجانب الغربي الذي ابتدأت فيه عمارة بغداد قبل قرون يوم بنيت، أما الرصافة أو جانب المدينة الشرقي فقد بات "دار الخلافة"، و"للخليفة من تلك الديار جزء كبير، قد اتخذ فيها المناظر المشرفة والقصور الرائقة والبساتين الأنيقة".
ثم ذكر أسماء عدد من أعلام الفقهاء والمتصوفة وغيرهم ممن دفنوا في بغداد، كالإمام موسى بن جعفر الكاظمي "ع"، وأبي حنيفة النعمان وأحمد بن حنبل ومعروف الكرخي، وأبي بكر الشبلي والحسين بن منصور الحلاج وغيرهم، لافتًا أيضا إلى أن معظم الحدائق والبساتين تقع في الكرخ، ومنها تُجلب الفواكه إلى الرصافة.
ولم يفته أن يتطرق إلى المارستان أو المستشفى الشهير ببغداد، "وهو على دجلة، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قوَمة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل إليه من دجلة".

 13 يومًا فقط!
وقد صادف أن خرج الخليفة الناصر لدين الله في جولة نهرية بدجلة، فعرفه العامة ومن بينهم ابن جبير، رغم محاولات الخليفة "التعمية" وعدم إظهار نفسه، حسب الرحالة الأندلسي، لكنه أبصره بالجانب الغربي "لابسًا ثوبًا أبيض شبه القباء برسوم ذهب فيه، وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية"، ثم رآه مرة أخرى بعد أيام بالشط الغربي، حيث كان يقيم.
وقبيل الرحيل نقل ابن جبير صورة لأبواب الرصافة، "باب السلطان، ثم باب الظفرية، ثم يليه باب الحلبة، ثم باب البصلية"، مضيفا أن "في الأسواق أبوابًا كثيرة" غير هذه.
ولم تطل إقامة ابن جبير في بغداد أكثر من 13 يومًا، استطاع فيها نقل كل هذه التفاصيل الدقيقة، بعين الناقد البصير، كأنه كان يحمل معه دواته ومحبرته، كي يدوّن كل ما تقع عينه عليه.
غادرها بعد ذلك متجهًا نحو تكريت ثم الموصل، مواصلًا تسجيل ملاحظاته وتعليقاته على المدن التي يدخلها وطبائع أهلها وعاداتهم، كأنه كان يقدم في ذلك الوقت المبكر دليلًا سياحيًّا مكتوبًا لمن ينوي زيارتها أو الإقامة فيها.
ولم يكن أدب الرحلات في التراث العربي مجرد انطباعات سريعة يسجلها الرحالة، بل محاولات للاقتراب أكثر من الجوانب الشخصية للأمم والشعوب، ووصف دقيق لمعالم البلدان وأرجائها، وهو ما جعلها مصدرًا تاريخيًا مهمًا للعصور اللاحقة، بخاصة بعدما دمّر المغول بغداد سنة 656 للهجرة، أي بعد نحو 76 عامًا من زيارة ابن جبير لها، فكان كتابه مدونة تاريخية ترسم لنا صور كثير من المعالم التي زالت وانمحى أثرها، بفعل الحروب أو الإهمال.
21-05-2021, 13:19
عودة