"Today News": بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
كثيرون هم الذين يبكون حزنا على مصيبة شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه (سلام الله عليهم) في ذكرى ملحمة الطف في كربلاء، هؤلاء تفاعلوا مع الأبعاد العاطفية في المصيبة الكبرى، ولكن عددا منهم اكتفى بهذا القدر من المصيبة، من دون التركيز على الأبعاد العقائدية والسياسية التي هي من المسببات الرئيسة التي أدت إلى هذه المصيبة.
المطلوب من استمرارية التعازي وتذكر ما حدث في الملحمة الحسينية ليس الحزن والبكاء فحسب، وإنما إبقاء قوة الشحن العقائدي للنهضة الحسينية والالتزام بالقيم والمبادئ الإسلامية التي من أجلها ضحى الإمام وأهل بيته وأصحابه، ولكي تبقى الملحمة معلما تغييريا مستمرا لإصلاح النفس الإنسانية وتوعية الضمير والوجدان، ومشعلاً وَجذوة متقدة لإصلاح الأمة في كل زمان ومكان مع التاريخ والأجيال ضد أنواع الظلم والجور والطغيان.
شخص الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) (الملقب بـزين العابدين والسجّاد لطول سجوده) الخلل الذي وقع به المسلمون في معركة الطف في كربلاء عام 61 هـ، ألا وهو الخلل الإيماني والتربوي، والمغريات المالية، والمناصب، و
التهديد بالقتل الذي استخدم لإجبار الناس على مقاتلة الإمام الحسين بن أمير المؤمنين الإمام علي وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (أم أبيها) الرسول محمد خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله).
مشروع الإمام السجاد يتلخص بقوله (ع): "الخَيرُ كُلّهُ صِيانَةُ الإنْسانِ نَفسَهُ"، هذه الصيانة هي في استمرارية الحفاظ على الدين الإسلامي، وتقوية تقواه، وزيادة وعيه وحذره من الانخداع بالمكر والماكرين، كما أن الاهتمام بالدعاء ووعي مفاهيمه يساهم في إحياء الضمائر وتنقية النفوس لإصلاحها وبشكل جذري لتقوية علاقتهم بخالقهم الله (عز وجل) والسير وفق منهج رسول الله محمد (ص) وأهل بيته الكرام، ولتشخيص الباطل والظالم والمعتدي، ويؤثر ذلك في متبنيات الإنسان الفكرية والعقائدية والسلوكية والسياسية، والجهادية مما يجعله مهيئاً للعمل وفق المنهج الإسلامي المطلوب، وليس على منهج غيرهم الذين عاثوا في الأرض فسادا، واقترفوا الجرائم التي لا تنسى.
يوضح الإمام السجاد في دعائه (مكارم الأخلاق) طلب الإنسان من الله (سبحانه وتعالى) لإصلاح ما صدر منه من فساد في عقيدته، وعمله قائلا (ع): "وَاسْتَصْلِحْ بِقُدْرَتِكَ ما فَسَدَ مِنِّي"، ويدعو لحصوله على توفيق الله حتى يرضى عنه قائلا (ع): "اللّهُمَّ لا تَدَعْ خِصْلَةً تُعابُ مِنِّي إلاّ أصْلَحْتَها"، ويطلب من الله أن يسدده ويعينه ويداويه ليكون دائما تحت ظل رحمته وكرمه وعطفه بعيدا عن الشيطان، قائلا (ع): "وَأصْلِحْني بِكَرَمِكَ".
كذلك يحذر من الآثار الخطيرة للسلوك السيئ الذي يقود إلى السيطرة على العقل والخير والصبر والحلم وغيرها قائلا (ع): "إن للحق دولة على العقل، وللمنكر دولة على المعروف، وللشّر دولة على الخير، وللجهل دولة على الحلم، وللجزع دولة على الصبر،... فنعوذ بالله من تلك الدول، ومن الحياة في النقمات". (الدولة تعني هنا الغلبة، السيطرة أو الاستيلاء).
لقد شهد الإمام السجاد معركة الطف في ملحمة المصائب العظام في كربلاء التي جابهت والده الإمام الحسين ومن معه، حيث شارك مع أهل بيت النبوة في الهجرة من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، وبالتالي إلى كربلاء حيث شهادتهم سلام الله عليهم.
ورغم أن الإمام السجاد لم يستطع القتال في معركة كربلاء لمرضه الشديد حيث أصبح معلولاً، إلا أنه عاش المآسي الكارثية التي مر بها أهل البيت قبل وبعد شهادة والده، كان يذكر الناس دائما بالمصائب التي حلت بأهل البيت، وينتقدهم ويوبخهم لمواقفهم المتخاذلة بعدم نصرة الحق وعدم الوفاء والالتزام بما عاهدوا الله عليه لنصرة الإمام الحسين.
اعتقل الإمام السجاد (ع) مظلوما في المدينة المنورة بأمر من الحاكم الأموي الوليد ابن عبد الملك الذي أمر بقتله مسموما بعد أن علم وعرف تأثيره الكبير والواسع على المسلمين في المدينة المنورة والمدن الإسلامية الأخرى، فقرر التخلص منه في 25 محرم الحرام سنة 95 هـ عن عمرٍ ناهز 57 عاماً (ولادته في 5 شعبان عام 38هـ ومدة إمامته 35 عاما).
وحينما علم المسلمون بشهادته مظلوما شهيدا ضجوا بالبكاء والحزن، وحضروا تشييعه ودفنه في البقيع بالمدينة جنب قبر عمه الشهيد المظلوم الإمام الحسن بن علي (عليه السلام).
إننا نستلهم في ذكرى شهادة الإمام السجاد زين العابدين (ع) أن رسائله الإصلاحية أوصلت شحناتها عابرة الساحات ومتجاوزة التحديات عبر التاريخ منذ أربعة عشر قرنا، وما زالت مستمرة إن شاء الله، جاعلة من الانتفاضة الحسينية منارا واضحا لنهضتها ووعيها الرسالي، حتى يملأ الله الأرضَ عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وليد الحلي
24 محرم 1445-31/7/2024