"Today News": بغداد
في خضم التطور التكنولوجي والثقافي السريع الذي يشهده العالم العربي، تبدو اللغة العربية، بثرائها وجمالها، في مواجهة تحديات متعددة تهدد سلامتها واستمراريتها. ولعل من أبرز هذه التحديات انتشار اللغة العامية بشكل واسع في التواصل اليومي، سواء بين الشباب أو حتى في الأوساط الأكاديمية والرسمية. فأصبحنا نشهد انحدارًا واضحًا في استخدام اللغة العربية الفصحى، سواء في التلفظ أو الكتابة، وتزايد الأخطاء الإملائية والابتعاد عن قواعد اللغة الصحيحة، مما ينعكس سلبًا على فهم النصوص وإيصال الرسائل بشكل سليم.
هذه الظاهرة لم تقتصر على الأحاديث اليومية، بل تجاوزت ذلك لتصل إلى المؤسسات التعليمية والإعلامية، بل وحتى في بعض الأحيان إلى الخطابات الرسمية للمسؤولين. وبهذا، تظهر كلمات أجنبية ودخيلة يتم استخدامها بدلاً من المصطلحات العربية الأصيلة، وهي عادة يميل إليها الشباب للتعبير عن السخرية أو التنمر، محاكاةً لما يرونه على وسائل التواصل الاجتماعي. ومما يزيد الأمر سوءاً، انتشار هذه الممارسات في الجامعات، التي يُفترض أن تكون صرحاً للحفاظ على الثقافة واللغة، وكذلك بين أفراد المجتمع في لقاءاتهم اليومية.
إن تفشي العامية وإقحام المصطلحات الأجنبية له أسبابه المتعددة؛ حيث يلعب التعليم والإعلام والبيئة الاجتماعية دوراً أساسياً في ذلك. وربما أضحت هذه الممارسات ثقافة سائدة بالنسبة للكثيرين، لكن لا بد من التساؤل: أين دور المثقفين والمختصين في الحفاظ على هذه اللغة العريقة؟
يجب أن يدرك المثقفون والمهتمون بالشأن اللغوي أهمية دورهم في حماية اللغة العربية. فهم مسؤولون عن توجيه المجتمع وتوعيته بشأن التحديات التي تواجه اللغة العربية، وتوضيح الأضرار التي يمكن أن تحدث نتيجة تجاهلها. كذلك، فإن دورهم يجب ألا يقتصر على الحفاظ على سلامة اللغة في الأوساط الأدبية والأكاديمية، بل يجب أن يشمل السعي لنشر الوعي اللغوي بين فئات الشباب، الذين يمثلون المستقبل، وكذلك استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمنصات لتعزيز هذه الرسالة.
يظل الحفاظ على اللغة العربية مهمة مشتركة تتطلب تعاضد جهود الجميع من مؤسسات تعليمية وثقافية وإعلامية، وكذلك مسؤولية الأفراد في مجتمعنا، لأن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل فحسب، بل هي هوية وتراث يستحق الاهتمام والحفاظ عليه.
تبقى اللغة العربية أكثر من مجرد أداة تواصل؛ فهي هوية عميقة ترتبط بجذورنا وتاريخنا وتراثنا الفكري والثقافي. إن التفريط فيها أو السماح بتدهورها ليس مجرد خسارة لغوية، بل خسارة لفهمنا للذات وللعالم من حولنا، وللقدرة على التعبير عن مشاعرنا وأفكارنا بعمق ورصانة. اللغة ليست كلمات عابرة، بل هي وعاء يحمل داخل طياته روح الأمة وذاكرتها وتطلعاتها.
من هنا، يصبح الحفاظ على اللغة العربية مسؤولية الجميع، بدءاً من الأسرة التي تُعنى بتعليم أبنائها الأسس اللغوية الصحيحة، مروراً بالمؤسسات التعليمية التي يجب أن تعزز أهمية اللغة العربية الفصحى في المناهج الدراسية، وصولاً إلى وسائل الإعلام التي ينبغي أن تلعب دوراً إيجابياً في تقديم المحتوى اللغوي الرصين بعيداً عن العامية المتداولة.
كما أن المثقفين والعلماء والمفكرين هم حراس هذه اللغة، وعليهم العمل على إحياء التراث اللغوي ونشر الوعي بأهمية الحفاظ عليها. ويمكن أن يسهم الأدب العربي، بشعره ونثره، في إعادة إحياء هذه اللغة، وكذلك الأدب الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي حين تُستخدم بشكل واعٍ، لتعزيز مكانة اللغة العربية بين الشباب وخلق رابط عاطفي بينهم وبين لغتهم.
إن تضافر الجهود بين أفراد المجتمع والمؤسسات سيضمن أن اللغة العربية لن تكون ضحية للعصرنة أو للانفتاح الثقافي. بل ستظل حيّةً نابضة، قادرةً على مواكبة المستجدات، ومستمرة في حمل رسالتها الحضارية للأجيال القادمة، متأصلةً في نفوس أبنائها، ومنارةً تسطع في سماء الحضارة الإنسانية.