"Today News": متابعة
منذ أن توفي زوجها وهي بعمر 25سنة، وأم علي (53 سنة) تقضي ساعات النهار جائلة في سوق الشورجة بجانب الرصافة في العاصمة بغداد، مادة يدها طلباً “لإحسان المارة” وفي عينيها الخضراوين الواسعتين نظرة حزن مُدربة، كثيراً ما تدفع الناس إلى مد أيديهم إلى جيوبهم لمساعدتها.
هي تعزز هيئتها الموحية بمأساة تمشي على قدمين، بجملة ترددها بنحو آلي لم تتغير مفرداتها وبنبرة صوت ثابتة منذ بدأت مشوار عملها التوسلي المعتمد على استدرار العطف:”عندي ثلاثة أطفال أيتام أربيهم وأدفع الإيجار”.
جزء مما تقوله صحيح، فعليها أن تسدد ايجار منزلها الصغير المتهالك في أطراف بغداد، ولديها بالفعل ثلاثة أبناء ذكور، غير أن أصغرهم بعمر 24 سنة، وقد تركوها واحداً بعد الآخر منذ سنوات، وهي تعيش الآن بمفردها.
أقرت بذلك بعد أن قبضت على ورقة نقدية فئة 5 آلاف دينار، كانت كفيلة برفع سقف ثقتها بمعد التحقيق وأعترفت لكن بذات نبرة صوتها التي تشبه البكاء، بأنها تلاقي صعوبات كبيرة وهي تجول على قدميها متوسلة الناس:”لابد أن أدور بحثاً عن رزقي في الحر والبرد والغبار على الرغم من مرضي”.
وتضيف:”الشرطة احياناً يضايقونني، مرة طلبوا مني أن أتعهد بعدم التسول مرة أخرى، وطلبوا مني أن اسجل في الرعاية الاجتماعية لكي استلم راتباً”.
تسكت للحظات وكأنها تحاول ان تختار كلمات مناسبة، وتتابع:”راتب الرعاية لن يكفي أجوراً للنقل، ثم أنا إمرأة وحيدة وفقيرة، لماذا يلاحقونني أنا ويتركون عصابات الاجرام والنشالين ومدمني المخدرات في الشارع وقسم منهم أجانب”.
تشير أم علي بذلك، إلى عصابات التسول التي تتقاسم السيطرة على مناطق عدة في العاصمة بغداد، وتستخدم طرق مبتكرة في الاحتيال على الناس، على الرغم من إطلاق الجهات الرسمية حملات لمكافحتها، كما ظاهرة التسول بنحو عام.
وتنبه كذلك، إلى أن التسول لايقتصر على العراقيين، بل أيضاً هنالك أجانب، يدخلون البلاد بطرق متعددة منها بذريعة الزيارة الدينية أو السياحة والعمل، وتستثمرهم عصابات الجريمة المنظمة في شبكاتها ليشكلوا خطراً على المجتمع العراقي برمته وفقاً لمسؤولين وباحثين مطلعين على ملف التسول في البلاد.
نصف مليون متسول
عضو اللجنة القانونية في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات، المستشار سعيد النعمان، يعرف التسول بأنه:” طلب الفرد المال من الآخرين باستخدام وسائل احتيالية عدة للتأثير على عواطفهم وشفقتهم”، ويعدها من الظواهر الاجتماعية “السيئة والمخيفة التي تشكل خطورة تصل الى هدم مقومات المجتمع وهو مرض معدٍ، بل وسريع العدوى يبدأ بالفرد ثم العائلة الحاضنة له ويتسع ليشمل مجاميع كبيرة”
مجاميع تشجع على البطالة والاتكالية وعدم الانتاج، لتهدر بذلك فرص لتطوير ذاتها واستغلال طاقاتها، كما تضع قيودا على أحلام أصحابها ليظلوا اسرى جمع المال لتأمين بعض حاجاتهم المادية أو قوت يومهم ليس إلا.
يقول النعمان بأن هنالك تعطيلاً لتطبيق المادة (390) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 التي تعد التسول “جنحة يعاقب عليها بالحبس لمدة لاتزيد على سنة بالنسبة للبالغين. أما بالنسبة للأحداث فيتم إيداعهم في دور الإيواء والتشغيل والتي لا تتوفر فيها الحد الأدنى من أدوات التشغيل”.
ويعتقد بأن النص القانوني هذا يحتاج إلى “تفعيل ومراقبة ومتابعة مستمرة لتوفير هذه الأدوات”. ويتابع:” أما المادة (391) من ذات القانون فقد تضمنت إيداع المتسول مدة لاتزيد على سنة دارا للتشغيل أن كان قادرا على العمل، أو إيداعه ملجأً، أو دارا للعجزة أو مؤسسة خيرية معترفا بها أذا كان عاجزا أن كان لا يملك مالا يقتاد منه متى كان التحاقه بالمحل الملائم له ممكنا”.
ويرى بأن هذه المادة:” تتحدث عن أدوات لا وجود لها أو أنها لا تفي بالغرض أن وجدت، كما ليس هناك القدرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من المتسولين اذا اودعوا لتنفيذ الأحكام الصادرة ضدهم”.
رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الانسان في العراق فاضل الغراوي، يقدر أعداد المتسولين في البلاد بأكثر من 500 ألف متسول، أغلبهم من الأحداث والنساء، ويقول أن ما نسبته 70% من التسول هو جريمة منظمة و20% تسول ألكتروني و10% تسول تقليدي، وأن احدث صور التسول هي :”التسول الإلكتروني والصحي، والتستر لاقامة مشاريع انسانية أو اجتماعية”.
وحذر من التسول الأجنبي في العراق، مشيراً إلى أنه:”أخطر صورة من صور الإتجار بالبشر” وتقف خلفه عصابات الجريمة المنظمة، التي يقول بأنها استغلت الأوضاع القانونية والأمنية والأقتصادية في العراق لتقوم “بتنشيط تجارة التسول فيه”.
ويضيف:”عصابات الجريمة المنظمة تدخل المتسولين الأجانب للعراق تحت عدة عناوين منها العمالة والزيارات السياحية والدينية والتستر بصفة لاجئ”، كما يبين بأن أغلب جنسيات المتسولين الأجانب هي من الدول الأسيوية واكثرهم من بنغلادش، بينما السوريون يأتون بالمرتبة الأولى بين المتسولين العرب، على حد قوله.
يُذكر أن وزارة الداخلية كانت قد أبعدت خلال سنتي 2023 و2024 أكثر من 10 آلاف متسول أجنبي وأعادتهم إلى بلدانهم، بينما هنالك أعداد كبيرة منهم مازالت داخل العراق دون أن تكون هنالك إحصائية دقيقة بأعدادهم وجنسياتهم.
أسباب الظاهرة
في دراسة أعدها كرار حيدر حسن، حملت عنوان (ظاهرة التسول وتأثيرها على الأمن القومي) نشرت في موقع مركز النهرين للدراسات الأستراتيجية التابع لمستشارية الأمن القومي في رئاسة الوزراء بتأريخ 27/حزيران/يونيو2024، تم تحديد أسباب عدة وراء “تفاقم” ما وصفها بظاهرة التسول في العراق، منها:
الأوضاع الاقتصادية السيئة وتفشي الفقر والبطالة. والنزاعات والحروب وما نجم عنها من نزوح السكان وفقدان الكثير منهم لأعمالهم وممتلكاتهم. وضعف النظام التعليمي وعدم استقراره وتسببه بارتفاع نسبة الأمية والجهل. وضعف البرامج الاجتماعية الفعالة لدعم الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع.
كما أشارت الدراسة إلى أنواع التسول الأكثر شيوعاً في البلاد، كالتسول الفردي المباشر بطلب المال أو غير المباشر بعرض بضاعة بسيطة كالمناديل الورقية ومن ثم توسل المستطرقين لشرائها. والتسول العائلي واستدرار العطف من خلال الأطفال، والتسول المنظم (عصابات التسول) والتسول الموسمي، في الأعياد والمناسبات الدينية.
ولفت كرار في دراسته إلى نوع جديد من التسول ظهر خلال السنوات الأخيرة، يطلق عليه (التسول الألكتروني) ويتم عبر الأنترنيت، من خلال استغلال البعض لوسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الألكترونية لطلب المساعدة المالية عبر نشر قصص مؤثرة عن وضع العائلة كاصابة احد افرادها بمرض خطر.
ونبهت الدراسة إلى مخاطر التسول على المجتمع، كتشويه صورته العامة وزيادة الشعور بعدم الأمان بين السكان، والتسبب بعبء على الاقتصاد المحلي بوجود أفرادٍ اتكاليين يعتمدون على غيرهم بدلاً من العمل، كما أنه يسهم في زيادة معدلات الجريمة واستخدام الأطفال في أعمال غير قانونية.
وبذلك فأن ظاهرة التسول تؤثر وفقا للدراسة على الأمن القومي، لإرتباطها بارتفاع معدلات الجرائم في المدن ولا سيما إذا تعززت بظاهرتي البطالة والفقر بوصفهما “دافعان رئيسيان”، وأن “سرقة المحلات والنشل من أبرز الجرائم المرتبطة بالتسول”.
وأيضاً استغلال الأطفال في التسول، وقد يفضي ذلك إلى دخول الأطفال إلى”عالم الجريمة المنظمة او تجارة المخدارات”، كما أن المتسولين يعيشون ظروفاً صحية سيئة مما يزيد من احتمالية انتشار الأمراض والأوبئة. وان التسول يؤثر على فرص تطوير السياحة، كونه يؤثر على صورة البلاد أمام الزوار الأجانب.
جريمة تفضي إلى جرائم أخرى
القاضي جاسم محمد الموسوي، يصف في مقال له، ظاهرة التسول بالـخطيرة، وأسبابها اجتماعية أو اقتصادية، وأغلبها مهن متوارثة، وقد تكون “مخالفات فردية يقوم بها أفراد أو ضمن مجموعات أو فئات منظمة، وقد تكون ضمن منظمات قد تمتد إلى ما وراء الحدود”.
ويرى بأنها تعد مقدمة لارتكاب العديد من الجرائم مثل:”انتهاك حرمة المساكن والسرقات لتصل الى جرائم الاتجار بالمخدرات وتعاطيها”.
ويقول بان المشرع العراقي تناول جريمة التسول في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل في الباب الثامن ضمن الجرائم الاجتماعية / الفصل الثامن في المواد ( 390 – 392 ) وافرد لها عقوبات تخص “المتسول البالغ والحدث ومن أغرى شخصا على التسول”.
كما يلفت إلى أن قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 28 لسنة 2012 حدد ثمانية صور لإستغلال البشر، من بينها التسول، إذ عد القانون استغلال الجاني للضحية ودفعه للتسول “جريمة من جرائم الاتجار بالبشر وكذلك الخطف القسري للأطفال والبالغين وادخالهم في عصابات الجريمة المنظمة واجبارهم على ممارسة التسول”.
وتحذر سندس نوري حسان، التي تحمل الماجستير في القانون الجنائي، من أن ظاهرة التسول بدأت تأخذ “أشكالاً أكثر إجرامية واحترافية وباتت ترتكب من قبل جماعات اجرامية دولية منظمة”، وتقول بأنها تقوم بإغواء الأطفال للخروج عن سلطة والديهم واستغلالهم بعد ذلك في التسول.
وقد تصل المسألة الى خطف الحدث، وإحداث عاهات في جسد الشخص عمداً ومن ثم استغلاله في التسول لاستدرار العواطف، وأن هنالك “عصابات منظمة تقف خلف التسول وتفضل النساء والاطفال المشردين وتخفي وراءها ظواهر اشد خطراً مثل تجارة الاعضاء والمخدرات والدعارة”.
ولخطورتها، تقول سندس، بأن التشريعات الجنائية الوطنية مارست دورها في مجال مكافحتها، بالتجريم والعقاب عليها واتبعت في سبيل ذلك سياسة جنائية متلائمة مع درجة خطورة تلك الجريمة واثرها السلبي على المجتمع.
منها المادة (390)من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل، التي تعاقب مرتكب فعل التسول بالحبس، مع ذكر بعض الظروف المشددة: “لكن لم ينص على جريمة عصابات التسول كما لم يجعل من ارتكاب التسول من قبل عصابات ظرفاَ مشدداً”.
حملات مكافحة التسول
في العشرين من آذار/مارس 2023، وجه رئيس مجلس القضاء الأعلى د.فائق زيدان، إعماماً بالعدد 379 إلى رئاسة الادعاء العام ورئاسات محاكم الأستئناف كافة، بتحديد يومي 22 و 23 آذار/مارس 2023 موعداً لإطلاق حملة متكاملة لمكافحة الإتجار بالبشر في العراق بهدف إنهاء ظاهرة التسول “لما تشكله من خطر على الأمن”.
عضو لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب العراقي علي نعمة، يذكر بأن وزارة الداخلية مستمرة عبر تشكيلاتها المختلفة بحملة واسعة لمكافحة التسول في المحافظات، معدداً أسباب تلك الحملة:”أولها معالجة ظاهرة سلبية، بالاضافة الى تجنب مخاطر أكبر كون بعض المتسولين هم ادوات للجريمة وسجلت العديد من عمليات السرقة، الى جانب ما تتضمنه الحملة من بعد أمني”، ويستدرك” المتسولون يمكن استغلالهم في ابعاد عدة”.
ويلفت إلى أن هنالك متسولون من جنسيات عربية وآسيوية موجودين بالفعل في العراق وأن “أعدادهم كبيرة يدخلون البلاد سنويا عن طريق التهريب أو من خلال تأشيرة سفر لمدة محدودة ثم يحاولون التواري عن الأنظار ويعمدون لاحقا إلى التسول ولاسيما أن قسما منهم يأتون من دول فقيرة”.
ونبه إلى رصد الأجهزة الأمنية لجرائم سرقة وسطو مسلح متورط بها بعض حاملي جنسيات أجنية “لايحملون تأشيرات دخول”. وقال بأن المتسولين الأجانب
يتواجدون بكثر في المدن المقدسة.
ويفضل هؤلاء التسول على العمل، كون التسول يؤمن دون جهد يذكر أضعاف ما تؤمنه أجور العامل الأجنبي من غير ذوي الخبرة والتي تتراوح بين 300 الى 500 دولار. يقول علي حسين صاحب مخزن للمواد الانشائية في بغداد “المتسول يكفي أن يقف اربع او ست ساعات يوميا في شارع مزدحم او أمام جامع ليحصل على أكثر من 30 دولارا”.
وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، اشتركت مع وزارة الداخلية في الحملة التي انطلقت في التاسع من أيلول/سبتمبر2024 من أجل القيام بواجباتها في رعاية المستحقين. وبحسب مدير دائرة الإعلام والعلاقات العربية والدولية في الوزارة كاظم العطواني، فانها تقوم بجمع بيانات المتسولين الذين يتم اعتقالهم من قبل الداخلية وتقوم بإجراء البحث الميداني للتأكد من أوضاعهم “المستحقون تستكمل الإجراءات لشمولهم بإعانة الحماية الاجتماعية”.
لكن راتب الرعاية الاجتماعية لا يقنع غالبية المتسولين المستحقين بالتوقف عن التسول، كونه يبلغ في المتوسط 200 دولار.
ويقتصر تعامل وزارة العمل في الوقت الراهن مع المتسولين الذين يتم القبض عليهم والمودعين في مراكز وزارة الداخلية دون غيرهم، ويشير العطواني إلى “أخذ تعهد خطي من المتسول بأن لا يعود هو أو احد أفراد عائلته الى مهنة التسول، ومن يعود اليها سيتم اتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم”.
ويؤكد ان الحملة الأخيرة تأتي استكمالاً لعمل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في “القضاء على الفقر بعد شمولها لأكثر من 7 الاف فرد باعانات الحماية الاجتماعية”.
رواتب الرعاية الاجتماعية
عضو مجلس النواب العراقي هيفاء الجابري، فاتحت بالكتاب المرقم 1153 في 13أيار/مايو 2024، وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، لشمول المتسولين برواتب الرعاية الاجتماعية”بعد أخذ تعهدات منهم بعدم التسول”.
وقد تم شمولهم بها بالفعل وفقاً لمدير قسم التشرد والتسول في وزارة العمل هيثم عبود، الذي أكد بأن المتسولين المتراوحة أعمارهم بين 15 و 45 سنة، مشمولون الآن برواتب شبكة الرعاية الاجتماعية، وهو إجراء اتخذته الوزارة ضمن خططا لمكافحة ظاهرة التسول في سنة 2024، على حد قوله.
وذكر بأن المتسولين سيحصلون أيضاً على قروض ميسرة، في حين “سيُحال ملف القاصرين وكبار السن إلى نظام الحماية الاجتماعية وإيوائهم في دور مخصصة”.
وكانت وزارة العمل قد حددت رواتب الرعاية بما يلي: المواطن المتزوج الذي يعيل أسرة مكونة من أربعة أشخاص يصرف له راتب مقداره 420 ألف دينار شهريا، أما المتزوج المعيل لأسرة مكونة من ثلاثة أشخاص فيصرف له راتب مقداره 315 ألف دينار، أما الذي يعيل فردا واحداً فقط، فيبلغ راتب الفردين 210 ألف دينار ، فيصرف له فقط 105 ألف دينار.
وعلى الرغم من عدم ايراد وزارة العمل لأعداد المتسولين الذين استفادوا من برنامج رواتب الرعاية الاجتماعية، إلا أن هيثم عبود عبر عن خيبة أمله لعدم استجابة المتسولين بنحو عام لبرنامج وزارته ويقول:”يعود العديد منهم الى الشوارع بعد فترة قصيرة”. ويعتقد ان السبب في ذلك عصابات الجريمة المنظمة التي تسيطر عليهم.
وحمل المواطنين ضمناً مسؤولية ذلك من خلال دعوته إليهم بعدم منح المال للمتسولين “بل التوجه للتبرع للمؤسسات الخيرية المعروفة عبر الصناديق الموجودة في الشوارع”.
وأكد اعتزام الوزارة على جمع المعلومات الدقيقة عن المتسولين وادخالها في قواعد بيانات متخصصة لتصنيفهم وفق فئات مختلفة، مشيرا الى تبني خطط لإدخالهم دورات تدريبية وورش عمل “مما يتيح لهم فرصة الحصول على قروض ميسرة تساعدهم في بدء مشاريع صغيرة”.
وفيما يخص المتسولين غير القادرين على العمل، كالقاصرين وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة يقول عبود بأنهم “سيستفيدون من أنظمة الحماية الاجتماعية، ويتم ايوائهم في دور الأيتام والعجزة”.
لكن جدوى تلك الخطوة محل شك من قبل بعض المسؤولين، فرئيس الهيئة الاجتماعية في وزارة العمل، احمد خلف، ذكر في تصريحات صحافية أن 90% من المتسولين لديهم رواتب من الرعاية الاجتماعية، وهم من بين سبعة ملايين عراقي يتلقونها. في اشارة وبنحو ضمني إلى عدم جدوى الأمر، فراتب الرعاية لايمنع من استمرار التسول.
بالقرب من مجمع للعيادات الطبية في شارع الكرادة بالعاصمة بغداد، أفترشت سيدة مع طفليها الصغيرين الرصيف، تلفها عباءة رثة سوداء، وتخفي وجهها بطرف غطاء رأسها الأسود كذلك، رفضت ذكر أسمها لشاب كان يهم بالقاء الف دينار الى حضن ابنها. القت بطرف بصرها نظرة عتب، مشككة بدوافع السؤال.
قالت بأنها لاترتكب جريمة عندما تطلب الاحسان من الآخرين لمساعدتها في تربية أطفالها الخمسة، أشارت إلى الطفلين الصغيرين اللذين كانا يجلسان بجوارها على الأرض:”لدي ثلاثة آخرون أكبر منهم”.
السيدة التي ذكرت انها تجاوزت الأربعين من عمرها، تحدثت عن مصاعب كبيرة تواجهها منذ نحو سنتين، عندما دخل زوجها السجن بتهمة تتعلق بالمخدرات، وصار لزاماً عليها الحصول على المال لتغطية تكاليف المعيشة، ورفعت يديها بالدعاء لشخص سمح لها ولأطفالها بالسكن في مبنى غير مكتمل خارج حدود العاصمة بغداد.
تقول بأنها تعرف براتب الرعاية الاجتماعية التي تمنح لأمثالها:”هو غير كاف.. ليس امامي سوى الشارع.. ليست لدي شهادة لكي أجد عملا، والأقرباء من أهل الخير لا يمكن ان يعينوك على نحو دائم”.
حلول جزئية
رئيسة لجنة المرأة والأسرة والطفولة في مجلس النواب دنيا الشمري، تؤكد إضافة فقرة “التسول” إلى مسودة مشروع قانون حماية الطفل الذي قالت بأنه سيشرع في المرحلة المقبلة بعد سنوات من التأجيل. وذكرت بأن “مشروع القانون حساس ويجب الاهتمام به بصورة كبيرة لكونه مختلف عن بقية القوانين من ناحية التدقيق في كل فقرة وكلمة فيه، لكي لا يساء فهمها أو تصبح ثغرة يمكن النفاذ منها لإحداث تجاوزات من أي طرف”.
وتستدرك:”العراق بحاجة لقانون يحمي الفئة الأضعف في المجتمع وهم الأطفال من كل مايتعرضون له”، وتقر بأن القوانين التي شرعت بعد عام 2003 والخاصة بالأسرة والطفل “لم تكن رصينة بشكل كافٍ لحماية الطفل من كل أنواع الاضطهاد أو الحرمان، سواء كان الابتزاز الإلكتروني أو التسول أو العنف الأسري”.
الشمري، تشير الى تزايد ظاهرة التسول يوماً بعد آخر رغم تشريع قوانين مانعة، وإقامة الندوات والورش التي تنبه الى خطورتها “إلا أننا نرى استغلالاً للأطفال بهذه الظاهرة والتي تندرج تحت مسمى الاتجار بالبشر من خلال وجود مجاميع تتاجر بهم وتجبرهم على ذلك”.
تصريحات اعضاء لجنة الطفل البرلمانية كما المسؤولين الحكومين بما فيهم العاملين بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، تؤكد ان معالجة الظاهرة وتداعياتها أمر صعب جدا، وان الحلول المقدمة والمقترحة الى الآن غير كافية.
د. عابد هاشم المتخصص الاجتماعي، يشترط تحسين الأوضاع الأقتصادية قبل الشروع في أي حملة لمكافحة التسول “ليس الجميع موظفون، وفرص العمل ليست متاحة للكل، لذا ينبغي على الحكومة العمل على خفض نسبتي البطالة والفقر وخلق فرص العمل من خلال اطلاق مشاريع إنتاجية جديدة، وتشغيل المعطلة منذ عقود وهي بالآلاف في عموم البلاد”.
ويضيف إلى ذلك، تنفيذ برامج اجتماعية فاعلة ملبية لحاجات فاقدي المعيل، لتنتشل الأسر الفقيرة وتمهد لأفرادها الطرق لإكمال دراستهم، أو تُعلمهم مهناً تُمكنهم من جني مبالغ مالية مناسبة، وتوجيه برامج تعليمية متخصصة لمن يحتاج إليها بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني.
ويقول بان حملة مكافحة التسول التي انطلقت في القسم الأخير من 2024، سبقتها حملة نفذتها سنة 2005، خمس وزارات هي الداخلية والعمل والشؤون الاجتماعية وحقوق الإنسان والعدل والأمن الوطني، وهي كانت تقضي بإيداع المتسولين من كبار السن في دور رعاية المسنين، وتوفير الرعاية للأيتام في دور الدولة الخاصة، واخذ تعهدات من بعضهم بعدم التسول مجدداً.
ويتابع:”القيام بحملة جديدة، يعني بان الحملة القديمة فشلت، لهذا يجب ان تكون هنالك إجراءات دائمة غير آنية، فظاهرة بهذا الحجم لا تحل عبر حملات، والأمر يحتاج الى خطط واقعية للحد منها في الأقل”.
كما دعا الى تفعيل المادة 93 من قانون العقوبات العراقي 111 لسنة 1969، بسجن المتسولين البالغين ممن لا تمنعهم حالتهم الصحية من العمل، وأن يسهم رجال المرور بإبلاغ الأجهزة المعنية عن المتسولين في تقاطعات الشوارع وغيرها من الأماكن، وتتويج كل ذلك بدعم اعلامي مكثف موجه للمواطنين لعدم تشجيع المتسولين من خلال مساعدتهم، وقصر المساعدة على”مستحقيها من غير ممتهني التسول”.
(و، ل) في مقتبل العشرينات من عمره، من جانب الرصافة في العاصمة بغداد، يعاني من عجز كامل عن استخدام رجله اليسرى نتيجة حادث سير أصيب به في طفولته، يجلس أمام بسطيته التي يقول بانه يستخدمها واجهة لحمايته من ملاحقات الشرطة كما عصابات التسول التي يقول بانها منتشرة في مناطق خاصة تسيطر عليها.
يقول بأنه من عائلة فقيرة، ولم يستطع اكمال دراسته، وهو يحصل على راتب من الرعاية الاجتماعية لكن ليس كافياً لإعالة عائلته التي قوامها ثلاث شقيقات ووالده المقعد وأمه المريضة، لذلك يتوجب عليه طلب المساعدة من الناس الى جانب “بيع أشيائي البسيطة هذه، لم لا؟” يقول ذلك وهو يشير إلى بسطيته التي احتوت على علبتين من العلكة ومناديل ورقية صغيرة وجداحات.
ويحذر من أن هنالك فضلاً عن عصابات التسول، عصابات للمخدرات، وأن البعض عرضوا عليه أن يوزع لهم المخدرات أو يبيعها “لكنني رفضت”، يفكر وهو ينظر إلى المارة قبل ان يتابع:”أنا أحصل على 10 آلاف دينار أو 15 الفاً في اليوم من جلوسي هنا، بينما هم يعرضون الكثير من المال. بصراحة أتردد حتى في بيع السكائر لأتجنب المشاكل، لكني لا أعرف ماذا سيحدث في الغد، فقد أضطر من أجل عائلتي ومستقبلي القيام بأشياء لا أريد القيام بها الآن”.
أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الإستقصائية ضمن منحة “زمالة ميدان”.