الرئيسية / قامات عراقية خالدة - ٨ .. ميخائيل عواد مؤرخ الحضارة العربية والإسلامية

قامات عراقية خالدة - ٨ .. ميخائيل عواد مؤرخ الحضارة العربية والإسلامية

"Today News": بغداد 


١٦ كانون الأول ٢٠٢٤

ميخائيل عواد (١٩١٢- ١٩٩٦) أحد القامات العراقية التي ساهمت في تقديم نتاجات شملت مختلف أوجه الحضارة. إذ له دراسات وبحوث في الحضارة العربية والإسلامية وخاصة في مجالات الكتب و التاريخ والأدب. كما كتب في التراث المسيحي وخصوصاً السرياني.

الأسرة والنشأة
ولد ميخائيل حنا عواد في الموصل في ٢٣ شباط عام 1912 ، كان والده الأب حنا الياس ، الفنان العراقي الشهير، أول من ادخل صناعة (العود) الحديث في العراق في اوائل القرن العشرين. ولذلك لقّب بالعراد  وهو شقيق العلامة كوركيس عواد.

الدراسة والوظائف
تلقى ميخائيل في مدارسه الموصل مبادئ العلوم ، ثم واصل الدراسة في بغداد فتخرج في دار المعلمين الابتدائية عم 1931 . اشتغل في سلك التعليم منذ تخرجه حتى عام 1943 , وعين سكرتيرا لوزارة التربية منذ عام 1944 وبقي يشتغل بهذه الوظيفة حتى الأول من شهر مايس عام 1970  عندما أحال نفسه على التقاعد ليتفرغ إلى التأليف والكتابة.
استفاد عواد الذي يعتبر من أبرز المنقبين في خزائن التراث والتاريخ العراقي، من تردده الى المجلس العلمي للأب أنستاس ماري الكرملي (  - 1947 ) وتعلم منه الكثير ، وكان يحضر أسبوعياً هذا المجلس ، ويساعد في تنظيم بعض الأمور التي تخص مكتبة دير الآباء الكرمليين قرب الشورجة. وكان لهذا العمل دور كبير في اثراء مسيرة عواد وزيادة تعلقه بالكتب والدراسات خصوصا وأن الكرملي أهداه عشرة كتب في اللغة من مكتبته.
اختير ميخائيل عواد عضوا في المجمع العلمي العراقي عام 1979 ، وعمل في ثلاث لجان في المجمع العلمي العراقي هي لجنة اللغة والتراث ولجنة معجم الأدب السرياني ولجنة التاريخ .
وسعى الى اصدار المخطوطات التي كانت في حوزته في ثلاثة مجلدات تتعلق بالمستشرقين الذين زاروا العراق، وذلك ضمن ثلاثة أجزاء ما بين عامي 1979 و1983.
واختير ميخائيل عضوا مؤازرا في مجمع اللغة العربية الاردني عام 1980 . شارك في الندوة الوطنية الاولى لعلوم الفضاء التي أقامها مجلس البحث العلمي عام 1984 ، والقى محاضرة بعنوان ) نشوء فكرة الطيران عند العرب) ، ومثل المجمع في مجلس ادارة مركز التوثيق العلمي ببغداد عام 1984 ، وأسهم في الندوات العلمية التي اقامها المجمع . تتناول أعماله العلمية الحضارة العربية والتراث العربي . وقد نشر كثيرا من البحوث والمقالات في المجالات والصحافة داخل العراق وخارجه . واذاع كثيرا من الاحاديث في ميادين التراث والحضارة من اذاعة بغداد واذاعة لندن . يتقن العربية وله المام بالسريانية والإنكليزية.

ميخائيل وساطع الحصري
يقول ميخائيل عواد ردا على سؤال من اذاعة لندن 1960: (نعم.. ثلاثة وزراء من تلاميذي، وعشرات الادباء من تلاميذي). وسئل في 1980 من هم الوزراء ومن هم الادباء؟ فلم يفصح بل ذهب الى الصمت متواضعاً وحتي لا يتهم بالغرور.
 وفي يوم أرسل عليه ساطع الحصري يسأله (من اي المسيحيين انت؟) لغرض ان يعينه في مصلحة الاثار العراقية باحثاً آثارياً قال: (انا عراقي..) ، فلم يفد الحصري بشيء وتركه وشانه، انما كان شأن ميخائيل دائماً ان يضخ اجتهاده لوطنه ويؤرخ لحقيقة من حقائقه التراثية والحضارية بعيدا عن الطائفية التي طالما دغدغت عواطف الحصري واضرابه، وكان شعاره الذي سمع في اروقة المجمع العلمي (العلم النزيه يعلو دائما علي الارضيات) هو الشعار الذي بقي يلازمه في حلة وترحاله منذ كتب مقالته الاولي في (مجلة النجم) الموصلية في بداية ثلاثينات القرن الماضي بعنوان (مآثر القرن التاسع عشر) أهكذا ينبغي ان تكون عين ميخائيل هي عين المؤرخ الذي يكتب وعينه ترنوا الي البعيد..!

مؤلفاته
ترك تراثاً كبيراً حيث شملت كتاباته وبحوثه مختلف أوجه الحضارة، فله 14 كتاباً، و8 نصوص محققة، ونحو 170 دراسة في التراث العربي. من مؤلفاته:
•الموسيقى والغناء في العصر العباسي.
•صور مشرقة من حضارة بغداد في العصر العباسي  (بغداد ١٩٨١)
•دير فُنى موطن الوزراء (1939)
•المآخذ في بلاد الروم والإسلام (1948)
•صور من حضارة العراق في العصور السالفة، صناعة الزجاج والبلور (1962)
•ألف ليلة وليلة، مرآة الحضارة في العصر الإسلامي (1962)
•مرآة الحضارة والمجتمع في العصر الإسلامي  (بغداد 1962)
•أبو تمام الطائي، حياته وشعره في المراجع العربية والأجنبية (1971). (بالاشتراك مع أخيه كوركيس)
•الخليل بن أحمد الفراهيدي، حياته وآثاره في المراجع العربية والأجنبية (1972). (بالاشتراك مع أخيه كوركيس)
•رائد الدراسة عن المتنبي (1979). (بالاشتراك مع أخيه كوركيس)
•رسوم دار الخلافة تأليف أبي الحسين هلال بن المحسن، (حققه عام 1964)
•أقسام ضائعة من كتاب تحفة الامراء في تاريخ الوزراء تأليف هلال بن المحسن الصابي، (حققه عام 1948)
•رسائل احمد تيمور الى الاب انستاس ماري الكرملي بالاشتراك مع كوركيس عواد (١٩٤٨)
•المآصر في بلاد الروم والإسلام  (بغداد 1984)
•فهرس مخطوطات المجمع العلمي العراقي بثلاثة اجزاء ( 1975- 1983)
•وله العديد من الكتب المحققة ، وقد كتب بحوثاً ومقالات نفيسة في عدد من المجلات والجرائد العربية. كما له علاقة بالعلماء المستشرقين ، ويحتفظ بأوسع خزانة كتب جمع فيها أمهات الكتب النادرة تضم نحوا من (١٥ الف) مجلد.
•قدَّم باقةً من أبحاثٍ تكرِّس إصالة التراث العربي، و الإسلامي وتكشف عن أن المسيحيين في العراق كانوا في القرن الاول الهجري بدأوا يُبرِزون مآثر الفكر الإسلامي في كتبٍ ورسائلَ خزنت في الصوامع والكنائس التي في العراق.

مكتبته في المركز الثقافي البغدادي
في أحد الأيام استقبلتُ في مكتبي عائلة الراحل ميخائيل عواد حيث جاءت ابنته وزوجها لأقدم لهما الشكر والتقدير على إهداء المكتبة ، وكذلك أثاثها القديم. وكانت أول مكتبة يتم إهداؤها ثم تشجع أولاد الشخصيات العلمية والأدبية بالتبرع بمكتبات ذويهم الشخصية ، فأصبح العدد قرابة الثلاثين مكتبة شخصية.
يحتفظ المركز الثقافي البغدادي بمكتبة ميخائيل عواد حيث تضمن مئات الكتب. تختلف بين اللغة والتاريخ والأدب والمسرح والحضارة ، إلا ان أغلب كُتب عواد مختصة باللغة.  فمكتبة عواد هي مكتبة لغوية بحتة . و لدى عواد العديد من الكُتب المُهداة من قِبل العديد من المؤلفين أمثال أحمد سوسة ، ومحمد حسن آل ياسين ، وعماد عبد السلام . كما كانت لعواد علاقة مهمة مع المستشرقين الذين كان يراسلهم ويتبادل معهم كُتبه أمثال عبد الكريم جرمانس من المجر ، والذي كان يكتب لعواد بلغة عربية جميلة وكان من المتابعين له ، والمستشرقة الألمانية ماري الشيمل أستاذة الدراسات الاسلامية في جامعة بون ، والبروفسور برنارد لويس في الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من المستشرقين من روسيا وغيرها. وتحتفظ المكتبة برسائل ومخطوطات تعود إليهم وبخط أيديهم. ويحتفظ عواد بالأرشيف السرياني في عدة مجلدات ، وهو أرشيف لا نظير له في مكتبة أخرى.
تضم المكتبة أيضاً خزانات الكتب التي كان ميخائيل يضع كتبه على أرففها. وكذلك المكتب الذي كان يجلس خلفه يدون كتبه ، وعلى المكتب مصباح منضدي ، مقلمة ، وأمامه كرسيان لضيوفه. وتوجد قطعة أثاث خشبية توضع في زاوية من الغرفة ، وضعت عليها صورة ميخائيل تعود لعام ١٩٧٠ . وكانت من ضمن المقتنيات الشخصية مسبحة و ومفتاح سيارته ومحرار وايقونة صغيرة تمثل السيد المسيح ، وتمثال خشبي لرجل كردي بزيه التقليدي.
النتاج الحضاري والعلمي
اهتم ميخائيل عواد بالحضارة العربية والإسلامية وكتب فيها عدة مؤلفات رصينة. ففي كتابه (صور مشرقة من حضارة بغداد في العصر العباسي) يبدأ ديباجته : أجمع المؤرخون والرحالة والبلدانيون وكتّاب التراجم وغيرهم من المؤلفين القدامى على القول أن بغداد: أم الدنيا وسيدة البلاد وجنة الأرض ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف. ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها:  سعة وكبراً وعمارة ، وكثرة مياه ، وصحة هواء.
ثم يتناول ميخائيل هندسة البناء التي شاعت في العصر العباسي بما عُرف بالبناء الحيري والكُمّين والرواق نسبة إلى مدينة الحيرة الشهيرة. وكان أول من أحدث هذا الطراز من خلفاء بني العباس هو المتوكل على الله. فكان الرواق فيه مجلس الملك وهو الصدر ، والكُمّان ميمنة وميسرة وفيهما من يقرب إليه من خواصه. وفي اليمين منها خزانة الكسوة ، وفي الشمال يخزن فيه الشراب.
وأما دور الأمراء والوزراء ووجهاء القوم وأعيان بغداد فكانت قصورهم كثيرة . وكان مما يلي الأبواب من داخل القصر : البهو وهو مقدّم الدار وأعلاها بناء ، ويقف شامخاً تزينه الشرفات. وكان قصر الخلافة ببغداد يضم دوراً وبساتين ومسطحات مظللة بالأشجار ، كما يضم قباباً وأروقة. وكانت تزيد في جماله البرك والانهار المرصّصة ، يجري فيها الماء. وكانوا يرصّصون الأنهار الصغيرة والسواقي بأن يطلون أسافلها بالرصاص القلعي شديد البياض ، وهو أجود من الفضة المجلوّة ، لكي لا يذهب الماء سدى.
وكان أهل بغداد يعتنون بالحيوانات واقتنائها وتربيتها في قصورهم. ودار ابن مقلة التي بناها على شاطئ دجلة وكلفته مائة ألف دينار ، فقد ألحق بها بستاناً كبيراً جعل فيه بيوتاً تأوي اليه الطيور وتتكاثر فيها. ثم أطلق فيها القماري والدباسي والنوبيات والشحارير والزرياب والهزار والفواخت والطيور التي جُلبت من أقاصي البلاد . منها التي تطلق الأصوات والتغريدات ، ومنها الجميل الريس الملون. وجنى الطيور التي لا تطير كالطواويس والبط. وجعل من خلف البستان مهاجع الغزلان والنعام والأيائل والأرانب والبقر البدوية والإبل والحمار الوحشي.
ويتحدث عن دار معز الدولة البويهي التي بناها عام ٩٦١ م في منطقة الشماسية بالأعظمية في محلة الصليخ. وتم حفر الاساسات في الأرض بعمق (١٥) متراً. وبنى لها مسناة على شاطئ دجلة بطول (١٥٠) متراً وعرضها (٧) أمتار. ورصفها بالطابوق الفرشي بأبعاد (٣٥ * ٣٥ سم) وبسمك (٨) سم. أما سقف الدار فقد كانت من الساج المذهب ، وازدانت ب (روشن) بديع يشرف على خارج الدار.
وحول أسعار الأراضي ذكر أن سعر المتر المربع الواحد في الأرض الكائنة عند ساحة النصر في شارع السعدون قد بلغ (٣٠٠) دينار) ، وقيمة متر الأرض قرب ضفة دجلة عند الباب الشرقي بلغ مئات الدنانير.

وسائل التبريد في العصر العباسي
تقع بغداد في منطقة حارة صيفاً وباردة شتاء ، وحاول العراقيون التكيف مع الأجواء المحيطة بهم وتكون بيوتهم مريحة نوعاً ما. وقد استخدموا أساليب متنوعة لمواجهة حر الصيف اللاهب مثلاً حفروا الأرض وأنشأوا السراديب تحت الأرض ، واستخدموا (البادگيرات) وهي أشبه بالمداخن داخل الجدار وظيفتها جلب الهواء إلى داخل غرف البيت ، وإخراج الهواء الساخن منها ، فتحدث دورة للهواء الذي يلطف جو البيت. واستخدموا (الخيش) وهو قماش من الكتان الخشن ، غليظ الخيوط ، يسمى اليوم بـ (الجنفاص). وكان يبلل بالماء ، فإذا لامس الهواء جاء بنسيم بارد.
واستخدم العباسيون المروحة حيث ورد أنها ابتكرت في العصر العباسي . وكانت الصدفة سبب اختراعها ، فقد ذكر أن هارون الرشيد دخل على اخته عُليّة بنت المهدي ، في قيظ شديد ، فوجدها قد صبغت ثياباً من زعفران وصندل ، ونشرتها على الحبال لتجف . فجلس الرشيد قريباً من الثياب المنشورة ، فجعلت الريح تمر على الثياب ، فتحمل منها ريحاً بليلة عطرة ، فوجد لذلك راحة من الحر واستطابة ، فأمر أن يُصنع له في مجلسه مروحة. الغريب أن هذه الطريقة بقيت مستخدمة في العراق حتى الستينيات من القرن العشرين . وقد شاهدتها في بعض البيوت والخانات والدوائر الحكومية في جنوب العراق. وتتألف من قطعة كبيرة من قماش الگواني معلقة بالسقف ، وتتحرك جيئة وذهاباً بواسطة حبل يجره شخص جالس خارج الغرفة .
ويصف الشريشي (توفي ١٢٢٢م) المروحة بالقول: (هي من الخيش ، تكون شبيهة الشراع للسفينة ، وتُعلّق في سقف ، ويُشّد بها حبل يحركها ، وتُبل بالماء ، وتُرش أحياناً بماء الورد ، فإذا أراد الانسان في القائلة أن ينام ، جذبها بحبلها ، فتذهب بطول البيت وتجيء ، فيهب عليه منها نسيم بارد طيب الريح ، فيذهب عنه أذى الحر ويستطيب ، وهي فرقه ذاهبة وجائية).
هذه حكاية (مروحة السقف) ، وأما (مروحة اليد) في العصر العباسي فقد ذكرها ابن الجوزي بقوله (كان ابن الجنازة يعظ ، ويتكلم على طريقة والمعرفة ، من غير تكلف الوعاظ . فكم من يوم صعد المنبر وفي يده مروحة يتروّح بها ...).
أما السراديب فإنها لم تُتخذ للسكنى أيام الصيف ببغداد ، وفي صدر الدولة العباسية ، بل اتخذت من بعد ذلك ، وشاع أمرها ، وغالى الناس بالعناية بها ، لتكون مريحة في الصيف . فإن أهل الترف والبذخ ، كانوا يبالغون في العناية بأمرها ، ويبذلون المال الكثير في تزيينها وتنظيمها ، ونصب الشاذروانات فيها ، كما كانوا يتخذون الباذِهنجات (البادگيرات). فكان الناس ببغداد أيام الصيف يمضون نهارهم في تلك السراديب ، ينعمون بالهواء البارد. كما كانوا يملأون كيزان الخزب (الحِب) بالماء ، ويضعونها بين أيدي تلك الباذهنجات ، فيبرد الماء لساعته.

كيف صنع العباسيون الثلج
من الغريب أن البغداديون في العصر العباسي قد توصلوا لصناعة الثلج رغم عدم وجود التكنولوجيا والأجهزة المتقدمة. إن الأخبار كثيرة تتحدث عن الثلج في كتب التاريخ والأدب والبلدان ودواوين الشعر وغيرها.
لقد اقترن ذكر الثلج بسيرة الوزير محمد بن الفرات الذي كان يلعب دوراً مؤثرا وكبيراً في النصف الأول من المائة الرابعة للهجرة. فقد صار وزيراً للخليفة المقتدر بالله ثلاث مرات. ومما ورد عنه أنه كلما تقلد الوزارة يزيد من سعر القراطيس (الورق) والشمع (المستخدم للإنارة) والخيش (قماش الكتان) والثلج زيادة كبيرة. وكان ذلك متعارفا عند التجار لكثرة ما كان يستعمل ويخرج من داره للناس.
 وكان في ناحية من قصره (دار كبيرة للشراب ، وفيها ماذيان يُجعل فيه الماء المُبَرّد ويُطرح في الثلج ، ويُسقى منه جميع من يريد الشرب : الرجّالة والفرسان والأعوان والخُزّان ومن يجري مجرى هذه الطبقة من الأتباع والغلمان ومزمّلات ، ( جمع مزَمّلة وهي إناء كبير من الرخام المجوف) فيها الماء الشديد البرودة. وعلى خزانة الشراب خدم نظاف عليهم الثياب الدبيقية السرية. وفي يد كل منهم قدح فيه سكنجبيل أو جُلاّب ، وكوز ماء ، ومنديل نظيف من مناديل الشراب . فلا يتركون أحداً ممن يحضر الدار من القوّاد والخدم السلطانيين والكُتّاب والعمال ، إلا عُرضوا عليه).  
وكان السلطان عضد الدولة البويهي في أواخر أيام دولته ببغداد ، أحدث رسوماً كثيرة ، أحدث رسوماً كثيرة ، منها أنه حظر عمل الثلج ، وجعله خاصاً بالسلطان . وكان من قبل لمن لمن يريد عمله والمتجر فيه.
وكان الناس يوم ذاك ولا سيما (الثلاّجون) ، ينتهزون فرصة سقوط البَرَد (الحالوب) فيجمعونه ويكبسونه في مثالج تحت الأرض معدّة لذلك ، حتى إذا أقبل الصيف ، يبيعونه بثمن عال.
ويحكي البلدانيّون أن الثلج كان يُحمل إلى بغداد من أماكن بعيدة . ولم يذكر كيف يحفظون الثلج أثناء نقله من مكان إلى آخر.
ويُعد شراب الثلج من الأشربة المعتبرة. وأكثر ما كان يُتّخذ في الحفلات. وصف بعضهم حفلة أقيمت في بغداد ، في ليلة من ليالي الصيف قبل نحو سبعمائة عام. قال: إن جميع ما شُرب في تلك الليلة من أولها إلى آخرها مصنوع بالثلج والسكر وماء الورد والمسك ونحو ذلك. والسُقاة يملأون الكيزان من ذلك على الدوام.
وكانوا يعتنون بتبريد الفواكه ونحوها بالثلج. قالوا في صفة التوت: إن التوت النضيج المبرّد بالثلج ينفع المعدة التي غلب الحر عليها واليبس.
ومن يتعاطى بيع الثلج يقال له الثلاّج. وكان الثلاجون عندما يشتد الحر يرفعون أثمان الثلج حتى تصل أحياناً إلى حد الخيال. وقد أثرى غير واحد من أولئك القوم من بيعهم الثلج ، وأصبحوا من أصحاب الثروات الطائلة.
وحكى ابن سليمان الثلاج عن أبيه وهو رجل بغدادي يبيع الثلج يستغل حاجة الناس للثلج وخاصة للمرضى الذي يجدون فيه راحة وشفاء. فكان يبيع الرطل الواحد بخمسة آلاف درهم لبعض الأمراء. ومرة باع الرطل بعشرة آلاف درهم وعشرين ألف درهم وهو يثمن كبير جداً يساوي ثمن عدة بيوت.

النجارة وصناعة الزخرفة
ويمضي ميخائيل عواد في وصف الصناعات والمهن ذات الاختصاص الدقيق فيصف أعمال النجارة وفنون الحفر على الخشب وهي من الصناعات التي ازدهرت في تزيين المساجد والمنابر والمحاريب والتوابيت والشرفات والأبواب والشبابيك ومن الأثاث الكراسي والأرائك والأسرّة والخزانات والصناديق والمناضد وغيرها .
كما يصف صناعة النحت على الحجر والآجر والجص التي يُعما منها الزخارف في المساجد والمدارس والقصور والمنازل. وما تزال باقية آثارها في المساجد القديمة والمدرسة المستنصرية وأبواب سور بغداد والقصر العباسي.

صناعة الخزف والفخار
ويتناول ميخائيل عواد صناعة الفخار والخزف التي لا يستغني عنها كل قصر أو مكتب أو منزل في بغداد. ويُقسّم الخزف العباسي إلى مجموعتين: الأولى تضم جراراً كبيرة مغطاة بدهان براق أزرق أو أخضر ، عليها زخارف بارزة مكونة من أشرطة وتفريعات نباتية.
أما المجموعة فتتكون من أوان أكثر رقة ، تشتمل على صحون صغيرة ، وسلطانيات ، وقوارير وأقداح وكؤوس وعُلب ومباخر وشمعدانات ، وبيوت للطيور ومساند للأقلام وتماثيل وشبابيك القُلل وأشياء أخرى لا تُعّد.
إن صناعة البريق المعدني كان من الابتكارات العظيمة التي اهتدى إليها الخزافون المسلمون في المئتين الثانية والثالثة.  وقد عُثر في حفريات بغداد وسامراء على مجموعة على جانب من الروعة والدقة ، منها بلاطات فاخرة ، جميلة الصنعة ، ذات رسوم من لو واحد أو أكثر من لون.
 وأنا شاهدتُ بلاطات مثبتة على جدران المسجد الجامع في القيروان بتونس جُلبت من بغداد ذات ألوان بديعة ، وفيها لمعان معدني . وهي دليل على معرفة صُنّاع البلاط بعمليات الترسيب المعدني وهذه العملية بحاجة إلى كهرباء!!.

صناعة العطور والدهون التجميلية
وأما صناعة العطور والدهون فقد راجت وازدهرت في بغداد بسبب إقبال الناس على شرائها وخاصة الطبقات العليا من الخلفاء ونسائهم وأولادهم وجواريهم ، ومن القادة والوزراء والتجار والأثرياء. وقد ذكرها الشعراء والأدباء والمؤرخون والبلدانيون. وكان في بغداد سوق يسمى (سوق الرياحين) تباع فيه أنواع العطور.  
وكانت الدهون العطرة في ذلك العصر تُتخذ من البنفسج والخيري والنيلوفر والنرجس والسوسن والزنبق والنارنج والورد والطلع والقيسوم والزعفران وأنواع الزهور.
واشتهرت الكوفة بعمل دهان الخيري والبنفسج ، وخيري بغداد موصوف أيضاً. والخيري المعروف بالخزامي ، وهو مما أولع الشعراء بوصفه.
واشتهر صناع العطور ببغداد بتركيب الخِلوق ، وهو نوع من الطيب مائع. يُتخذ من الزعفران وغيره ، وتغلب عليه الحُمرة والصُفرة.
وعنى صناع بغداد باستخراج دهن الورد ودهم البنفسج. واتخذ هذا الدهن لعلاج بعض الأمراض. وورد أن علي بن المهدي بن أبي جعفر المنصور أصيب في يوم حر شديد ، بصداع كاد يُذهب ببصره. فأحضر له جماعة من الأطباء المهرة فعالجه شيخهم عندما دعا بدهن البنفسج وماء ورد وخل وثلج ، فجُعل في آنية وخلط جميع ما فيها ، وجعل منه وسط رأسه ثلاث مرات ، حتى سكن عنه الصداع وعوفي مما كان فيه.
ومن العطور من كان يُسمى بالغالية وهي من أمهات الطيب يستخدمها الخلفاء والملوك والأمراء والسلاطين وأعيان بغداد ، وكانت خزائنهم عامرة بقناني (الغالية).
وتصنع الغالية من التراكيب القديمة وذلك بسحق السُك (وهو نوع من الطيب) والمِسك وغيره ، ويُحَلّ العنبر ويُجعل ذلك فيه ، ويُسحق الكافور ، ويُخلط الجميع بدهن البان أو دهن النيلوفر. قال أحد الشعراء في وصف الغالية:
ثلاثُ أواقٍ دُهنُها وثلاث***مثاقيل مِسك ثم مثقال عَنْبَرِ
وسُكٌّ فمثقالان والعود نصفه***فيا حبذاك الطيبُ للمتعطّرِ

وكان البغداديون يحفظون العطور والدهون في أواني متنوعة الأشكال والأحجام والمواد. فكانوا يحفظون ماء الورد في قوارير البلور (الزجاج) وكذلك يُحفظ في القُمقُم . وهو إناء صغير من نحاس أو فضة أو زجاج أو صيني.
واتخذت زجاجات الزينة لحفظ العطور ، وهي صغيرة رقيقة تُزيّن سطحها نقوش كثيرة. وكانت تُصنع أحياناً من الزجاج المختلط بالرصاص ، يُكسبها ذلك لوناً مائلاً إلى الزُرقة أو الخُضرة.
وصناع العطور كانوا يعملون الدهون والمعاجين أيضاً وبيعها. وصنعوا منها أنواْ كثيرة حتى كتب فيها المؤلفون والعلماء والأطباء الرسائل والكتب. وقد ذكر ابن النديم في كتابه (الفهرست) (كتاب الطيب) لابراهيم بن المهدي ، و(كتاب العطر) لإبراهيم بن العباس صاحب (ديوان الرسائل) لعدد من الخلفاء، و(كتاب العطر) ، و(كتاب كيمياء العطر) وكلاهما للكندي ، و(كتاب العطر) للشطرنجي ، و(كتاب العطر وأجناسه) للمفضل بن سلمة ، و(كتاب العطر) ليحيى بن خالد البرمكي وغيرها.

فن التصوير والرسم
تفنن البغداديون بالتصوير والرسم والتزويق والنقش والتدهين والتلوين. وهذا الفن ليس نقوشاً ورسوماً على الحيطان ، وفي الكتب والصف والألواح فحسب ، بل تصاوير الإنسان والحيوان على الثياب والستائر والخيام والآنية والمصابيح الزجاج والأثاث والسلاح. والنقود والشارات.  
اشتغل جمهرة من البغداديين بالتصوير والرسم والنقش ، فكان لهم الأثر الطيب. وقد وردت أخبارهم في كتب الأدب والشعر والتاريخ والجغرافية والتراجم وغيرها. ومن أولئك الأعلام أطلق عليه المصور، أو الدَهّان أو النقّاش أو المُزَوّق ، وكلهم يعملون في فروع هذا الفن الجميل.
ومن المصورين المشهورين هو ابن البواب (توفي عام ١٠٢٢م) المعروف بواضع الخط ، فهو أول من سُمي بـ (المصوّر) . وذكر الخطيب البغدادي أن : (بغداد صُوّرت لملك الروم ، أرضها وأسواقها وشوارعها وقصورها وأنهارها ، غربيها وشرقيها. والجانب الشرقي صُوّرت شوارعه ، فصُوّر شارع الميدان ، وشارع سويقة نصر بن مالك من باب الجسر إلى الثلاثة الأبواب والقصور التي فيه، والأسواق والشوارع من سويقة خضر إلى قنطرة البردان. فكان ملك الروم إذا شرب دعا بالصور ، فيشرب على مثال شارع سويقة نصر ، ويقول: لم أر صورة شيء من الأبنية أحسن منه).
وهذا الوصف يعني آنه تم تصوير شوارع وأسواق بغداد بكل تفاصيلها. فكم مصور احتاج هذا العمل؟ وما حجم الورق الذي رسمت عليه؟ إنه مشروع هائل لا نعلم أين هو الآن؟ وهل بقيت رسوم بغداد الحقيقية محفوظة؟ لحد الآن لم يُعثر على هذا الكنز الفني والتاريخي الثمين؟ هكذا عمل جبار قام به الفنانون العراقيون يشابه (خرائط گوگل) المعروفة ، حيث يستطيع المرء رؤية تفاصيل أية مدينة وقرية ، وأية بقعة في سهل أو جبل أو بحر.
واشتهر ابن الجوزي الدهان (توفي ١٢١١م) ، وكان يزوّق الدور ، وكذلك والده المعروف بأبي البقاء البغدادي ، كان مزوقاً دهاناً ، ومثلهما أبو الشكر البغدادي. وكانوا يزوّقون الخشب والسقوف وأشهرهم الحسن بن حاتم المزوّق وعمر البنّاء. وكان فيها أكثر من واحد عُرف بابن النقاش البزاز.

صناعة النسيج والأقمشة
اعتنى البغداديون بالملابس والأنسجة عناية كبيرة ، فالملابس تختلف من طبقة إلى أخرى ، ومن استعمال إلى آخر ، ومن مادة إلى أخرى.
كان النساجون في العراق يستخدمون أنواعاً مختلفة من الخيوط كالقطن والحرير والصوف والكتان. وكانوا يتفننون في صناعتها وألوانها ورقتها . فهناك ثياب القطن الغلاظ ، وهناك الرقيق من القطن والكتان ، وهناك ثياب القَزّ والأبريسم (لفظة معربة من كلمة أبريشم الفارسية ومعناها حرير). وهناك ثياب مختلطة من حرير وقطن وغيره. وكانوا ينسجون الثياب المخططة والمطرزة والموشّاة.
لقد طارت شهرة الثوب المعروف بـ (البغدادي) في الآفاق شرقاً وغرباً ، كان يُصنع في بغداد . ونقله الفرنسيون أيام العصور الوسطى إلى لفظة (بلداكين) ، وذلك لأنهم كانوا يصحّفون اسم بغداد إلى (بلداك) أو (بوداك) ، ثم نسبوا إليها بقولهم (بلداكين).
و(البغدادي) ثوب فاخر للغاية ، يُتخذ للملوك والأمراء ، وأعيان الناس وأماثلهم ، لا يزال يُعرف بهذا الاسم حتى الآن.  قال الرحالة الشهير البشاري المقدسي: (وبمدينة السلام الطرائف وألوان ثياب القزّ ، وبه عباداني حسن ، وسامان رفيع. وببغداد أُزُر ، وعمائم يكانكي رفيعة ، ومناديل القصرية والبويبية).
واشتهرت بغداد بـ (دار القز) وهو دار كبيرة لصناعة القز ، وسميت المحلة التي تقع فيها بمحلة القز. وكانت تقع في شارع النهر الحالي. واشتهرت محلة (العتابية) ببغداد بثيابها المنسوبة إليها وهي من حرير وقطن متلفة الألوان. وكان الثوب العتابي معروفاً بخطوطه الممتدة من طرف إلى آخر. وقد انتقلت هذه الصناعة إلى جملة مدن من ديار الغرب ، وحاكى أهلها صناعة هذا الثوب.
واشتهر ببغداد (الثوب المُلْحَم) وهو من الحرير الأبيض ، كان يصنع ببغداد ويصدّر إلى الخارج. وذكر الرحالة الإيطالي ماركو بولو في القرن الثالث عشر الميلادي ما كان يُصنع ببغداد والموصل من نسيج الحرير الموشّى بالذهب.
وهناك شريط القماش المشتمل على كتابة منسوجة أو مطرزة ويسمى الطراز. وسمت الدور التي تصنعها بـ (دار الطراز). وكان الطراز مستخدماً في ثياب الخلفاء الفاخرة ، وجرت عادتهم على خلع هذه الثياب على كبار أصحاب الوظائف مرة على الأقل كل سنة. وتعتبر تلك الخِلع بمثابة الأوسمة والنياشين في العصور الحديثة. وكان يُنقش اسم الخليفة في شريط الطراز تسجيلاً لحكمه وسلطانه.
ويُحتفظ بنماذج من هذه الملابس في متاحف الغرب. ففي مدينة بوسطن الأمريكية توجد قطعة عليها اسم الخليفة المقتدر بالله ، صنعت عام ٣٢٠ هجرية في طراز الخاصة في دار السلام، وقطعة أخرى مؤرخة عام ٢٨٢ هجرية .

في بغداد استنبطت الكتابة للعميان
المعروف أن رجلاً فرنسياً اسمه بريل Braille كان فاقد البصر لكنه في عام ١٨٢٩ ابتكر طريقة لتعليم العميان الكتابة والقراءة ، وهي الطريقة التي أخذت بها كل الأمم والشعوب.
ولكن من يعلم أن رجلاً عربياً كان أيضاِ أعمي لا يبصر اسمه زين الدين علي بن أحمد الآمدي العابر الذي عاش في حدود عام ٧٠٠ للهجرة ، كان السابق في هذا المضمار ، وإليه يرجع الفضل في ابتداع الكتابة البارزة للعميان.
كان زين الدين أستاذاً في المدرسة المستنصرية ببغداد ، وله فيها غرفة خاصة به، ترجمه الصفدي (توفي في دمشق عام ٧٦٤ هـ / ١٣٦٣ م) في كتاب (نُكت الهِميان في نُكَت العميان). ووصفه بقوله (كان شيخاً مليحاً مهيباً ثقة صدوقاً ، كبير القدر والسن ، أضرّ في أوائل عمره. وكان آية عظيمة في تعبير الرؤيا ، مع مزايا أخر عجيبة ، تدل على عبقريته وشدة فطنته وذكائه). صنف زين الدين كتباً ، وله تعليقات في اللغة والفقه ، وكان يتجر بالكتب.
أما قصة استنباطه الكتابة البارزة الخاصة بالعميان فقد استنبط لنفسه طريقة يستخدمها في عمله. وهي أنه كان يُحرز كتباً كثيرة جداً. وكان إذا طُلِبَ منه كتاب ، وكان يعلم أنه عنده ، نهض إلى خزانة كتبه واستخرجه من بينها ، كأنه وضعه لساعته. وإن كان الكتاب عدة مجلدات ، وطُلب منه الأول مثلاً أو الثاني أو الثالث أو غير ذلك ، أخرجه بعينه وأتى به. إذ كان يمس الكتاب أولاً ، ثم يقول: يشتمل هذا الكتاب على كذا وكذا كراسة، فيكون الأمر كما قال. وإذا أمرَّ يده على الصفحة قال: عدد أسطر هذه الصفحة كذا وكذا سطراً ، وفيها بالقلم الغليظ كذا. وهذه المواضع كُتبت فيها بالحمرة. وإن اتفق أنها كُتبت بخطين أو ثلاثة ، قال: اختلف الخط من هنا إلى هنا ، من غير إخلال بشيء مما يُمتَحن به.
والأدهى من ذلك إنه كان يعرف أثمان جميع كتبه التي اقتناها بالشراء ، وذلك أنه كان إذا اشترى كتاباً بشيء معلوم ، أخذ قطعة ورق خفيفة ، وفتل منها فتيلة صغيرة وصنعها حرفاً أو أكثر من حروف الهجاء ، لعدد ثمن الكتاب ، بحساب الحروف ، ثم يُلصق ذلك على طرف غلاف الكتاب من الداخل ، ويُلصق فوقه ورقة بقدرة لتبقى ثابتة. فإذا شذّ عن ذهنه قيمة ثمن كتاب ما من كتبه ، مس الموضع الذي علّمه في ذلك الكتاب بيده ، فيعرف ثمنه من تنبيت العدد الملصق به. وهذا الأسلوب هو بعينه الكتابة البارزة والتي يمكن معرفة ما تحتويه بمجرد اللمس.  
رغم ريادة فكرة استخدام اللمس للقراءة لكنها كانت تجربة شخصية لبائع كتب أعمى ، فلم يجر تعميمها على العميان الآخرين  ، ولم تشتهر بين الرجال العميان ولا تعليمها للصبيان العميان.

المستشفيات في العصر العباسي
ازدهرت بغداد في العصر العباسي بالمستشفيات التي كانت تسمى (المارستانات) أو (البيمارستانات). والبيمارستان لفظ فارسي مركب من (بيمار) بمعنى مريض ، (ستان) تعني محل. وحظيت المستشفيات بتمويل مالي من الأوقاف التي أوقفت عليها. كما تم ترتيب الأطباء المهرة والصيادلة والفراشين والمساعدين. كما تم تجهيزها بمطبخ يعد أنواع الطعام للمرضى وحسب ما يصفه الأطباء . وجُهزت المستشفيات بالأدوية والأشربة والأعشاب والزيوت وغيرها. وجُهّزت بوسائل العناية والراحة للمرضى والمقعدين لتخفيف آلامهم.
لقد أثّر وجود المستشفيات في التقدم العلمي ، فقد تطور علم الطب تطوراً كبيراً ، فنبغ طائفة كبيرة من الأطباء ، وأصبحوا مهرة في صناعة الطب ، وتركوا لنا تراثاً علمياً نفيساً واسعاً.
لقد كانت البيمارستانات يومذاك على نوعين: الثابتة وهي المنتشرة في المدن والأمصار. والمحمولة: وتُعرف في وقتنا بالمستشفيات السيارة. ويرى ميخائيل عواد أن العرب أول من ابتكر المستشفيات السيارة.
عندما أنشأ الرشيد بيمارستاناً ببغداد ، رشّح لرئاسته الطبيب ماسَوَيه وهو من أشهر أطباء جُنديسابور (حالياً نيشابور) بإيران. ثم أنشأ البرامكة بيمارستاناً ببغداد عُرف باسمهم، وأسندوا رئاسته إلى طبي هندي ماهر في علمه يُعرف بابن دُهن. وقد ترجم هذا الرجل جملة كتب من الهندية إلى العربية لمعرفته اللغتين وآدابهما.
ويُنقل عن طاهر بن الحسين أمير بغداد يومذاك ، أنه كتب إلى ابنه عبدالله ، يقول له: أُنصب لمرضى المسلمين دوراً تُوَقّيهم ، وقُوّاماً يرفقُون بهم ، وأطباء يعالجون أسقامهم.
وكان المريض إذا جيء به إلى المارستان ، تُنزع ثيابه ، ويُؤخذ ما معه من مال ، وتوضع عند أمين المارستان. ثم يُلبَس ثياباً جديدة ، ويُفرش له ، ويُعالج حتى يشفى. فإذا أكل دجاجاً وخبزاً ، أُمِرَ بالمغادرة ، وأعيد له ماله وثيابه.
وكان الخليف يزور المارستان كل يوم جمعة ، يتفقد أقسامها والعاملين فيها وكذاك المرضى. وكان نظام المعالجة على نوعين: الأول علاج خارجي ، أي أن المريض يستلم الدواء من المارستان ، ثم ينصرف ليتعاطاها في منزله. والثاني: علاج داخلي حيث يقيم المريض في المارستان ، وفي القسم والقاعة الخاصة بمرضه حتى يشفى.
أما طبيب العيادة الخارجية فكان يجلس على دكة ، ويقوم بفحص المريض ، ثم يكتب له وصفة دواء يستلمها من الصيدلاني ، وقد تكون شراباً أو أدوية أو أعشاباً.
وأما العيادة الداخلية فيُقسّم المرضى على القاعات حسب أمراضهم. وكان لكل قسم من أقسام المارستان طبيب أو اثنان أو ثلاثة أطباء بحسب اتساعه وكثرة المرضى فيه.
وكانت المارستانات منقسمة إلى قسمين منفصلين أحدهما للذكور والآخر للإناث. وكل قسم مجهز بما يحتاجه من أطباء وكحّالين (أخصائي عيون) وجراحين وصيادلة وخدم وفراشين وقائمين. وفي كل قسم قاعات فسيحة لمختلف الأمراض: قاعة للأمراض الباطنية ، وأخرى للجراحة ، وثالثة للعيون ، ورابعة للكسور والتجبير.
وكان هناك نظام ينظم صناعة الطب ، إذ يشترط على من يريد العمل في التطبيب الحصول على إجازة تخوله ممارسة هذه المهنة ، ولا تمنح له إلا بعد امتحان خاص.
ولكل مارستان خزانة تسمى (خزانة الشراب) تودع فيها أنواْ الأشربة والمعاجين والدهون والمراهم والمربَّيات ، وأصناف الأدوية والعطريات. وفيها من الآلات النفيسة والآنية والصيني وغيرها. ويرأس خزانة الشراب صيدلاني المارستان.
ومن الأطباء المشهورين آنذاك ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة ، وكان يدير المارستان ببغداد ، وله كتاب التاريخ المشهور. وكان والده سنان يتولى أمر المارستان إيضاً ، وأنه كتب للخليفة المقتدر بالله بأن السجناء محرومون من الرعاية الطبية ، وطلب تعيين أطباء يزورونهم في السجون ويعالجونهم ويأخذون معهم ما يحتاجون من أدوية إليهم.
وكان المارستان مزود بمطبخ وحمان ومخزن مؤونة ومخزن للفحم والحطب يستخدم لتدفئة المارستان في الشتاء . وكان هناك مخزن للكسوة والأغطية والأفرشة  وما يحتاجه كل قسم من الأقسام.

المصادر
ميخائيل عواد (صور مشرقة من حضارة بغداد في العصر العباسي) ، دار الرشيد للنشر ، بغداد: ١٩٨١
16-12-2024, 18:09
عودة