"Today News": بغداد
علي الوردي (١٩١٣ – ١٩٩٥) عالم اجتماع وأستاذ ومؤرخ وعُرف بتبنيه للنظريات الاجتماعية الحديثة في وقته، لتحليل الواقع الاجتماعي العراقي، وكذلك استخدم تلك النظريات بغرض تحليل بعض الأحداث التاريخية. فكان كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) مرجعاً اجتماعيا وتاريخيا لا غنى عنه لكل باحث وكاتب وأكاديمي.
ولادته ونشأته
هو علي حسين محسن عبد الجليل الوردي ، ولد في مدينة الكاظمية عام ١٩١٣ لأسرة كان جدها يعمل بمهنة تقطير ماء الورد ، ومنها جاء لقب الأسرة (الوردي). عاش علي الوردي حياة عصامية فقد اضطر لترك مقاعد الدراسة في عام 1924 ليعمل صانعاً عند عطار، ولكنه طُرد من العمل لأنه كان ينشغل بقراءة الكتب والمجلات ويترك الزبائن، وبعد ذلك فتح دكاناً صغير يديره بنفسه ويكسب رزقه.
وفي عام 1931 التحق بالدراسة المسائية في الصف السادس الابتدائي وكانت بداية لحياة جديدة. وأكمل دراسته وأصبح معلما. كما غيّر زيه التقليدي عام 1932 وأصبح أفندي. وبعد اتمامه الدراسة الثانوية حصل على المرتبة الأولى على العراق فأرسل لبعثة دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وحصل على البكالوريوس. وأرسل في بعثة أخرى إلى جامعة تكساس حيث نال الماجستير عام 1948 ونال الدكتوراه عام 1950. وخاطبه رئيس الجامعة عند منحه الشهادة: (أيها الدكتور الوردي ستكون الأول في مستقبل علم الاجتماع).
في عام ١٩٤٣ عين الوردي في وزارة المعارف مدرساً في الاعدادية المركزية في بغداد. وفي عام ١٩٥٠ عين مدرسا لعلم الاجتماع في كلية الآداب بعد عودته من أمريكا ونيل شهادة الدكتوراه . في عام ١٩٧٠ أحيل على التقاعد بناء على طلبه ومنحته جامعة بغداد لقب (أستاذ متمرس).
للوردي أربعة أبناء هم حسان وهو طبيب جراح ومن مواليد عام 1944 وهو الآن في أمريكا، وجعفر مهندس يعمل في القطاع الخاص منذ أن تخرج إلى الآن ومن مواليد 1945، وسيناء من مواليد 1952وهي صيدلانية تقيم في أمريكا ، وفيصل خريج كلية اللغات ويعمل مترجما، وقد هاجر إلى السويد وهو من مواليد عام 1955.
تأثره بمنهج ابن خلدون في علم الاجتماع
كان الوردي متأثرا بمنهج ابن خلدون في علم الاجتماع. فقد تسببت موضوعيته في البحث بمشاكل كبيرة له، لأنه لم يتخذ المنهج الماركسي ولم يتبع الأيدولوجيات والأفكار القومية فقد آثار هذا حنق متبعي الأيدولوجيات فقد اتهمه القوميون العرب بالقطرية لأنه عنون كتابه (شخصية الفرد العراقي) وهذا حسب منطلقاتهم العقائدية إن الشخصية العربية متشابهة في كل البلدان العربية. وكذلك انتقده الشيوعيون لعدم اعتماده المنهج المادي التاريخي في دراسته.
منهج الدكتور علي الوردي في دراسة المجتمع العراق
يعتبر الدكتور علي الوردي من أشهر علماء الاجتماع العرب في العصر الحديث . وقد صرف معظم أبحاثه للغوص في الشخصية العراقية ، فكتب (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) الذي حاول فيه أن يضع نظريته في تفسير طبيعة تكوين هذه الشخصية المعقدة . كما كانت دراسته الموسوعية (لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث) تعكس نظرته لخلفية الشخصية العراقية ومكوناتها وموروثاتها التأريخية التي تراكمت على مدى القرون . فكان الوردي يقوّم الأحداث من خلال قراءة تحليلية للواقع الاجتماعي قبل وأثناء وبعد الحدث التاريخي . وكانت له أبحاث أخرى مثل (شخصية الفرد العراقي) و(الازدواجية في شخصية الفرد العراقي) .
يتميز أسلوب الوردي بسلاسة العبارة وبساطتها ، فهو يبتعد عن التكلف أو استخدام عبارات غامضة أو مصطلحات مبهمة على أذن القارئ العادي . ويجعل الوردي من التاريخ مجموعة من القصص الممتعة التي تستهوي القارئ ، دون أن يخل ذلك بمادته العلمية أو سياقه التاريخي .هذا إضافة إلى توثيق ما يقوله بالوثائق وكتب الرحالة والدبلوماسيين ومذكرات السياسيين ومصادر تاريخية أخرى . كما لا يفوته تدوين ملاحظة رجل عجوز أو زبون في مقهى أو غيرهم من الطبقات الشعبية .
وكثيراً ما ينتقد الوردي الآراء النظرية التي تهدف إلى تثبيت منحى ايديولوجي معيّن حيث يجري التركيز على الدعاية السياسية أكثر مما تميل إلى كونها دراسة موضوعية واقعية . فينتقد مثلاً المنهج الوعظي في مخاطبة الشباب العربي بهدف خلق جيل من الشباب القومي الواعي أثناء المد القومي في بداية الستينيات. (١)
من المشاكل التي واجهها الوردي أثناء دراسته للمجتمع العراقي هي كيفية جمع المعلومات من أفراد الشعب. فيرى أن الأسلوب الغربي في الاستبيان أو طرق أبواب الناس لأخذ آرائهم في قضية ما غير ممكن لأن هناك (فجوة واسعة بين الشعب والحكومة . فالشعب يعتبر الحكومة عدوة له لا تأتي له بأية منفعة ، وكثيراً ما يأتي الضرر منها) . ويصف موقفه أمام الناس بقوله (وإذا جاءهم باحث اجتماعي حسبوه من جلاوزة الحكومة . فهو (أفندي) في ملابسه ، وبيده قلم ودفتر . أما إذا لبس الباحث ملابس اعتيادية (دشداشة) مثلهم ، ظنوا أنه جاسوس أرسلته الحكومة للتجسس عليهم . ولهذا كنت إذا أردت الدراسة أحاول نيل ثقتهم قبل أن أبدأ بالسؤال. وكنت أوجه إليهم الأسئلة تلقائياً ، وأحرضهم على الإجابة عن طريق إثارتهم وبعث الحماس والفخر فيهم).
ولذلك يرى الوردي أن أفضل طريقة لدراسة المجتمع العراقي هي تلك التي وضعها العالم الألماني ماكس فيبر (١٨٦٤-١٩٢٠) Max Weber . وهي التي تعتمد على (التفهم) وتكوين (المثال النموذجي). فهي ملائمة لمجتمعنا وظروفه الخاصة.
وينتقد الوردي ظاهرة التقليد التي كثيراً ما يقع فيها الباحثون والأكاديميون في تفكيرهم وأسلوب تنفيذهم لبرامجهم أو آرائهم . فيقول ( فنجد أحدهم مثلاً يدرس علم الاجتماع في جامعة أجنبية فيرجع إلى مجتمعه يريد أن يدرسه في ضوء ما درس هناك حرفياً ، ناسياً الفرق بين مجتمعه والمجتمع الذي درس فيه . إنه قد يظن أن الظواهر التي درسها هناك "قوانين عامة" تصدق على جميع الشعوب في العالم من غير تفريق). (٢)
تأثير البداوة في المجتمع العربي
حاول الوردي تطوير نظرية قادرة على تحليل شخصية الفرد العراقي بشكل علمي مقبول . فقد تأثر ببعض الفلاسفة والمفكرين ، فكان يناقش آرائهم ويرى مدى إمكانية انطباقها على النموذج الذي يعنيه ، أي المجتمع العراقي . وبلور آرائه في ثلاث فرضيات هي :
1-ازدواج الشخصية
2-التناشز الاجتماعي
3- صراع البداوة والحضارة .
ويعترف الوردي بموضوعية أن هذه الفرضيات ليست من بنات أفكاره ، بل اقتبس كل واحدة منها من عالم اجتماعي معروف . فالأولى اقتبسها من عالم الاجتماع الاسكتلندي روبرت مريسون مكيفر Robert Morrison MacIver (١٨٨٢- ١٩٧٠) ، والثانية من عالم الاجتماع الامريكي وليم اوغبرنWilliam Fielding Ogburn (١٨٨٦-١٩٥٩) ، والثالثة من العالم التونسي عبد الرحمن ابن خلدون (١٣٣٢- ١٤٠٦ م) ، ثم وصف دوره هو بقوله ( غير أني حوّرت وبدّلت في كل واحدة منها ، قليلاً أو كثيراً ، لكي أجعلها أكثر انطباقاً وانسجاماً مع ظروف المجتمع العراقي وطبيعة تكوينه). (٣)
ظل عنصر البداوة يحتل موقعاً هاماً في صياغة الوردي لنظريته . فهو يرفض النظرية التي تعتبر (البداوة مرحلة اجتماعية مرت بها جميع الأمم قبل دخولها في مرحلة الحضارة) ، حيث يعتبرها مستمدة من نظرية التطور المشهورة التي صارت (موضة) علمية منذ ظهور تشارلز داروين (١٨٠٩- ١٨٨٢) Charles Darwin في منتصف القرن الماضي . فقد ظن العلماء يومذاك أن كل مجتمع بشري هو كالكائنات الحية لابد أن يمر في تطوره عبر التاريخ بسلسلة متتابعة من المراحل المحتومة . وهذه المراحل ، كما تخيلوها ، تبدأ بالمرحلة البدائية التي يعيش فيها الإنسان على الصيد و الالتقاط ، ثم تأتي من بعدها مرحلة البداوة التي يعيش فيها الإنسان على الرعي ، وتليها مرحلة الزراعة ثم مرحلة الصناعة).
ويستنتج الوردي (بأن البداوة ليست مرحلة ضرورية من مراحل التطور الاجتماعي ، وليس من المحتوم على كل أمة أن تمر بها خلال تطورها عبر التاريخ . إن البداوة في الواقع نظام اجتماعي لا ينشأ إلا في الصحراء … وفي أكثر الأحيان لا تتخذ أمة ما نظام البداوة كنظام اجتماعي إذا كانت أرضها غير صحراوية). ويعقب الوردي على أخطاء يتداولها بعض الباحثين مثل قولهم (أن العرب كانوا في جاهليتهم يعيشون في طور البداوة ، وهو طور اجتماعي طبيعي تمر به الأمم أثناء سيرها إلى الحضارة). هذا ولم يشر الوردي إلى نشوء حضارات في المنطقة العربية قبل وأثناء عصر الجاهلية كاليمن والحضر وتدمر والمدائن . كما رد الوردي من يقول بأن أهم خصائص البداوة هو التنقل وقلة الاستقرار في الأرض ، فيعتبر ذلك خطئاً علمياً ينبغي تجنبه ، لأن ذلك يعني تشبيه البدو بالغجر وسكان الأسكيمو .
أصناف الوطن العربي
يصنف الوردي الوطن العربي إلى ثلاثة أصناف حسب تأثرها بالبداوة :
1- وجود الحضارة والبداوة جنباً إلى جنب ، فتسيطر الحضارة تارة والبداوة تارة أخرى ، كما في العراق والأردن والشام وتونس والجزائر والمغرب واليمن . والصراع في هذه البلدان كبير وفي العراق أشد .
2- تكون البداوة أشد وأكثر تأثيراً من الحضارة . ولهذا فالصراع فيها ضعيف لا يظهر إلا في نطاق ضيق جداً . ويشمل هذا لصنف نجد والأحساء والعسير وليبيا ، والجزء الصحراوي من الجزائر وعمان والقسم الجنوبي من مصر (الصعيد) . ولم يذكر الوردي الكويت ودولة الإمارات والبحرين مع أن الخصائص التي ذكرها تنطبق عليها مثل قلة السكان وكثرة البدو . ولعل ذلك يعود إلى أن تلك الدول لم تتشكل بعد أو تظهر كدول أثناء تأليفه الكتاب في بداية الستينيات .
3- والصنف الثالث هو الذي تكون فيه الحضارة أقوى أثراً من البداوة ، وأكثر تغلغلاً في الحياة الاجتماعية. ولا ينطبق ، برأي الوردي ، إلا على الوجه البحري أو القسم الشمالي من مصر . ونسي الوردي لبنان الذي يمكن تصنيفه ضمن هذه المجموعة الحضارية .
وقد مضى على هذا التصنيف حوالي أربعين عاماً ، تغيرت فيه العديد من ملامح هذه الدول من ناحية أنظمتها الاجتماعية وأنماط حياتها الفكرية والسياسية والاقتصادية . وقد تبدو الحاجة إلى تقييم جديد .
يستمر الوردي في بحثه عن مكونات الحضارة في العراق وأسباب ضمورها وانتعاشها . فيؤكد أولاً على أن الحضارة تتميز بوجود الدولة فيها ، بينما تتميز البداوة بوجود العصبية القبلية . وأن العراق شهد في فترات كثيرة من تاريخه ظهور دول قوية تعمل على إنماء الحضارة فيه ، ولكن تلك الفترات لم تدم طويلاً ، إذ سرعان ما تحل الفوضى والنزاع كما في العهد العثماني . وبقي العراق متأثراً بالصحراء حيث لا يفصل بينها وبينه فاصل من بحر أو جبل . وبقيت الصحراء العربية من أعظم منابع البداوة في العالم .
الثقافة الاجتماعية
حاول الوردي أن يحدد مفهوم البداوة ومفهوم الحضارة ، فهما متضادتان في الكثير من خصائصهما . لا يميل الوردي إلى استخدام لفظة الحضارة على الـ Culture ، بل يفضل استخدام مصطلح (الثقافة الاجتماعية) لتدل على ذلك المصطلح الغربي .
يصف الوردي الثقافة الاجتماعية للأمة كالشخصية للفرد . فكما أن كل فرد له شخصيته الخاصة به ، إذ هو يتميز بها عن أي فرد آخر . كذلك تكون كل أمة من الأمم ، إذ أن لها ثقافة اجتماعية معينة ، لا تماثلها أية ثقافة أخرى في أية أمة .
تعرّف الثقافة الاجتماعية بأنها مجموعة التقاليد والقواعد والأفكار الموجودة في أية أمة من الأمم . وهي تشمل مختلف شؤون الحياة فيها كالدين والأخلاق والقانون والفن والصناعة واللغة والخرافات وغيرها .
والثقافة الاجتماعية ليست مجموعة بسيطة مؤلفة من أجزاء متفرقة ، بل هي كلّ متماسك ومترابط ، بحيث تكون الأجزاء فيه متفاعلة فيما بينها تفاعلاً قوياً يجعلها ذات طبيعة جديدة لم تكن فيها عندما كانت منفردة. ويضرب مثلاً بظاهرة الكرم ، فطبيعة الكرم في المجتمع البدوي تختلف عن طبيعة الكرم في الحضارة ، فهي مطبوعة بطابع الثقافة البدوية . فقد نجد لها ما يشابهها في الثقافات الأخرى ، إنما هو تشابه بالاسم أو الشكل الظاهري فقط . ولذلك يقع الغربيون من مستشرقين أو رحالة في خطأ عند دراستهم للخصال البدوية ، إذ أنهم ينظرون فيها بمنظار ثقافتهم الأجنبية فيفهمونها على غير ما هي في الواقع .
وقد أشار بعضهم إلى أجزاء الثقافة البدوية دون أن يتعمقوا فيها . يقول المستشرق الإنكليزي إدوارد براون (١٨٦٢-١٩٢٦) Eduard Browne : أن الفضائل الرئيسة في البداوة هي الشجاعة والكرم والضيافة والولاء للقبيلة والثأر . وحصرها المؤرخ الأمريكي تشارلز مور (١٨٤٠- ١٩٣٠) Charles Herbert Moore في فضيلتين هما : الشرف والثأر . أما المستشرق اليهودي الهنغاري الأصل إغناس غولدزيهر (١٨٥٠-١٩٢١) Ignaz Goldziher فقد حصرها في واحدة ، هي المروءة ، ولكنه جعلها تشمل مظاهر شتى هي : الشجاعة الشخصية ، والشهامة التي لا حد لها ، والكرم إلى حد الإسراف ، والإخلاص التام للقبيلة ، والقسوة في الانتقام ، والأخذ بالثأر ممن اعتدى عليه أو على قريب له أو على قبيلته بقولٍ أو فعل.
نظرية الوردي في البداوة
يذكر الوردي أنه كان يقلب النظريات والفرضيات المعروضة أمامه ، فيناقش هذه ويرد تلك ، من أجل العثور على فرضية وافية تفسر هذه الظاهرة الاجتماعية . وبعد بحث وتردد يتوصل إلى فرضية (التغالب).
ويرى الوردي أن مركبات الثقافة البدوية هي ثلاث :
1- العصبية : و هي الرابطة التي تربط الفرد بقبيلته ، ويحصل منها على ما يقوّم حياته . فهي التي توفر له الأمن والحماية في مجتمع الصحراء الذي يحتد فيه الصراع على البقاء .
2- الغزو : حيث تكون المنافسة على المكانة العالية في القبيلة تتحدد بالشجاعة والقوة والبأس في القتال. فالحياة في الصحراء لا تحتمل الضعيف الجبان الذي يبقى ذليلاً محتقراً في قومه .
3- المروءة : وهي الصفة التي تضفي على شخصية البدوي صفات الشهامة ونجدة الضعيف أو حماية من يلجأ إليه في حالات السلم . كما أنه يقري الضيف ويساعد الجار أو المسافر بأقصى ما يستطيع.
ويختصر الوردي صفات الرجل البدوي بأنه يجب أن يكون (نهّاباً وهّاباً) أي تقاس شجاعته بغنائمه التي يحصل عليها من الغزو والنهب ، وبمقدار كرمه وبذله للآخرين . لذلك يصبح البخل دليلاً على الجبن والضعف ، لأن الشجاع لا يبخل . إنه واثق بأنه سينال بشجاعته غنائم أخرى ينفقها في خدمة ضيوفه واللاجئين إليه .
وفي نهاية بحثه يبدي الوردي اقراره بأن بحثه لم يكن علمياً حين يقول ( لست أدعي أن هذا البحث الذي قمت به حول البداوة كان بحثاً علمياً . والجدير بي أن أسميه (محاولة علمية) . والرجاء من زملائي الباحثين أن يعينوني فيه ويكشفوا عن أوجه الخطأ والصواب منه . (٤)
صفات الشخصية البدوية
ويحاول الوردي إثبات نظريته هذه (التغالب) من خلال استشهاده بأبيات من الشعر الجاهلي مثل قصيدة عمرو بن كلثوم التي يتفاخر فيها بالشجاعة وطعن الخصوم ثم يعرّج على التفاخر ببذل الطعام للآخرين .
ويبدأ في تحليل شخصية البدوي حيث يقول : البدوي يحب أن يكون غالباً لا مغلوباً في كل شأن من شؤون حياته . إنه يريد أن يغلب بقوته وقوة قبيلته ، ويغلب بمروءته . ولهذا كان من الصعب على البدوي أن يكون موضع عطف أو رعاية أو تفضل من قبل أحد . فذلك يعني في نظره دليلاً على الهوان والضعف . وعلى النقيض من ذلك ، نراه يشعر بالفخار حين يأتيه أحد يطلب منه فضلاً أو حماية . فهو يعد ذلك من علامات القدرة والمكانة في المجتمع .
إن نزعة التغالب تسيطر على شخصية البدوي وتجعله ينظر في كل الأمور حسبما توحي إليه . إنه يود أن يكون ناهباً لا منهوباً ، معتدياً لا معتدى عليه ، معطياً لا قابضاً ، مقصوداً لا قاصداً ، مغيثاً لا مستغيثاً ، مجيراً لا مستجيراً ، قادراً لا مقدوراً عليه ، حامياً لا محمياً ، مسؤولاً لا سائلاً ، مرجواً لا راجياً ، مشكوراً لا شاكراً …
وقد تفسر هذه المحدّدات العديد من السلوك التي تتميز بها الشخصية العراقية التي ورثت الكثير من هذه الصفات ، وتمارسها في شؤونها اليومية وحياتها الاجتماعية .
ويأخذ الوردي في مناقشة صفات الشخصية البدوية وردود أفعالها ومواقفها تجاه الفضائل والرذائل ، فيذكر نزعة الحرب ، وعدم الانضباط للدولة ، وأهمية النسب ، وصيانة المرأة وشرفها ، واحتقار المهن كالحدادة والنجارة والدباغة والحلاقة والحياكة ، والحساسية المفرطة للكرامة ، وحب الرئاسة والأمرة ، والنفرة من الطاعة والانصياع ، والحسد والنفاق والانتهازية والوفاء بالوعد .
وحول قضية النزعة الدينية في البداوة ، يرد الوردي الآراء التي تقول بأن البدو لا يميلون كثيراً إلى دين . ويرى الوردي أن هؤلاء يقيمون التدين البدوي من خلال معاييرهم الحضرية . ويعزو التدين في معناه الاجتماعي العام إلى مجرد ثلاثة أركان هي : 1- العقيدة 2- الشعائر 3- الأخلاق . ويرى أن الركنين الأولين من التدين واضحين فيهم. أما من حيث الركن الثالث أي الأخلاق فهم قد يختلفون فيه عن الحضر. فمن جانب نجدهم ذوي صدق وعفة وأمانة ، ومن جانب آخر نجدهم ذوي عصبية وثأر وغزو واعتداء ، وهي أبعد عن الأخلاق الدينية .
قضية تأريخية
يطرح الوردي قضية خروج مجموعتين بدويتين ، هما خروج بدو العرب إلى العالم إثر الدعوة الإسلامية ، وخروج بدو المغول إليه ، بعد ذلك بستة قرون ، فنشأت من جراء هذين الخروجين إمبراطوريتان كبيرتان . ويعترض الوردي على آراء بعض المستشرقين الذين عقدوا مقارنة بين هذين الخروجين ، وانتهوا إلى القول بأنهما من طبيعة متشابهة ، وأن محمداً (ص) لا يختلف عن جنكيزخان كثيراً . فيقول : هذا خطأ فادح لا نقرهم عليه ، وأن هناك فرقاً شاسعاً بين الخروجين ، والرجلين . ولا مجال للقياس بينهما .
ويذكر الوردي آراء كبار المؤرخين وعلماء الاجتماع أمثال المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون (١٨٤١-١٩٣١) Gustave Le Bon ، والمستشرق الانكليزي إدوارد براون (١٨٦٢-١٩٢٦)
Edward Granville Browne الذي يقول عن العرب بأنهم كانوا على حد تعبير أعدائهم الإسبان ( فرساناً وأبطالاً ، يمتازون بكثير من الرقة والدماثة ) على عكس المغول الذين كانوا متعطشين لسفك الدماء والقتل والتدمير والتخريب.
وفي الوقت الذي يرد فيه الوردي على آراء الذين يعللون تميز العرب عن المغول لأسباب قومية أو بما يسميه التعليل القائم على أساس من (الغرور القومي) ، يميل إلى (التعليل الديني) الذي يرى بأن الدين الإسلامي الذي حمله العرب عند فتوحهم جعلهم أقل قسوة وأكثر مروءة من المغول . وأن محمداً (ص) قد بعث في أصحابه وأهل بيته روحاً فياضة بمبادئ العدل والمساواة . وقد سار هؤلاء مع الجيوش البدوية الفاتحة ، فكانوا بمثابة (صمام أمان) فيها يردعونها عن السفك والظلم والتخريب جهد إمكانهم .
الصراع الثقافي في العراق
يرى الوردي أن العراق بقي بلداً مفتوحاً على الصحراء ، حيث تتسلل إليه منها القبائل البدوية وتستقر فيه تدريجياً ، حتى غدا العراق بودقة اجتماعية تتفاعل فيها القبائل الجديدة القادمة من الصحراء مع سكان العراق القدماء . وعندما تأتي هذه القبائل تحمل معها قيمها وأخلاقها وعاداتها ، وتتفاعل مع السكان وقيمهم وعاداتهم فتتأثر بهم ، كما أن السكان يتأثرون بالقبائل . هذا التأثير المتبادل يسمى في علم الاجتماع بالصراع الثقافي Clash of Cultures . ويؤكد الوردي بأنه دون التعمق في دراسة هذا الصراع لا نستطيع أن نفهم طبيعة المجتمع العراقي . ثم يأخذ في تقسيم العراق إلى مناطق جغرافية-ثقافية وهي :
١-المنطقة الجبلية : التي يسكنها الأكراد ، وفيها أقلية تركمانية تسكن في مدن وقرى واقعة في خط مستقيم تقريباً ، هو الخط الذي يكاد يفصل بين هذه المنطقة وبقية مناطق العراق . وفي المنطقة أقليات دينية كالغلاة واليزيدية وبعض الطوائف المسيحية . وتأثرت هذه المنطقة بالقبائل الجبلية أكثر من القبائل الصحراوية .
2- منطقة ديالى : وتقع جنوب المنطقة الجبلية إلى الشرق من بغداد . وهي منطقة لها أهمية اجتماعية واقتصادية على الرغم من صغر حجمها . وهي منطقة زراعية تشبه من بعض الوجوه غوطة الشام ودلتا مصر . وقد امتاز سكانها بأنهم أقرب إلى قيم الحضارة من جيرانهم . فهم لا يستنكفون من زراعة الخضر. وهذا أمر له دلالة اجتماعية لأن زراعة الخضر تعد حرفة (وضيعة) في العرف القبلي .
3- منطقة الجزيرة : وهي المنطقة الواقعة بين دجلة والفرات إلى الشمال من بغداد . وهي شبه صحراوية ، وتعد من الناحية الجغرافية امتداداً لبادية الشام. والقبائل التي تسكنها أشد تمسكاً بالقيم البدوية من القبائل الجنوبية ، إذ أنها أقرب منها عهداً بحياة الصحراء . فلهجتها قريبة من اللهجة الصحراوية ، كما أنها تعتنق المذهب السني السائد في صحراء العرب . أما القبائل الجنوبية فهي شيعية في الغالب .
ويشير الوردي إلى أن التشيع من العلامات التي نستدل بها على قدم السكنى في العراق ، حيث أن أكثر القبائل البدوية أخذت تعتنق مذهب التشيع بعد مجيئها إلى العراق بزمن قصير أو طويل أمثال قبائل تميم والخزاعل و زبيد وكعب و ربيعة والخزرج والجبور وبنى لام . ويعلل الوردي هذه الظاهرة الاجتماعية بأن الظروف النفسية والاجتماعية التي تحيط بالقبائل هي التي جعلتهم يتأثرون بالدعاية الشيعية القادمة من المراكز الشيعية كالحلة والنجف وكربلاء ، والتي تبعث بالخطباء والدعاة في مواسم محرم وصفر ، وجذب الزوار إليها لزيارة المراقد المقدسة لأئمة أهل البيت (ع) .
٤-منطقة الصحراء : وهي منطقة واسعة تقع إلى الغرب والجنوب الغربي من العراق . ولم تكن جزءاً من العراق قديماً ، ولكنها أعتبرت جزءاً منه في العهد العثماني لأغراض إدارية . وهذه المنطقة ذات طابع بدوي شامل ، وليس فيها من الصراع الثقافي إلا قليل .
٥-المنطقة الرسوبية : وتشمل وسط العراق وجنوبه . وهي أكثر مناطق العراق أهمية من الناحية الاجتماعية والتاريخية . وأن القدماء إذا ذكروا العراق عنوا به هذه المنطقة . ويرى الوردي أن هذه المنطقة (هي التي أعطت العراق طابعه الاجتماعي الذي اشتهر به منذ قديم الزمان . وهي البودقة الرئيسة للمجتمع العراقي ، وفيها تبلورت الشخصية التي تميز بها الفرد العراقي بوجه عام ) (٥). وهي المنطقة التي احتضنت الحضارة ، وتحمل مقوماتها إذا ما ازدهرت الزراعة فيها .
٦-منطقة البصرة : وتقع أقصى جنوب العراق ، وتضم مزارع النخيل الكبيرة . ويمتاز سكان هذه المنطقة بأنهم أضعف من غيرهم في العراق في نزعتهم القبلية وفي تمسكهم بالقيم البدوية . وقد سماها الباحث الأنثربولوجي الأمريكي هنري فيلد (١٩٠٢- ١٩٨٦) Henry Field اسم ( البقعة غير القبلية) . ويبدو أن طبيعتها البستانية قد أثرت فيها تأثيراً يفوق ما حدث في ديالى .
هذه التقسيمات تبدو بحاجة إلى مراجعة بسبب ما أصابها من تغيير ديموغرافي واجتماعي واقتصادي جراء سياسة النظام الصدامي خلال ثلاثين عاماً ، من حروب وتهجير وقصف وتدمير قرى وإزالة أخرى من الوجود ، وسياسة الحصار وتجفيف الأهوار وغيرها من النكبات التي أصابت الشعب العراقي . وما حدثت فيها من تغييرات اجتماعية واقتصادية وسياسية بعد سقوط النظام عاما ٢٠٠٣.
مكونات الشخصية في الريف
الشخصية بمعناها العلمي عبارة عن تركيب نفسي يتألف من صفات مختلفة ، وهو يميل نحو الانسجام والتوافق مع الثقافة الاجتماعية السائدة . فكل إنسان يملك شخصية خاصة به تميزه عن غيره من الناس . والناس يختلفون في نمط شخصياتهم تبعاً لتفاوت مقدرتهم على التجاوب مع الثقافة الاجتماعية السائدة . فمنهم من ينجح ومنهم من يفشل . والإنسان هو صنيعة ظروفه وعوامله النفسية والاجتماعية . والشخصية هي نتاج الظروف الواقعية .
بقي الريف العراقي يحافظ على القيم البدوية حيث أن الفرد من القبائل العراقية يتمسك بهذه القيم التي هي مناط المفاخرات والمشاتمات . ويشعر كل فرد بميل قوي نحو الإتصاف بصفات الفخار والابتعاد عن صفات الشتيمة . والمشكلة أن الفرد في الريف يعاني من ضغوط غير موجودة في الصحراء مثل سيطرة الحكومة ، وجود الأسواق والمرابين ، تحول رؤساء القبائل إلى بداية حالة من الإقطاع بسبب تعسفهم في معاملة أتباعهم ، ظهور دوافع الربح وحب المال لدى بعض الريفيين و استغلال المرأة الريفية ، وأساليب الزواج وامتهان المرأة وقتلها لمجرد الشبهة .
فالفرد الريفي يبقى يعاني من ضغط الواقع عليه تجعله غير قادر على الاستمرار في التمسك بالقيم البدوية التي تحترمها وتعتز بها . وتضطرها الظروف إلى الانحراف عن بعض الخصال البدوية ، مما يؤدي إلى ظهور الصراع في تكوين الشخصية الريفية .
الوضع الاجتماعي في المدن
أغلب مدن الوسط والجنوب تأسست في النصف الأخير من القرن التاسع عشر كقلعة صالح ، العمارة ، المجر الكبير ، علي الغربي ، الكميت ، شيخ سعد ، الكوت ، النعمانية ، الصويرة ، العزيزية ، الناصرية ، الشطرة ، الرفاعي ، قلعة سكر ، الحمزة ، الشامية ، أبو صخير ، المسيب ، الهندية والمحمودية . وهناك ثلاث مدن تأسست في القرن الثامن عشر هي الديوانية وسوق الشيوخ والزبير . أما الحي فقد تأسست في بداية القرن التاسع عشر ، والهاشمية تأسست في بداية القرن العشرين .
ويعزو الوردي هذه الحالة إلى تغير مجاري الأنهار حيث تختفي مدن وتظهر أخرى على ضفاف النهر . هذه الظاهرة جعلت أغلب سكان هذه المدن من أبناء القبائل المجاورة ، فهم (لملوم) حسب المصطلح القبلي. أما في منطقة الجزيرة أو ديالى فالمدن باقية على قدمها بسبب ثبات مجاري الأنهار . فلم يطرأ عليها تغيير كبير من حيث مواقعها وأسمائها . ويعتقد الوردي أن الكثيرين من سكان هذه المدن هم من بقايا الأقوام القديمة ، وأنهم قد استعربوا في لغتهم وقيمهم الاجتماعية من جراء احتكاكهم بالقبائل المجاورة لهم .
وتعاني المدن من الصراع الثقافي حيث بقيت بعض العادات والقيم البدوية تتصارع مع القيم الحضرية ومظاهر المدنية من بنايات ودوائر ودور فارهة وسيارات حديثة وأجهزة كهربائية ومدارس وروضات أطفال ودور سينما وغيرها.
عادات بدوية باقية
بقيت بعض القيم البدوية تأخذ أشكالاً متنوعة في السلوك ، فمثلاً نجد الكرم البدوي بالاهتمام بالضيوف وإكرام وفادتهم وتهيئة الطعام الجيد لهم . وإذا كان أهل المدن يفتقدون للمضايف ( الديوان المفتوحة سابقاً) فإن عادة إكرام الضيف بقيت جزءاً من شخصية العراقي . وتتصاعد وتيرة الإطعام في المواسم الدينية كمحرم وصفر ورمضان . وما زالت عادة (الوير) أي دفع ثمن الشاي في المقهى أو ثمن التذكرة في الباص وغيرها . ( نقول ذلك وفي ذهننا صورة العراقي المحروم اليوم من الطعام . كما أن الهجرة قد غيرت من عاداتنا أيضاً ) .
وهناك عادة أخرى هي عندما تزور بيتاً وقدم لك صاحب البيت شيئاً من الشراب والطعام ، وجب عليك أن تتمنع وتتعزز ، ووجب عليه أن يصر ويلح . وصاحب البيت لا يرحمك ، ويدفع الطعام إليك بالقوة ، وهو يقسم عليك بأكلها .
وعندما يزورك أحد ويقدم لك هدية ، فينبغي أن تتظاهر بقلة الاكتراث ، أو تقول له ( ليش هالزحمة) حتى تقبلها باشمئزاز أو ترميها في زاوية من البيت . كما أن الزائر يدرك ذلك فلا يسلمك الهدية بنفسه بل يضعها في مدخل الدار أو في ركن من الدار كي لا يحرجك بتقديم الهدية ، فتشعر أنه صنع لك معروفاً ، فهو أحسن منك ، فتصعد عندك القيم البدوية المتأصلة . الغريب أن الهولنديين يفرحون بالهدية ويفتحونها أمام الضيف ويطرون عليها ويبدون إعجابهم الكثير بها وبذوقك !! ويفاخر بعضهم بالموائد التي يمدها أثناء وجبات الطعام ، أو يتباهى بأنه يشتري أفخر أنواع الأطعمة والفواكه والملابس وغيرها . وقد يتكلف البعض في الولائم فوق طاقته من أجل أن يطريه الناس .
وبعضهم تقدم له الشاي أو الطعام فيقول لك لقد شربت أو أكلت للتو ، في حين أنه يرغب بتناول ما تقدمه له . هذه العادات مستمدة من قيم الأنفة والعزة والإباء التي هي من خصال الثقافة البدوية .
ويتميز المجتمع العراقي عموماً بالتماسك العائلي القوي ، ويمتاز أفراد العائلة بالتضامن وقوة الرابطة والوقوف مع بعضهم البعض أثناء الأزمات والمشاكل . فالعائلة تشعر كأنها عشيرة صغيرة تجاه غيرها . وكل عار أو فخار يصاب به أحد أفرادها لابد أن يصيب بقية الأفراد فيها .
ظاهرة الإزدواجية في الشخصية العراقية
إزدواج الشخصية ظاهرة اجتماعية موجودة في كثير من المجتمعات البشرية ، وهي قد تكون ضعيفة أو قوية تبعاً لتفاوت الظروف في كل مجتمع . وسببها وقوع المجتمع تحت تأثير نظامين متناقضين من القيم ، فيضطر بعض الأفراد من جراء ذلك إلى الاندفاع وراء أحد النظامين تارة ، ووراء الآخر تارة أخرى . فهم يناقضون أنفسهم دون اكتراث ظاهر . والفرد العراقي يعاني من هذه الظاهرة بشكل كبير ، فهو يهيم بالمثل العليا والدعوة إليها في خطابه ومجادلاته وكتاباته ، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس بعداً عن تلك المثل في سلوكه وواقعه .
وهنا لابد من الإشارة إلى الاختلاف الواضح بين تعريف إزدواجية الشخصية لدى علماء النفس وعلماء الاجتماع . فالإزدواجية تعتبر من الناحية النفسية مرضاً نادراً يعتري بعض الأفراد . وهذا المرض شذوذ في تكوين الشخصية حيث يتقمص صاحبه شخصية معينة تارة ، وتارة شخصية أخرى . ويدعى أيضاً بانقسام أو فصام الشخصية .
أما إزدواج الشخصية بالمعنى الاجتماعي فهو ليس مرضاً نفسياً ، بل هو ظاهرة اجتماعية . ويحدث لدى كثير من الناس الذين يعانون صراعاً ثقافياً . وقد تسمى هذه الحالة بـ(الثنائية الثقافية) . ويفسر بعض علماء الاجتماع هذه الظاهرة بأنه عندما يتعرض الفرد لمطاليب ثقافات اجتماعية متناقضة ، لاسيما في مراحل نموه الأولى ، قد لا يتمكن من تكوين شخصية متكاملة في نفسه . فهو يحاول أن يوفق بين تلك المطاليب المتناقضة دون جدوى . ولهذا فهو قد يصبح ذا شخصية مزدوجة قليلاً أو كثيراً .
النزعة الجدلية في الشخصية العراقية
يعلل الدكتور علي الوردي هذه الظاهرة بأن العراقيين يميلون إلى الجدل والولع به . وأن النزعة الجدلية قوية في الشخصية العراقية . ولعلها أقوى من أي بلد عربي أو إسلامي آخر . كما أن لها جذورها التاريخية ، حتى أن أمير المؤمنين علي (ع) قد قال عنهم أنهم ملأوا قلبه قيحاً . وبعد موته ازدادوا تعلقاً به وبمثله وقيمه حتى صار التراث الفكري في العراق مطبوعاً بطابع المثالية العلوية . وأخذوا يحلقون في تفكيرهم المثالي تحليقاً عالياً حين تخيلوا به نظاماً للحياة السياسية والاجتماعية مستمداً من السيرة الفاضلة لعلي (ع) . وهذه السيرة كان من الصعب تحقيقها بعد وفاة صاحبها .
كان تعرض العراقيين للظلم في العهدين الأموي والعباسي قد أدى إلى فجوة واسعة بين مثلهم العليا وواقعهم الاجتماعي والسياسي . وساعد على توسيع هذه الفجوة ظهور مذهب المعتزلة الذي يعتمد على الجدل المنطقي والأدلة العقلية في نشر عقائده . وحين كانت الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها في القرن الرابع الهجري كانت النزعة الجدلية في أوج قوتها ، وكانت بغداد حينذاك عاصمة العالم الإسلامي ومركز الجدل المنطقي في آن واحد .
وكانت النزعة الجدلية من أهم معالم النزاع الطائفي . فكان العوام يتحاربون بالخناجر والهراوات ، بينما كان الفقهاء يتحاربون بالأدلة العقلية . وعندما احتل العثمانيون العراق ، ازدادت النزعة الجدلية بسبب النزاع الطويل بين الدولة العثمانية والدولة الإيرانية .
آثار النزعة الجدلية في الوضع المعاصر
وبقيت النزعة الجدلية قوية حتى اليوم ، إلا أنها لم تقتصر على القضايا الدينية بل أخذت تدور حول مواضيع أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية . وللنزعة الجدلية جانب إيجابي حيث أنها تجعل الشعب أكثر ميلاً للاطلاع والقراءة وأوسع أفقاً من الناحية الذهنية ، ولكنها تحمل جانباً سلبياً هو أنها تجعله مشتت الأهواء والآراء ، لا يستقر على مبدأ واحد مدة طويلة ، ولا يعجب بزعيم أو يلتف حوله ويستمر على تأييده.
إن النزعة الجدلية تجعل الناس مثاليين في تفكيرهم أكثر مما ينبغي ، فإذا انتشر بينهم رأي أو ظهر زعيم ، فلابد أن يجدوا فيه نقصاً على وجه من الوجوه . فهم يتحمسون له في البداية ، ثم تقل حماستهم له شيئاً فشيئاً ، إذ أنهم يستخدمون تجاهه أقيستهم المنطقية ومثلهم العليا ، فيرونه أقل مما تصوروه في بادئ الأمر. وعند هذا يبدأون بالنفرة منه وبالانفضاض من حوله .
من عيوب النزعة الجدلية أنها تعلّم الفرد أن يطلب من غيره أعمالاً لا يستطيع هو أن يحققها بنفسه . فهو يريد من غيره أن يكون مثالياً في أعماله حسبما يقتضيه الجدل المنطقي ، ونراه عندئذٍ شديد النقد ، سليط اللسان ، يفترض في من ينتقدهم أن يكونوا معصومين من الخطأ . فإذا بدرت منهم زلة صغيرة ضخّمها بأدلته العقلية . أما زلاته التي يقترفها هو نفسه فهو ينساها ، وقد يأتي بالأدلة ليبرهن على أنه لم يفعل سوى الصواب .
إن الفرد الجدلي يطالب بالحقوق أكثر مما يقوم بالواجبات ، وأدلته وانتقاداته جاهزة في كل الأحوال . فإذا تقاعس عن القيام بواجباته كما تقاعس غيره ، وضع اللوم على غيره وبرّأ نفسه منه . فهو قادر على أن يبرهن أنه قام بواجباته خير قيام ، وأن السبب في الآخرين .
ومن الجدير بالذكر القول أنه ليس جميع العراقيين على درجة واحدة في هذا الازدواج . فالبعض منهم قد انغمروا في الثقافة الحديثة انصهاراً جعل ظاهرهم وباطنهم متقاربين . كما أن ظاهرة التدين قد هذبت قسماً كبيراً من حالة الازدواج رغم أنها لم تختف بعد في أوساط المتدينين والمتمسكين بأهداب الدين .
وغالباً ما تكون مرحلة الطفولة هي التي تكسب الفرد شخصيته ، حيث تبقى الأسرة والوضع الاجتماعي والمستوى المعيشي وطبيعة العلاقات داخل الأسرة والمستوى التعليمي ذات تأثير على بناء شخصية الرجل أو المرأة .
إن المشكلة في أولئك الذين كانوا في طفولتهم أشقياء أو محرومين أو لم ينالوا قسطاً من الحنان والتربية السليمة ، ثم يصيرون رجالاً ، ويحصلون على الشهادات العالية أو يتسنمون مراكز النفوذ والسلطة . فهؤلاء المزدوجين يبقون يرددون المبادئ والقيم العليا أمام الناس ، بينما هم في سلوكهم الواقعي لا يختلفون عن غيرهم ، ولعلهم أكثر انحرافاً عن المبادئ التي ينادون بها .
إن المبادئ الحديثة التي جاءت إلى العراق طارئة ، إذ أنها لم تنبعث من طبيعة ثقافته الاجتماعية الأصيلة. فبقيت على شكل محفوظات وأناشيد وهتافات وشعارات . والفرد يتعلمها في المدارس ، ويقرأها في الصحف والمجلات والكتب ، ويسمعها في الإذاعة والتلفزيون ، وتلقى عليه في المظاهرات والاحتفالات . فتبقى فعالة في مجال الكلام والجدل والانتقاد فقط . ومن الصعب أن تتغلغل بتأثيرها في النفوس . فالفرد قد يجادلك على أساسها ، إنما هو لا يستطيع أن يغير سلوكه بها إلا في نطاق محدود جداً .
ولا ننسى أن الحكومات المتوالية على حكم العراق بقيت تردد الشعارات وتمارس عكسها ضد الشعب ، مما رسخ حالة الشعور بالتفاوت الفاضح بين القول والواقع .
بعد سقوط النظام في ٩ نيسان ٢٠٠٣ وتأسيس نظام سياسي ديمقراطي يتبنى التعددية السياسية والأيديولوجية والانتخابات وتمثيل الشعب في مجلس النواب ، وتدوين دستور يضمن الحقوق والحريات ومنها حق التعبير والتظاهر والنقد الحكومة والمؤسسات ، وفتح عشرات القنوات الفضائية تدير حوارات وتوجه انتقادات للشخصيات المسؤولة ، كل ذلك فتح الآفاق أمام الناس في التعبير عن أنفسهم بكل وضوح وصراحة . فلم تعد هناك حاجة للازدواجية لأن الخوف زال عن نفوسهم.
الوردي والتحليل النفسي
ينقلنا الدكتور علي الوردي من خلال كتبه عبر مواضيع نحلق معه وخلالها في أجواء النفس وخباياها وما ورائياتها، مواضيع تقترب أو تبتعد بعناوينها عن التحليلات النفسية، ولكنها وعندما تطرق بجزئياتها أبواب الفكر الوردي تأخذ منحنى آخر لتستعرض مختبر اجتهاداته، لتخرج لابسة أبعاد كثيراً ما يفاجأ الذهن بعناوينها، ففي كتابه ( أسطورة الأدب الرفيع)، يأخذ العنوان القارئ إلى فضاء تحليلي من نوع آخر. فالكتاب يحتوي على مناقشة فكرية جميلة بين مدرستين، الأولى معتزة بالشعر واللغة إلى درجة التزمت والتعصب ، والثانية يمثلها الكاتب تنتقد الشعر والأدب السلطاني والقواعد اللغوية المعقدة التي وضعها النحاة.
يطرح الوردي ويناقش أثر الأدب واللغة على المجتمع العربي، ويضع أسباب اهتمام الخلفاء والسلاطين بها بشكل خاص حتى أصبح العرب من أكثر الأقوام اهتماماً بالشعر. وفي كتابه (وعاظ السلاطين) يطرح الوردي أموراً مختلفة منها أن منطق الوعظ الأفلاطوني هو منطق المترفين والظلمة، وأن التاريخ لا يسير على أساس التفكير المنطقي بل هو بالأحرى يسير على أساس ما في طبيعة الإنسان من نزعات أصيلة لا تقبل التبديل، والأخلاق ما هي إلا نتيجة من نتائج الظروف الاجتماعية. ومن خلال كتابيه (خوارق اللاشعور) و(الأحلام بين العلم والعقيدة) يأخذنا الوردي عبر التحليلات النفسية في مناحي تمس جميع الناس، فمن منّا لا يحب أن يعلم الكثير حول ذاك الشعور المكتنف بالغموض والذي يجترح العجائب، وعن تلك الأحلام التي تنثال صوراً عند انطلاق لا شعوره من معتقله عند نومه؟!!
وفاته
توفي علي حسين الوردي في 13 تموز 1995 بعد صراع مع مرض السرطان، ولم يتمكن الأطباء من معالجته لافتقار المستشفيات العراقية آنذاك إلى الأدوية والمستلزمات الطبية بسبب الحصار الاقتصادي المفروض على العراق، حيث سافر إلى الأردن ليتلقى العلاج في مدينة الحسين الطبية وبعدها عاد إلى العراق ليقضي نحبه فيه. تم تشييعه في بغداد ، ودفن في مقبرة جامع براثا بجانب الكرخ.
المصادر
١-علي الوردي (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)، ص 9
٢- علي الوردي ، مصدر سابق ، ص ٢٠
٣- صائب عبد الحميد (علي الوردي: عالم الاجتماع المثير للجدل ) ، مجلة قضايا إسلامية معاصرة ، العدد: الثالث ، ص 156
٤-علي الوردي ، مصدر سابق، ص ١١٥
٥- علي الوردي ، مصدر سابق، ص ١٤٥
٦- صلاح عبد الرزاق (ملامح الشخصية العراقية .. قراءة لنظرية الوردي)