الرئيسية / قامات عراقية خالدة – ١٨ .. محمد مهدي الجواهري شاعر العرب الأكبر

قامات عراقية خالدة – ١٨ .. محمد مهدي الجواهري شاعر العرب الأكبر

"Today News": بغداد 

٨ كانون الثاني ٢٠٢٥

محمد مهدي بن عبد الحسين بن عبد العلي الجواهري (١٨٩٩-١٩٩٧) شاعر عراقي ، يُعد من أفضل شعراء العرب في العصر الحديث. تميز بجزالة الألفاظ وقوة السبك والسلاسة وعذوبة اللفظ والايقاع الموسيقي المتناغم وفخامة العبارات أشبه بالشعراء العرب القدماء كالمتنبي وأبو تمام والبحتري.

الأسرة والنشأة
ولد الجواهري في النجف في ٢٦ تموز ١٨٩٩  ، في أسرة ذات سمعة ومقام بين الأوساط النجفية الدينية والأدبية. النجف التي يصفها الجواهري بأنها مدينة بلا شجر ، ولا عشب ، وشحة في المياه ، زحف الملح من البحر اليابس إلى أرضها ، وغطت رياح السموم كل ما فيها بلون التراب الرمادي. نجف قصور الخورنق والسدير في الحيرة وصاحبهما النعمان. النجف سوق القبائل العربية من أرياف الفرات والجنوب والوسط وبدو الصحراء يرتادونها لبيع وشراء الطعام ، نجف المرقد العلوي وقبابها ومنائرها الذهبية التي صارت قبلة للزوار من مختلف الشعوب والأمم من أنحاء العالم.
كان المنزل الذي ولد ونشأ فيه الجواهري بقرب الصحن العلوي ، تفتحت عيناه على هذه الفسيفساء البشرية التي يضمها الصحن والحضرة والسور المرمري الذي يحوطهما . وتلك المدارس المحيطة به وما تتعالى على مقربة من سطح الدار من المغنين بآذان الفجر.
انجب والداه أربعة أخوة وأخت واحدة عاشت في الغربية ودفنت في مقبرة السيدة زينب بدمشق. وأما الأخوة فأحدهم انتحر ، والآخر استشهد (جعفر) وهو أصغرهم سناً ، والأكبر عبد العزيز.
وعندما توفي جده الأكبر محمد حسن النجفي الجواهري ، انتقلت الزعامة إلى أبناء وأحفاد لم يكونوا جديرين بها من أمثال جد محمد مهدي واسمه عبد العلي. فقد كان من طبقة الأشراف المدللين ، يقضي أوقاته في السفرات خارج العراق وكثرة الزوجات ومتع الدنيا. ولذلك انتقلت الزعامة إلى واحد من أعمام محمد مهدي.
 وكان أبوه عبد الحسين عالماً من علماء النجف ومن أفاضل العلماء، درس ووصل أعلى الحلقات في الأصول والفقه. وكل من كتب في تاريخ النجف وبيوتاتها إلا وذكره. إذ كان عمره ثلاث وعشرين من عمره حين قال فيه الشاعر الشهير السيد حيدر الحلي (١٨٣١- ١٨٨٦):
فات الشيوخ يافعاً وسادها***ندب ثنت له العلى وسادها
وما أظلمت في الدين من معضلةٍ***إلا جلا بفكره سوادها
سينتضي دين الهدى من فكره***صوارماً ما سكنت أغمادها

أما الشاعر جعفر الحلي وصاحب الديوان الشهير فقد هنأ والد الجواهري بولادة ابنه (عبد العزيز) وهو أخو محمد مهدي الأكبر ، ببيتين من الشعر:
بشراكم هذا غلام لكم***مثل الذي بُشّرَ فيه (العزيز)
سمعنا أباه أن تأريخه***أعقبت يا بشراك (عبد العزيز)

 وكان والده مؤمناً متديناً عفيفاً متواضعاً ، يكره الفخفخة والمفاخرة بالأملاك والعشيرة التي اعتادها كبار ووجهاء النجف. كان حياتهم في بيت متواضع ، لديهم خادمة زنجية اسمها (تفاحة) ، كانت ترعى محمد مهدي وأخاه عبد العزيز وأخيه الأصغر الشهيد جعفر وتغدق عليهم محبة وحناناً.
وكان والده يمتنع عما يقوم به معممو البيوت الكريمة بزيارات ورحلات في مواسم معينة إلى معارفهم وأقاربهم من القبائل البدوية وشيوخ العشائر في مناطق الفرات المتصلة بالنجف حتى البصرة وما جاورها من أطراف الحويزة والمحمرة . ويعودون من رحلاتهم وقد أشبعت أيديهم بقبلات التبرك وجيوبهم بمال يكفيهم لعام أو أكثر من الحياة الكريمة. وكان يرفض السفر حتى إلى أخواله بين النجف والحلة ، والسفر إليهم مسافة ساعة من الوقت ، وذلك لأن أمه واسمه (صيتة)، أي جدة محمد مهدي ، أن سمعته تمنعه من ذلك الفعل ، فجده لأمه هو شيخ مشايخ زبيد.
 
وكانت والدته فاطمة بنت الشيخ شريف ، ربة بيت متعبدة ، تعلمت القراءة وقليلاً من الكتابة ، وشيئاً من التذوق في مجال الشعر والأدب. وزادت عليه شقيقته (نبيهة) واهتمامها بالشر.
ويتحدر من أسرة نجفية محافظة عريقة في العلم والأدب والشعر تعرف بآل الجواهري نسبة إلى مؤسسها، الذي يدعى الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر (١٧٨٥- ١٨٤٩). وقد ألّف الأخير كتابًا في الفقه واسم الكتاب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام). ومن كل الكتب الشيعية اختاره الفقيه القانوني المصري عبد الرزاق السنهوري في تنظيم القضاء في العراق . فقد خص كتاب (جواهر الكلام) بالذكر ، وبخاصة في القضاء الجعفري. ومن هنا لُقِب بالجواهري، وكان لهذه الأسرة في النجف مجلس عامر بالأدب والأدباء يرتاده كبار الشخصيات الأدبية والعلمية.
في الثانية من عمره كاد يموت غرقاً في حوض الماء في باحة الدار ، عندما أفلت من يد والدته وانقذ بأعجوبة. وتكرر الأمر عندما سقط من مدرج عال وضعته فيه والدته ، فسقط وكسرت يده اليمنى ، وجُبرت خطئاً ، فأعيد جبرها ، لكن بقي عيب في يده حتى لُقّب بالأعضب طيلة فترة صباه. وبقي العيب يلازمه حتى شيخوخته. وكان يتنمرون عليه بالقول (مهدي عضيبي ، يفور فورة ويستوي) ، مبدلين الضاد بالنون لتصبح (عنيبي) لخنة في لسانه ، يصاحبها تصفيق لتصبح أنشودة سخرية.

الدراسة
تعلم محمد مهدي القراءة والكتابة على يد شقيقه الأكبر (عبد العزيز) وابن عمته (علي الشرقي). وتعلم أوائل السور عند (ملّة أم جاسم) ، وهي سيدة فاضلة من عاذلة (آل محي الدين) ، تسكن بيتاً متواضعاً في زقاق ضيق ، أقامت فيه صفاً لتعليم القرآن. وهناك تعلم الجواهري مع أقرانه (جزء عمّ).
وهناك تعرف محمد مهدي على أصغر رجل دين في العالم هو جاسم ابن الملّة. لقد وضعوا العمامة على رأسه  ، وأصبح شيخاً قبل أن يتجاوز العاشرة. وقد احتار جاسم بين العمامة وهيبتها وبين طفولته.
وكان والده حريصًا على إرساله إلى المدرسة وأن يُدرَّس من أساتذة كبار يعلمونه أصول النحو والصرف والبلاغة والفقه. ففي السادسة من عمره أخذه والده إلى سيد مشهور في النجف ، لقب نفسه بـ (جناب عالي). وكان قد أقام كتّابه في الطابق الثاني من أحد أواوين الصحن العلوي. وكان الآباء يتفقون معه على (لك اللحم ولنا العظم). وبناء على ذلك سيبالغ المعلم في عقاب الأطفال. ومرة هرب الجواهري من عصا الجناب العالي فقفز في كوز ماء كبير خالي من الماء ، وتجنب المعلم كسر الكوز.
رغم قسوة المعلم لكن الجواهري اتقن حفظ الكثير من سور القرآن الكريم ، ومن خطب نهج البلاغة التي ما زال يفتخر بها ، وأنها ساعدته في كتابة الشعر لما تنزله من الالهام والايحاء على الشعراء والبلغاء. وكان عليه أن يفظ عصر كل يوم خطبة من (نهج البلاغة) ، أو قطعة من (أمالي أبي علي القالي) ، وقصيدة أو قطعة من (ديوان المتنبي). وفي صباح اليوم التالي يدرس النحو والصرف على يد الأديب محمد علي المظفر الذي أعجب بحفظه وذاكرته ، فعلمه (الأجرومية) و (قطر الندى) لابن هشام ، ثم (ألفية ابن مالك) التي تتألف من ألف بيت شعر تتناول كل قواعد النحو والصرف. كل ذلك أتمها الجواهري في شهرين أو ثلاثة ، بينما غيره يتمها بسنة أو سنتين. بعد ذلك درس علم البلاغة والبيان على يد شيخين مقتدرين هما علي ثامر ومهدي الظالمي. وفيما كان أترابه يسمعهم يلعبون في الشارع وهو مشغول بحفظ المواد. ولذلك أدى الامتحانات واختصر مراحل الدراسة.
كان الجواهري وهو صبي يرتدي العرقچين (طاقية) ، ثم لما صار شاباً أنيقاً ارتدى الكوفية والعقال ، ثم اتردى العمامة البيضاء ، فدخل عالم الشيوخ متفاخرا بحماس. لقد سرقت من الجواهري طفولته ولعبه ولهوه وضحكاته ، الأمر الذي كان له تأثير على حياته كلها ، بما حملته من تناقضات ومباذل وعُقد ومفارقات ، قد انعكست على حياته وشعره وعلاقاته مع الناس.

رهبة الشعر
النجف مدينة الشعراء والأدباء ، البيوتات النجفية ودواوينها تعتز بالشعر والأدب ، ومنها بيت الجواهري . وكان عامة الناس يحفظون الشعر ويقرأونه في كل مناسبة ، ويغلب عليهم حفظ الشعر الشعبي.
بدأ الجواهري يتحسس الشاعرية في بداية طفولته ، إذ حضر وفاة جدته أم ابيه (صيتة) التي غطى اسمها على اسم والده ، فقيل (بيت صيتة) ، وليس والده الجواهري. أقيم لها مجلس عزاء لم تشهده النجف بوفاة أية سيدة أخرى. إذ تقاطر كبار رجالات المدينة ، وصفوة العلماء والأدباء والشعراء ، في طليعتهم السيد محمد سعيد الحبوبي. فقرأوا قصائد وأبياتاً من الشعر ، ومنهم الشيخ محمد شريف الذي يسمى (بلبل الفرات) وكان يمتاز بصوت عذب وإلقاء جميل وهو ينشد في رثاء جدة الجواهري. وتناوب الشعراء مثل الشيخ جواد الشبيبي وعبد المطلب الحلي. لقد كان يستمع ويشعر في داخله بمهابة كبيرة تنقله إلي عوالم رحبة.
وتكرر المشهد ثانية وهو في العاشرة من عمره ، فشعر بالرهبة عند اقترابه من مجلس تأبين الملا كاظم الخراساني (١٨٣٩- ١٩١١) الذي أقيم في مسجد الهندي. إذ استمع إلى قصائد الشعراء وهم يودعون (أبو الأحرار) لمساندته ثورة الدستور في ايران عام ١٩٠٥. ولثلاث مرات يصل باب الجامع ثم يتراجع وجلاً أمام الوجوه البارزة من شيوخ الشعر. ويروي الجواهري أن السيد محمد سعيد الحبوبي زار والده ، وتقدم محمد مهدي ليقدم الشاي ، فارتجف عند رؤيته وجه السيد ، وأصابته رهبة تحولت إلى صدمة ، فأسقط صينية الشاي من يده.
لقد بدأ والده شاعراً ، وله ديوان صغير مخطوط ، ثم انتهى فقيهاً . وكان يحتفظ بعيون الشعر في مكتبته ، وكان محمد مهدي يختلس اللحظات إليها ليقرأ في دوان شعر ، وأحياناً يفاجئه والده في المكتبة. وكان يقوم بترتيل القصيدة بصوت عال لقياسها على مقياس الأصداء من أنفاسها وأنغامها ، وانسجام حروفها وكلماتها ، ومدى التصاقها بقوافيها ومعانيها. وعندما يعود والده إلى المنزل ينزل محمد مهدي إلى سرداب الدار كي يواصل ترديد الشعر لوحده. وعندما ينزل أفراد العائلة صيفاً إلى السرداب البارد ، يضطر محمد مهدي إلى الغرف العلوية الحارة كي يختلي بالدواوين التي يحبها. كما كان يستل خلسة الدواوين من مكتبة شقيقه عبد العزيز منتهزاً غيابه ليعيدها قبل أن يحضر.
كان الشعر حاضراً في الحياة اليومية لأهل النجف ، يجري كالطعام والماء . فإذا كانت المناسبة فرحاً زغردت القصائد جميلة كالأغاني. وإذا كانت المناسبة تعود تلك القصائد حزينة ، خيمت القصائد مذكرة بالحادث الجلل أو غير الجلل. وتصبح تلك القصائد وأصحابها حديث الناس من جديد حيث يُقيّم كل ذلك ويجادل فيه.
كان الشعر متعة المجالس الأثيرة ، حيث المطاردات الشعرية التي تمتد ليالي وأياماً ، وفي المقدمة منها مسابقات التقفية الصعبة ، حيث يقرأ المتسامرون هذا البيت وذاك ، ويتركون للآخرين استنباط القافية.
بدأ الجواهري في هذه المجالس مستمعاً مسحوراً بإيقاع الشعر وصوره ، ثم أصبح وهو يتصاعد شيئاً فشيئاً ، وهو في عنفوان الصبا. وحيثما ذهب كان أترابه وحتى معلميه يتسلّون باختبار حافظته الشعرية. وكانوا يتلون عليه أربعة أو خمسة أبيات ، وعليه أن يعيدها على الفور ، فيعيدها ولمرة واحدة. ووصلت الأمور إلى مغريات كبيرة مثلاً زارهم السيد علي الجصاني وهو الأقارب ، وعرض على محمد مهدي ليرة رشادية ذهبية إذا ما حفظ (٤٠٠) بيت في يوم واحد!! وسمح له بعشرين غلطة. في اليوم التالي عاد لينشدها عن ظهر قلب ، والعيون مفتوحة عليه ، فأكملها مع أخطاء قليلة. استلم الليرة الذهبية ودسها في جيبه. عندها أدرك والده أنه لا يستطيع منعه عن الشعر.

وفاة والده
في أحد أيام صيف ١٩١٧ عاد أبوه من قيادته فريقاً من العشائر في معركة مع القوات البريطانية في موقعة الكوت الثانية. وكان قد أصيب بداء التيفوئيد أثناء تواجده في مديان الحرب ضد القوات البريطانية. كان والده طويل القامة ، جميل الوجه ، أسمر اللون ، في الخمسينات من العمر، قال له: ابني مهدي سأموت! ظل مهدي صامتاً ، ومتسائلاً : لماذا يموت؟ وكيف يموت؟
في اليوم التالي زاره الشيخ جواد ومعه السيد محمد علي بحر العلوم يطلبون منه النهوض من الفراش ولكنه كان يبتسم. وفي المساء وعند الغروب طلب من ولده عبد العزيز وربيبه علي الشرقي أن ينهضاه للصلاة. صلى الوالد صلاة مضطربة ثم ركع فسجد ومات.
أصيب مهدي بالصدمة ، فلا دمعة ، ولا نحيب ، ولا بكاء ، بل بقي مسمراً متفرجاً على مصير إنسان كان معه قبل ساعات.

استعادة الذات
بعد وفاة والده انفرد مهدي بشخصيته مثل كل البشر ، بعد أن كان مجرد ظل لوالده ولوصايته المحكمة عليه. بعد رحيله خرج الشاعر الحبيس من جبة الفقيه ورجل الدين التي فُرضت عليه. ومن وصاية الأب إلى رعاية لطيفة أغدقها عليه أخوه الأكبر عبد العزيز. كان أكثر الأخوة الأربعة شرفاً وعطفاً على بقية أخوته. كان تقدمياً منفتحاً وواقعياً ، وفضلاً عن دراسته الفقهية وتأثره بالثورة الدستورية التي قادها الملا كاظم الخراساني عام ١٩٠٥. وكان شاعراً مجدداً في موضوعه وثقافته.
كان مهدي يحضر مجالس عبد العزيز وأترابه وهم يناقشون مجالات السياسة والأدب والشعر الجديدة على المجتمع النجفي بخاصة وعلى العراق بعامة. وكان مهدي يأخذ الكتب الجديدة من مكتبة عبد العزيز ، مثل كتاب داروين (النشوء والارتقاء) ومجلة (العصور) للمفكر إسماعيل مظهر ، وكتب الثائر المتمرد (سلامة موسى) وغيره.
لقد تأثر مهدي بهذا الجو الثقافي ، وعجّل في انطلاقته خارج الجو النجفي التقليدي. وبادر إلى النشر باسم مستعار عندما نشر أول قطعة في جريدة (العراق) وهو في الثامنة عشرة ، وكان عنوان القصيدة (الشاعر المقبور) جاء فيها:
دعا الموتَ فاستحلت لديه مراثرهْ***أخو مورد ضاقت عليه مصادُرهْ
عراه سكوتٌ فاسترابت عُداتُهْ***وما هو إلا شاعرٌ كلَّ خاطره

اشتهرت القصيدة ونالت المديح لأنها تتحدث عن وحدة الشاعر بأسلوب ضبابي رمزي ، حتى أن شقيقه عبد العزيز سأله: أأنت أرسلت قصيدة إلي جريدة العراق؟ فأجابه وهو خائف من غضبه: نعم.  
بادر مهدي إلى استعارة كتب الشعر والأدب واللغة ، ودواوين البهاء زهير وابن سناء الملك والأبيوردي من شعراء المماليك . هذا عدا دواوين الشعراء الكبار من عهد الجاهلية وصدر الإسلام والعهدين الأموي والعباسي.
وكان مهدي الشاب المنفتح على الثقافة العصرية والأدب القديم يعني من تجاذب بين ملابسه الدينية وعمامته البيضاء ولحيته ، وبين ثبات النفس المتفتحة على مرحلة جديدة وعهد جديد. فثارت نفسه على ما اعتاده ، وصار ينفق على السهر على ضفة الفرات في الكوفة مع أصدقائه ليلاً. وصار يقرأ الكتب المترجمة من روايات غربية مثل (الأوباش) للفرنسي أميل زولا (١٨٤٠- ١٩٠٢)، (اللصوص) للألماني فون شيلر (١٧٥٩-١٨٠٥) ، و(ابن الطبيعة) لهايز باشيف ، و(خواطر حمار) للكاتب الفرنسية دي سيجور (١٧٩٩- ١٨٧٤).

زيارة بغداد
بعد نشر قصائده الأولى في صحيفة (العراق) عام ١٩٢٠ ، ذاعت شهرته حتى أن بعض الشعراء رد عليه في جريدة (الرافدين) ، عندما نشر الشاعر محمد الهاشمي قصيدته (إلى نابغة النجف) التي يخاطب بها الجواهري:
أيها البلبل غرّد***وانظم الآلام شعرا
كلنا مصغ حزين***كلنا يطلب أمرا
لم يصدق مهدي ما قاله فيه شاعر آخر ، ولم تحمله الأرض فرحاً وسعادة. الأمر الذي شجعه للانطلاق خارج فضاء النجف بل وخارج العراق. إذ أخذ يرسل قصائده إلى مجلة (العرافان) في صيدا بلبنان ، وكان صاحبها أحمد عارف الزين ، وإلي مجلة (الهلال) المصرية.
في أول زيارة له للعاصمة بغداد ، أخذ الجواهري يطوف على الصحف التي نشرت قصائده. وقد فوجئ أصحابها بصغر سنه ، ونحولة جسمه ، والثياب التي يرتديها وهي الجلباب والعباءة العربية وعلى رأسه عمامة. أخذ يحدق بالمرآة ليرى وجهه وجسمه ، فعرف شيئاً اسمه الأناقة في حياة الانسان. كانت بغداد بالنسبة له عاماً مجهولاً. وعندما عاد إلى النجف صار يتحدث عنها وكأنه كولومبس مكتشف أمريكا ، مع أنه لم يمكث فيها سوى يومين ، فأخذ يروي مغامرات من خياله ، ويصف حوانيتها وبائعاتها الجميلات. وقف عند أحد الدكاكين واشترى صور ممثلات أجنبيات مشهورات وهو المعمم القادم من النجف.

الانطلاقة الشعرية
في عام ١٩٢١ نشر قصيدته (ثورة العراق) تتناول نكسة ثورة العشرين ١٩٢٠ التي خنقتها القوات البريطانية ، ولم تدم سوى شهرين ، تمت معاقبة الثوار والزعماء السياسيين والعشائر. وكان عمر الجواهري اثنان وعشرون عاماً. يقول فيها:
لعل الذي رلّى من الدهر راجع***فلا عيشَ إنْ لم تَبقَ إلا المطامعُ
غرورٌ يُمنّينا الحياة: وصَفْوُها***سرابٌ وجناتُ الاماني بلاقعُ

 لقيت القصيدة ترحيباً وتأثيراً في الأوساط العراقية ، فقد تأثر بها الشيخ الخالصي نفسه ، فطلب من السيد محمد رضا الصافي في النجف أن يطلب الجواهري ما شاء من هدية عليها. فطلب منه نسخة من موسوعة (دائرة المعارف في القرن العشرين) لمحمد فريد وجدي (١٨٧٨-١٩٥٤) ، وتقع في عشرة أجزاء صدرت عام ١٩١٠ .  ولما لم يجدها في الأسواق أهدى مبلغاً من المال .
وأخذ ينشر في صحف ومجلات عديدة منها مجلة (لسان العرب) التي يصدرها العلامة أنستاس الكرملي ببغداد. وزار إيران وشاهد الطبيعة الخلابة في مصايفها فكتب قصيدة (وقفة على كرند) وهو مصيف قرب الحدود العراقية ، وقصيدة (شمرانات) طهران ، وفيها البيت الذي أثار عليه ضجة محمومة ، بدلت مسيرة حياته ومسيرة حياة خصومه وهو:
هبَّ النسيم فهبت الأشواقُ***وهفا إليكمْ قلبُهُ الخفّاقُ
هي (فارس) وهواؤها ريح الصبا***وسماؤها الأغصانُ والأوراقُ

وكتب عنها الأديب المصري أحمد حسن الزيات في مجلته الشهيرة (الرسالة) فقال: لقد كانت قصائد الجواهري في مصايف ايران نقلة بديعة تستحق الذكر في تطوره الشعري.

نصرته للمرأة
عُرف عن الجواهري نصرته لتعليم المرأة وتحمله العداء تجاه موقفه هذا. فعندما أراد أهل النجف فتح مدرسة للبنات ، عارضها بشدة بعض المتزمتين. بينما كان الجواهري ينظم قصيدته الشهيرة (علمّوها) التي قال فيها:
علَّموها فقد كفاكُمْ شَنارا***وكفاها أنّ تحسَبَ العلمَ عارا
وكفانا من التّقهقُرِ أنّا***لم نعالج حتى الأمورَ الصغارا
هذه حالُنا على حينَ كادتْ***أممُ الغربِ تسبِقُ الأقدارا
أنجب الشرقُ جامداً يحسبُ المرأةَ***عاراً وأنجبت طيارا
تحكم البرلمانَ من أمم الدنيا***نساءٌ تمثلُ الأقطارا
ونساء العراقِ تُمنعُ أن ترسمَ خطّاً***أَوْ تَقْرأَ الأسفارا
علِّموها وأوْسِعوها من التّهذيب***ما يجعلُ النّفوسَ كبارا
ولكي تُحسنوا سياسةَ شعبٍ***بَرهنوا أنّكم تسوسون دارا
أنَّكُمْ باحتقاركُمْ للنساء اليومَ***أوسعتُمُ الرّجالَ احتقارا
أفَمِنْ أجلِ أنْ تعيشوا تُريدونَ***لثلْثّيْ أهلِ البلادِ الدّمارا
إنَّ خيراً من أن تعيشَ فتاةٌ***قبضةَ الجهلِ أن تموتَ انتحارا
أيُّ نفعٍ من عيشةٍ بين زوجينِ***بعيدين نزعةً واختبارا
وخلال البيوتِ لا تجدون اليومَ***إلاّ خصومةً وشِجارا
اختياراً بالبنت سيروا إلى صالحها***قبل أن تسيروا اضطرارا
فعلى قدر ما تزيدون في الضغط***عليها ستُوجدونَ انفجارا
وَهَبوا مرةً نجحتم فلا تنخدعوا،***سوف تُخْذلون مرارا
أسلموا أمرَهم إلى الشيخِ عُمياناً***وساروا يقفونه حيثُ سارا
وامتطاهم حتى إذا نالَ بُغيا***خلعَ الُلجمَ عنهمُ والعِذارا
فهاجوا وهاجموه في الصحف والمحافل، فردَّ عليهم بقصيدةٍ تحت عنوان "الرجعيون" يقول فيها:
تَحكّمَ باسمِ الدين كلُّ مُذَمَّمٍ***ومُرتكبٍ حفّت به الشُبهاتُ
وما الدينُ إلا آلةٌ يَشهَرونها***إلى غرضٍ يقضونهُ وأداةِ
فشكوه إلى الملك فاستدعاه وطلب منه أن يكفَّ ويعتذر وانتهى الأمر بأن قدَّم استقالته من وظيفته في التشريفات.

 
ثيمات الجنس والخمر
كانت السفرتان لإيران عامي ١٩٢٤ و ١٩٢٦ ، قد وضعت الجواهري في مصب جديد تفجرت به قصائده ، وسارت به مساراً جديداً من النضج والبلاغة. لقد انتفض وتمرد على الأعراف والتقاليد وعلى الطبقات الحاكمة . بعد عام أو عامين نشر قصائده (جربيني) و(ليلة من ليلي الشياب) و(عريانة) في مجتمع ديني شرقي محافظ. وكتب (الرجعيون) و (مدرسة البنات) و (الاقطاع) و(عبادة الشر) و(الأنانية) ، وهي بمثابة فتح النار على المجتمع المغلق. لقد كتب الجواهري في الجنس والعري والخمر والاغتصاب بما لم يكتبه شاعر نجفي ، فقد اخترق كل حجب الشرف والعيب والأخلاق فتراه يقول:
تدَّعيني لما وراء ثياب البعض***نفسٌ سريعةُ الالتهابِ
فتراني وقد حُرمت أُسّلي***النفس عنها بلمس تلك الثياب!
فإذا لم تكنْ تعوَّضْتُ عنها***صوراً من تخيّلاتٍ عِذابِ
ولقد تَخطرُ (المباذل) في بالي***بشكلٍ يدعو إلى الاضطرابِ
أو بشكل يدعو إلى استحياءٍ***أو بشكل يدعو إلى الإعجابِ
فتُراني مُفكّراً هلي مواتاة التراضي***أحلى من الاغتصاب؟
وهل (الفعلة) التي خُنت فيها***خَلّتي ، والتي دعن لاجتنابي
والتي جئتُها أُكفّر عنها***بكتابٍ أردفته بكتابِ
بشَرّ جاش العواطف حتى***جذبته جريمة الارتكابِ
أم تُراني لبست فيها علي حين***اندفاع مني لباس ذئابِ؟
أتراها نتيجة الشرب أم أنّي***ظُلماً ألصقتها بالشراب؟  

قصته مع ساطع الحصري
في عام ١٩٢٧ تلقى الجواهري وهو في النجف كتاباً من صديقه باقر الشبيبي يخبره أنه مرشح للعمل في التدريس في إحدى المدارس الثانوية. والمفاجأة أن يقدم الجنسية العراقية كشرط للتعيين في الوظيفة. لم يكن مهدي ولا والده ولا جده يعرفون ، ولا علماء الدين في النجف ، ولا عشائر الفرات العربية الأصيلة تعرف ما هي الجنسية وما يقصد بها؟ وكان قانون الجنسية قد صدر عام ١٩٢٤ وقسّم العراقيين إلى فئتين: الأولى تبعية عثمانية ، والثانية تبعية إيرانية. وكلاهما أجنبية ، لكن جرى التنظيم الإداري أن العراقي هو يحمل التبعية العثمانية ، وغير العراقي من يحمل تبعية أخرى. وكان عبد المحسين السعدون قد وضع قانون الجنسية ليتم إبعاد الأكثرية الشيعية من وظائف الدولة بسبب أو آخر. إذا كانت السياسة الطائفية من قبل مدير التعليم في وزارة المعارف ساطع الحصري تثير هذه المسألة بين حين وآخر .
استلم الجواهري استمارة التوظيف ففوجئ بسؤال : هل أنت مسلم؟ وهل أنت شيعي أم سني؟ هذه الأسئلة محفوظة في وثائق وزارة المعارف. أجاب عنها كلها بإجابة واحدة: أنا مسلم . أرسل الجواهري الاستمارة بالبريد ، ثم سافر إلى بغداد ليقابل وزير المعارف السيد عبد المهدي المنتفجي ، وهو الذي استدعاه ليكون مدرساً في الثانوية المركزية. وصل إلى بيت الوزير وفوجئ بأن تعيينه سيكون معلماً في احدى المدارس الابتدائية. فسأل الوزير عن ذلك ، فأجابه إنها مسألة مؤقتة ولا بأس بذلك. رفض الجواهري وظيفة المعلم ، لكن الوزير أصر عليها بقبولها ، ولما سأله عن السبب ، قال: إنها قضية الشهادة المدرسية!! فقال الجواهري: وهل السيد محمد بهجت الأثري (السني) يحمل شهادة؟ فقال: إن لهذه ظروفاً أخرى. لم يكن الجواهري يتوقع هذا الموقف الضعيف من الوزير . وكان قد دافع عنه في قضية عبد الودود النصولي المعلم السوري الذي نشر كتاباً عن الدولة الأموية يمتدح فيه يزيد بن معاوية. الأمر الذي أثار ضجة وغضباً في الأوساط الشيعية ، فاضطر الوزير المنتفجي إلى أقالته وفسخ عقده.
قدم الجواهري طلب منحه الجنسية العراقية فحصل عليها ، باشر في العمل في المدرسة الابتدائية في مدينة الكاظمية. جرى ذلك مع ما له من مكانة في المنتديات الأدبية والصحف العراقية والقصائد المتواصلة التي ينظمها (نابغة النجف) على لسان جريدة (الرافدين).

الحصري والطائفية السياسية
بعد شهر من الدوام في المدرسة تم استدعاء الجواهري إلى مديرية المعارف في بغداد. في المديرية التقى بكل من طالب مشتاق ونوري ثابت (المعروف بحزبوز) وهما من رموز التعصب الطائفي ، وهما من أعضاء لجنة التحقيق ، والتي برئاسة ساطع الحصري نفسه. وكان التحقيق ينصب حول قصيدة نشرها الجواهري في جريدة يصدرها الكاتب عبد الرزاق الحسني. وفيها يتحدث الجواهري عن ذكرياته واصطيافه في ايران ، وفيها شوق وحنين للعراق. أما البيت التهمة فهو قوله:
لي في العراق عصابة لولاهم***ما كان محبوباً إليّ عراقُ
وقد وجدت للجنة أن هذا البيت فيه (ما يشبه التنصل من العراق والتمدح لإيران) التي كانت خصمهم الوحيد دون كل القوميات والمذاهب. ولو كان ذلك البيت مدحاً لبريطانيا أو تركيا لكان مدعاة للترقية وليس الفصل من الوظيفة. وهكذا صدر قرار الفصل من الوظيفة بسبب بيت شعر.
زار الجواهري وزير المعارف عبد المهدي المنتفجي وأخبر بقرار الفصل ، فأجرى الوزير اتصالاته وتمكت من إلغاء قرار الفصل ، وإعادة الجواهري للوظيفة. غضب ساطع الحصري واعتكف في بيته شهراً احتجاجاً ، لأنه كان يعتقد بنفسه أعلى من الوزير ، وهو المسؤول الأول في العراق عن التعليم والثقافة ، فكيف يُهزم أمام هذا الشاب النجفي ذو العمة والذقن الخفيفة.
استمرت الضجة شهرا حول الفصل والإعادة في الصحف العراقية. فقد دافعت صحيفة (الاستقلال) لصاحبها عبد الغفور البدري عن موقف ساطع الحصري إزاء بيت من الشعر. وتناولت القضية صحيفة (العالم العربي) لصحبها سليم حسون ، وصحيفة (العراق) لصاحبها رزوق غنام.
سببت الأزمة وضعاً غير مريح للوزير المنتفجي ، مما جعله يسعى إلى لملمتها بسرعة. فقد أرسل له باقر الشبيبي ليزور الجواهري في منزله ويطلب منه تقديم استقالته. كتبها ثم ذهب إلى الوزارة وسلمها لأحد الموظفين. وصلت الاستقالة إلى ساطع الحصري الذي أصر على رفضها ، وأصدر بدلا عنها قراراً بفصل الجواهري. لكن الوزير رفض قرار الحصري ، وأصد أمراً بقبول الاستقالة. لقد كانت الطائفية سمة واضحة في العهد الملكي رغم ان الكثيرين ينفونها. وان ساطع الحصري الذي انتقل من القومية العثمانية إلى القومية العربية ، وصار منظّرا لها ، بقي متحمساً للطائفية وحاقداً على الأكثرية الشيعية في العراق ، في الوقت الذي يزعم أنه علماني. وكانت الطبقة السياسية السنية تسعى لتهميش الشيعة في مؤسسات الدولة. فعلى سبيل المثال كان الشيعة يشكلون ١٠٪ من نواب المجلس النيابي وكذلك مجلس الأعيان.

في البلاط الملكي
بعد استقالته ، كتب محمد مهدي الجواهري رسالة إلى عمه الشيخ جواد الجواهري يستشيره فيما يفعل. كتب له عمه بمراجعة السيد محمد الصدر (١٨٨٢- ١٩٥٦) الذي كان صديقاً لوالده. ذهب إلي داره فقال له : تعال غداً. في الموعد المحدد توجه إلى السيد الصدر ، ففاجأه بالقول: سنذهب سوية إلى الملك فيصل.
كانت هي المرة الأولى التي يلتقي الجواهري بالملك الجديد الذي تلقى السيد الصدر بكل مودة وترحاب.. كان الملك مطلعاً على قضيته مع الحصري ، ورآه بنفسه ، بعمته ، فابتسم . وكان يهز رأسه مؤيداً لكلام الجواهري حول لقائه بالملك عام ١٩٢١ عند قدومه إلى العراق ومروره بالنجف ، وألقى الجواهري قصيدة ترحيب به. ثم قال: أجل أعرف . وأضاف: ماذا أصنع يا ابني محمد والحكومة حكومتي؟ ويلح إلى ما فعله ساطع الحصري من تصرف سيء. غادر الجواهري البلاط الملكي ، ولم يحدث شيء ، ولن بعد أسبوع التقى بالسيد محمد الصدر في سوق الكاظمية فسأله: أما ذهبت إلى الملك؟ إنه يطلبك. في اليوم نفسه وقبل الظهر ، توجه الجواهري الى البلاط الملكي. كان رئيس دائرة التشريفات السيد صفوت العوا السوري ، ونائبه ناصر الكيلاني. انتظر في التشريفات حتى صدرت الإرادة بتعيينه موظفاً في البلاط.
لم يغادر الجواهري أجواء اللهو والعبث وقصائد تثير الآخرين مثل قصيدة (جربيني) التي يقول فيها:

جرّبيني منْ قبلِ انْ تزدَريني*** وإذا ما ذممتِني فاهجرِيِني
ويَقيناً ستندمينَ على أنَّكِ***من قبلُ كنتِ لمْ تعرفيني
لا تقيسي على ملامحِ وجهي***وتقاطيعِه جميعَ شؤوني
إقرأيني منها ففيها مطاوي النفسِ***طُراً وكلُّ سرٍّ دَفين
فيهما رغبةٌ تفيضُ. وإخلاصٌ***وشكٌّ مخامرٌ لليقين
فيهما شهوةٌ تثورُ. وعقلٌ***خاذِلي تارةً وطوراً مُعيني
فيهما دافعُ الغريزةِ يُغريني***وعدوى وراثةٍ تَزويني
أنا ضدُّ الجمهور في العيشِ***والتفكيرِ طُرّاً وضدُّه في الدِّين
كلُّ ما في الحياةِ من مُتَع العيشِ*** ومن لذَّةٍ بها يزدهيني
التقاليدُ والمداجاةُ في الناسِ***عدوٌّ لكلِّ حُرٍّ فطين
أنجِديني: في عالمٍ تَنهشُ " الذُئبانُ "***لحمي فيه.. ولا تُسلِميني
وأنا ابن العشرين مَنْ مرجِعٌ لي***إنْ تقضَّتْ لذاذةَ العشرين
إبسِمي لي تَبسِمْ حياتي، وإنْ كانتْ***حياةً مليئةً بالشُّجون
************
إئذَني لي أنزِلْ خفيفاً على صدركِ***عذْباً كقطرةٍ من مَعين
وافتحي لي الحديثَ تستملحي خفَّةَ***رُوحي وتستطيبي مُجوني
تعرِفي أنني ظريفٌ جديرٌ***فوقَ هذي (النهود) أنْ ترفعني
مؤنِسٌ كابتسامةٍ حولَ ثغريكِ***جذوبٌ كسحرٍ تلكَ العيون
إسمحي لي بقُبلةٍ تملِكيني***ودعي لي الخَيارَ في التعيين
قرِّبيني من اللذاذةِ ألمَسْها***أريني بداعةَ التكوين
إنزليني إلى (الحضيضِ) إذا ما شئتِ***أو فوقَ ربوةٍ فضعيني
كلُّ ما في الوجودِ من عقباتٍ***عن وصولي إليكِ لا يَثنيني



وتحمّل الملك الضجة التي أحدثتها هذه القصيدة ، وتحمل أيضاً قصيدة (الرجعيون) التي أثارت نقمة رجال الدين ، وما لهم من نفوذ وتأثير في الجماهير، والتي يمس فيها رجال الدين ، ويلصق بهم كلمات نابية ، فهو يقول فيها:
همُ القومُ أحياءٌ تقولُ كأنُهم***على باب (شيخ المسلمين) موات
بيوتٌ على أبوابها البؤسُ طافحٌ***وداخلَهُنَّ الأنسُ والشهَوات
تحكم باسمِ الدينِ كلٌّ مذمم***ومُرتكب حفّت به الشُبُهات
وما الدينُ إلاّ آلة يَشهَرونها***إلى غرضٍ يقضُونه، وأداة
وخلفهُمُ الأسباطُ تترى، ومنهُمُ***لُصوصٌ، ومنهم لاطةٌ وزُناة
فهَلْ قَضتِ الأديان أن لا تُذيعَها***على الناس إلا هذه النُكِرات

وفي قصيدة بعنوان (ليلة من ليالي الشباب) يصف الجواهري ليلة ماجنة تبدأ بموعد بمقهى الرشيد مع خلانه، وسهروا في أحد الملاهي الليلية ، حيث الرقص والخمر والسكر. ثم خرجوا في منتصف الليل في منطقة الميدان حيث بيوت الدعارة العلنية ، وأمسك واحد منهم بعاهرة ، وقضى وطره منها. وقد وصف الجواهري العملية الجنسية بشكل فاضح ، لا يصح نشرها.

في أحد الأيام طلب الملك فيصل من الجواهري أن يقوم باستطلاع الصحف الصادرة في بغداد يوماً ويقدم إليه موجزاً بأهم القضايا التي تناولتها ، بما يهم الملك وحكومته. قدم الجواهري بأسماء عشرة صحف لشرائها من ميزانية البلاط ، لكن رئيس التشريفات صفوت العوا لم يقبل بهذا الإنفاق الزائد ، غير أنه وافق بعد أن علم أن هذه رغبة الملك.
كانت الأمور تسير بشكل عادي لكن حدثت أزمة داخلية. فقد نشرت إحدى الصحف قصيدة للشاعر عبد المحسن الكاظمي يمدح فيها ملك السعودية عبد العزيز ابن سعود ويعرّض بالملك فيصل. وقد استفسر الملك عن صحيفة (أم القرى) الجريدة الرسمية لابن سعود التي قال انها نشرت القصيدة. وكان عبد الله المضايفي المسؤول عن ضيافة شيوخ البدو الذاهبين من وإلى نجد والحجاز ، وهو المسؤول عن استثارة واستغلال القلاقل المتبادلة بين الملك فيصل وابن سعود. فأوضح الجواهري بأن (أم القرى) لم تنشرها بل جريدة أخرى.
وقد اعترض كثير من الشخصيات والوجهاء على قصائد الجنس والعري ، منهم الملك علي الشقيق الأكبر للملك فيصل ، والذي لم يخف غضبه واستيائه . فبعث على الجواهري يعاتبه على قصائده فأعطى تبريرات وشروحات ومهارب من المعنى. سكت الملك ولم يناقشه بل طلب منه أن لا يعود لمثلها. وكان المحرك لهذه الضجة ، كما يبدو ، مفتي بغداد السيد يوسف العطا (١٨٦٩- ١٩٥٠).
في البلاط الملكي التقى الجواهري بالشخصيات السياسية البارزة في العهد الملكي مثل عبد المحسن السعدون ، ياسين الهاشمي ، نوري السعيد ، ناجي شوكت ، توفيق السويدي ، ناجي السويدي ورشيد عالي الكيلاني وغيرهم.
أمضى الجواهري ثلاث سنوات في تشريفات البلاط الملكي خاض خلالها مشاكل وصراعات. لم يشأ الاستمرار في ذلك الوضع العدائي ، فآثر تقديم استقالته للملك فيصل ، الذي سأله عن السبب ، فأجابه: لكي أكون صحفياً ، لأنني ذو هواية تمتد جذورها بعيداً في عالم الصحافة. وهكذا ترك الجواهري البلاط الملكي.

في عالم الصحافة
بدعم مالي ومعنوي من السياسي نوري السعيد الذي كانت له جريدة (العهد) ، قام الجواهري بإصدار جريدة (الفرات) ، وكان السعيد ووزير الداخلية جميل المدفعي يتابعان من تنشره الجريدة. استعان الجواهري بكاتبين معروفين في الجريدة ، هما محمد عبد الحسين صاحب كتاب (سر تأخر المعارف) في عهد ساطع الحصري ، والآخر هو الصحفي إبراهيم حلمي العمر (١٨٩٠-١٩٤٢) صاحب جريدة (المفيد). وقد تمنى له الملك فيصل ، وقدم مبلغ (٧٠٠) روبية للجريدة الوليدة. وقام نوري السعيد بإصدار إعمام إلى المتصرفين بالألوية العراقية يأمرهم فيه أن يساعدوا الجريدة ، فانهالت عليها التحويلات  والاشتراكات.
صدر من (الفرات) عشرون عدداً فقط ، وكان يكتب فيها جعفر العسكري ، ويرد عليه ياسين الهاشمي. وكانت تعتبر الجريدة الناطقة بلسان الملك فيصل. كما كان نوري السعيد يختصها بتصريحات سياسية حصرية. وكتب الجواهري افتتاحية تهاجم مزاحم الباججي ، فرد عليه الأخير بمقال. وكان الباججي قد ألقى خطاباً يدعو فيه المندوب السامي البريطاني أن يكون العراق جزءاً من الكومنولث ، ويطعن بثورة العشرين. نشر الجواهري خطاب الباججي ، والذي يحتج فيه على مشاركة الملك (غير المسؤول) في المفاوضات مع بريطانيا. فما كان من الباججي إلا الذهاب لمقر الجريدة وسلمها رده على الجريدة . فنشره الجواهري احتراماً للرأي الآخر. أغضب ذلك وزير الداخلية جميل المدفعي ، فأمر بإغلاق الصحيفة.
بقي الجواهري ولمدة ثلاثين عاماً يعمل في الصحافة ويدير صحفاً بأسماء متنوعة ، لكن بقيت المعارك الصحفية سمة ملازمة. فتارة يهاجم سياسي أو صحفي مثله ، فيرد عليه مقال ، أو يشتكي عليه في المحكمة فيكسب الخصم الدعوى ، ويدفع الجواهري الغرامة ، أو يتوسط طرف آخر فيصلح بينهما.

في وزارة المعارف
بعد تركه تشريفات البلاط الملكي ، صار الجواهري يبحث عن وظيفة. في أحد الأيام التقى بجعفر العسكري وكان وزيراً للمعارف بالوكالة ، عرض عليه وظيفة معلم ابتدائية ، فقبل بها على مضض وهو الشاعر الذي تنشر له الصحف كل يوم ، وتعرفه شخصيات البلاد السياسية والأدبية والبيوتات المعروفة.
كان الدكتور فاضل الجمالي المستشار الأول في الوزارة ، والسيد عبد الكريم الأزري سكرتير عام للوزارة ، والدكتور سامي شوكت مدير عام المعارف. وكان الجمالي خريج جامعة كولومبيا نفسه مقرباً من رجل التربية الأول في أمريكا والعالم الفيلسوف جون ديوي (١٨٥٩- ١٩٥٢) ، الذي أستقدم للعراق لتنظيم أمور المعارف ولتطوير التعليم. وقال ديوي: أوصيكم بالجمالي ، فقد كان يتميز حتى على الطلاب الأمريكيين عندي.  
باشر الجواهر في مدرسة المأمونية الابتدائية المعروفة وخاصة بطلابها المتميزين وأبناء الذوات ، والتي افتتحها الملك فيصل شخصياً من دون كل المدارس. وكان الدكتور مصطفى جواد يدرّس فيها. وحدث أن طارق جعفر العسكري وكان طالباً في المدرسة يقوم بشغب مستغلاً منصب أبيه ، فنهره الجواهري وهدده بالطرد إذا لم يسكت. كانت النتيجة أنها تم نقل الجواهري من المدرسة إلى ديوان الوزارة.
لم يطق الجواهري المكوث بوظيفة في الوزارة ، ولا أحد يسائله عن الدوام والغياب والتأخر في الدوام ، لكن طلب من سامي شوكت النقل إلى ثانوية البصرة ، لأن الراتب سيزيد ، مما يخفف من ديونه الواجب دفعها. وبسبب نشره قصيدة ترحيب بالأمير فيصل بن سعود لزيارة العراق عام ١٩٣٢ ونشرها في جريدة (أم القرى) ، تضمنت تعريضاً بالملك فيصل ، صدر أمر نقله إلى ثانوية النجف ويعني ذلك العودة إلى والدته حيث تعيش.

محاولة اغتيال
أثناء وجود الجواهري في النجف حدثت محاولة قتل أخته وخطيبها لأن ابن خاله نهى عنها ويريها لنفسه. وهي عادة عشائرية تسمى بـ (النهوة). ورغم الوساطات من أجل منع الجريمة ، لكن ابن الخال رفضها كلها. ورغم فشل المحاولة لكن الجواهري شعر بالخطر من بقائه في النجف.
عندها قرر الجواهري الذهاب إلى بغداد ولقاء الدكتور فاضل الجمالي طالباً منه نقله من ثانوية النجف إلى دار المعلمين في الرستمية ببغداد ، وهي بناية محصنة ومحاطة بأبواب وسور ، يصعب  دخولها. صدر الأمر الإداري في نفس الليلة.

مشكلة بسبب قصيدة
في دار المعلمين عاد الجواهري إلى نشاطه الأدبي والشعري ، ولكن الأحداث المتسارعة كانت تفرض نفسها عليه. ففي عام ١٩٣٥-١٩٣٦ قامت ثورة للعشائر في الديوانية  احتجاجاً على النهج الطائفي الذي تمارسه الحكومة في عهد ياسين الهاشمي ، ومنع مراسم محرم وعاشوراء. كانت العشائر بقيادة الشيخ محمد حسين ال كاشف الغطاء الذي وقع معهم ميثاق النجف حيث تم إدراج مطالب الشيعة فيه. تم تكليف بكر رئيس الأركان لقمع الثورة ، فقام باعتقال المئات ، واعدامهم شنقاً ، حيث شكل مجالس عرفية ميدانية تحاكم الثوار وتعدمهم في الوقت نفسه.
وكان الساسة مثل جميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي وياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني وكلهم من المذهب السني غير مهتمين لكرامة الناس ، ولا للإجراءات القاسية التي اتخذتها الحكومة ضد الشعب. وكانت الصحافة تغطي ما يجري في الفرات الأوسط ، فاستقطبت الناس الذين عارضوا الإجراءات العسكرية ضد مواطنين مدنيين ، وبين مؤيدين لما يحدث بسبب التعاطف الطائفي مع رجال السياسي والعسكر.
في تلك الأجواء لم يكن الجواهري ليسكت بل أمسك قلمه وكتب قصيدة (حالنا اليوم أو في سبيل الحكم) فقال:
لقد ساءني علمي بخبث السرائر***وإنّي على تطهيرها غير قادر
وآلمني أني أخيذ تفكر***بكل رخص النفس خبّ مماكر
وهاجم الجواهري ياسين الهاشمي وكل السياسيين الذين يقرّبون أقاربهم وأصهارهم وذويهم وهم عادة من نفس المذهب ، دون اختيار الكفوئين ، فيقول:
ولم يبق معنى للمناصب عندنا***سوى أنها ملك القريب المصاهر

التقى الجواهري المحامي عبد الرحمن خضير مسؤول جريدة (الإصلاح) وقرأها عليه ، فقال له: إنني مستعد لنشرها. فقال له الجواهري محذراً: وتتحمل مسؤوليتها ؟ وقد تُغلق جريدتك؟ فقال له: لا عليك ، اعطني إياها. في صباح اليوم التالي نشرت الجريدة القصيدة . انعقد مجلس الوزراء فقرر غلق الجريدة لمدة عام. وتقرر إحالة الجواهري إلى لجنة انضباط في وزارة المعارف. وأقيمت دعوى على الجواهري
وعلى صاحب الجريدة مظفر فهمي. في يوم المحاكمة غاب فهمي ، وحضر الجواهري وحده ، وبعد أسبوع تعين فهمي مدير ناحية تعويضاً له عن إغلاق جريدته . وأما الجواهري فلم يعاقبه القاضي. أما لجنة الانضباط فقد قررت فصله ، وقبل انتهاء مهلة الطعن بالقرار ، وبتشجيع من وزير المعارف صادق البصام ، قدما طعناً بالقرار. وجّه مجلس الانضباط العام توبيخ شفهي فقط ، وجاء في القرار إعادة رواتبه المجمدة خلال خمسة أشهر. والتقى بوزير المعارف صادق البصام فعرض عليه وظيفة في الناصرية. فسافر مع أسرته وأولاه إلى هناك. وبعد انتهاء العطلة الصيفية استقال من الوظيفة وتخلص من أعباء ورقابة وعقوبات وزارة المعارف.

المواجهة مع الانقلابيين
سار الجواهري في طريقه المحبب : طريق الصحافة ، فأسس جريدة (الانقلاب) ، وكانت تؤيد انقلاب بكر صدقي رئيس أركان الجيش العراقي في ٢٦ تشرين الأول 1936 وأطاحت بحكومة ياسين الهاشمي. وكان أول انقلاب عسكري في العراق ، وفتح باب الباب لانقلاب ١٩٤١ بزعامة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة. بعد تسعة أشهر في ٩ آب ١٩٣٧ تم اغتيال بكر صدقي في مطار الموصل اثناء طريقه إلى تركيا.
ما إن قتل بكر صدقي وفشل انقلابه حتى تم اعتقال الجواهري وكم عليه بالسجن ، ولكن الصحيفة استمرت بالصدور ، وفضح الانقلابيين الفاشيين: بكر صدقي صاحب الانقلاب وحمت سليمان رئيس حكومة الانقلاب. والجواهري ينشر فيها بعد خروجه من السجن، فقد كتب مقالاً بعنوان (جاسوس خطير في أوتيل تايكرس بالاس) (فندق قصر دجلة الموجود في منطقة السنك) ، ويقصد به الكاتب أمين الريحاني الذي قدم إلى بغداد لتغطية أخبار الأوضاع الناتجة بعد انقلاب صدقي. وكان الريحاني بعيداً عن المهنية والموضوعي ، منتصراً للفتنة الطائفية. بعد نشر المقال في الصباح ، كان الريحاني قد حزم حقائبه وغادر العراق على وجه السرعة. فيما بعد كشفت الوثائق بأن الريحاني كان جاسوساً يعمل لبريطانيا ولأمريكا التي يحمل جنسيتها.

رثاء زوجته
كان الجواهري قد تزوج من ابنة عمه (مناهل) ابنة الشيخ جواد الجواهري ، التي أنجبت له ثلاث بنات وولدين : اميرة وفرات وفلاح.
في عام ١٩٣٩ ماتت بنتان هما (رامونا) ذات التسع سنوات ، ولحقت بها شقيقتها (لطيفة) ذات العام الواحد بعد شهرين. وقد بقيت هاتان البنتان حاضرتين في ذهن الجواهري حتى بعد نصف قرن على وفاتهما. وفي نفس العام توفيت زوجته مناهل ، وكان الجواهري في بيروت ليكون عضوا في وفد حكومي يسافر إلى القاهرة ، رداً على زيارة سابقة لوفد مصري مع شاعر مصري هو علي الجارم.
وصلته برقية من ولده فرات عن طريق نقيب الصحفيين اللبناني السيد الطيبي ، تألفت من بضع كلمات: إن والدتي في خطر. عاد إلى النجف حزيناً مفجوعاً ، ثم أنشد قصيدة ما زالت أجمل ما قيل في الرثاء:
في ذمة الله ما ألقى وما أجدُ***أهذِهِ صخرةٌ أم هذه كبَدُ
قد يقتلُ الحزنُ من أحبابه بعُدوا***عنه فكيف بمن أحبابُهُ فُقُدوا
ناجيتُ قبرَكِ أستوحي غياهِبَهُ***عن حال ضيفٍ عليه مُعجَلا يفدُ
أيام إن ضاق صدري أستريحُ إلى***صدرٍ هو الدهرُ ما وفى وما يَعِدُ

بعد (مناهل) تزوج أختها (أمونة) التي أنجبت له ولدين هما: نجاح وكفاح ، وابنتين هما: خيال وظلال.  
ولما توفيت عام 1992 رثاها بقصيدة، بنفس قافية قصيدة (حبيبتي)، قال فيها:

ها نحنُ أمونة ننأى ونفترقُ ***والليلُ يمكثُ والتسهيدُ والحرقُ

والصبحُ يمكثُ لا وجهٌ يُصَبحُني*** به ولا بسماتٌ منكِ تنطلقُ

ما أروحَ الموتَ، بل ما كان أبغَضَه***لدي إذ أنتِ مني الروح والرمقُ...

يا حلوة المجتلى والنفسُ ضائعة***والأمرُ مختلطٌ والجو مختنقُ

ويا ضحوكة ثغرٍ والدنى عبسٌ***ويا صفية طبعٍ والمنى رنـقُ...

مني عليكِ سلامٌ لا يقومُ به ***سن اليراعِ ولا يقوى به الورقُ

ولما توفي دفن بجوارها في مقبرة الغرباء، في منطقة السيدة زينب بدمشق، ونحتت على قبرهِ خريطة العراق مكتوب عليها: (يرقد هنا بعيداً عن دجلة الخير).

انقلاب رشيد عالي الكيلاني
في مايس ١٩٤١ قام رشيد عالي الكيلاني الذي كان لفترة قريبة رئيساً للديوان الملكي للأمير عبد الاله الوصي على عرش العراق، قام بانقلاب عسكري ضد العرش وضد بريطانيا.  بعد الانقلاب أرسل الكيلاني على الجواهري باعتباره صاحب جريدة (الرأي العام) ، وطلب منه نظم شعر يدعم الانقلاب. لم يستجب الجواهري للطلب ، بل سافر إلى النجف ، حتى انتهى الانقلاب ، وهرب الكيلاني مع وزرائه إلى إيران ، ومن هناك إلى تركيا ثم ألمانيا حيث التقى بهتلر.
اتصل به قائممقام النجف ليبلغ أنه مطلوب من قبل مدير الدعاية العام في بغداد نوري الدين داود. طلب منه داود إعادة إصدار (الرأي العام). رفض الجواهري لكن داود طلب منه الحضور إلى بغداد لمناقشة الأمر. قبل سفره إلى بغداد استمع إلى إذاعة برلين وصوت يونس بحري ، يستنهض الشعب والجيش العراقي ويذكرهم بأبيات شعر للجواهري كان قد أنشدها في ثورة العشرين.
اتصل الجواهري بنوري الدين داود الذي أخبره بأن جميل المدفعي وعد بتوفير دعم مادي للجريدة، لكن الجواهري رفض هذا العرض. كما رفض نفس العرض من وزير المعارف الشيخ محمد رضا الشبيبي فاعتذر أيضاً. وكما رفض مدح الانقلابيين ، رفض أيضاً مدح من جاؤا بعدهم . لأن مدح الانقلابيين يعني مدح ألمانيا ، ومدح خصومهم يعني مدح بريطانيا.
لم يكن باستطاعة الجواهري البقاء في العراق ، فسعى إلى الفرار مع عائلته إلى إيران. في كرمنشاه حيث يقيم أخوه عبد العزيز. مكث عدة أيام ثم سافر إلى طهران ونزل في فندق متواضع. تصادف وجود الجواهري مع زحف عسكري روسي على طهران من الشمال ، وزحف عسكري بريطاني من الجنوب. وتم إقالة الشاه رضا وتنصيب ابنه محمد رضا ملكاً على ايران. وفي طهران بالوزراء الهاربين من انقلاب الكيلاني ، مثل حكمت سليمان وناجي السويدي ويونس السبعاوي وعلي محمود الشيخ علي وصدّيق شنشل. ثم قامت السلطات الإيرانية بالتعاون مع بريطانيا ، فسلّمت بعضهم مثل العقداء الأربعة صلاح الصباغ وزملائه ، وقسم تم نفيه إلى جنوب أفريقيا ، وهناك مات ناجي السويدي ودفن هناك.

هدأت الأوضاع في بغداد فعاد الجواهري لإصدار جريدته (الرأي العام) ، وعادت جريدته إلى جمهورها. لكن علم أن اسمه وضع في القائمة السوداء بحجة التعاون من حركة الكيلاني. بحث الجواهري عن ملجأ
أمس, 14:10
عودة