الرئيسية / الهيمنة الرقمية بدلاً من السيطرة الجغرافية

الهيمنة الرقمية بدلاً من السيطرة الجغرافية

"Today News": بغداد 

لم تعد الحروب في عصرنا تُخاض بالسيوف والجيوش، ولا تُحددها الخرائط والحدود. فقد انقلبت موازين الصراع، وانتقل الميدان إلى فضاء رقمي تتكئ قوته على البيانات والمعلومات، تلك التي باتت أشد فتكاً من السلاح وأقوى نفوذاً من المال. الدول والكيانات التي تستحوذ على نصيب الأسد من البيانات أصبحت مهيأة لتتبوأ عرش الهيمنة العالمية، سياسيًا واقتصاديًا واستراتيجيًا. نحن اليوم نعيش في عصر الاقتصاد الرقمي والمعرفي، حيث تحكم البيانات دفة جميع القطاعات، وتؤكد أنها العملة الجديدة للقوة.

*صعود نجم الاقتصادات الرقمية والمعرفية*

لقد أصبحت الابتكارات الرقمية والصناعات القائمة على المعرفة محركًا رئيسيًا للاقتصاد العالمي. بخلاف الاقتصادات التقليدية المعتمدة على الموارد الطبيعية، يقوم الاقتصاد الرقمي على المهارة في جمع البيانات ومعالجتها وتسخيرها. وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2023، يشكل الاقتصاد الرقمي 15.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بمعدل نمو يتجاوز الاقتصاد التقليدي بمقدار 2.5 مرة خلال العقد الماضي. هذا التصاعد يؤكد ضرورة التحول إلى إطار عمل رقمي متكامل.
ولتوضيح حجم هذا التحول، أعلنت الولايات المتحدة مؤخرًا عن استثمار مذهل بقيمة 500 مليار دولار في تطوير بنية تحتية للذكاء الاصطناعي. هذا الاستثمار الضخم يعكس إدراكها للأهمية الاستراتيجية لهذه التقنية المتطورة في رسم ملامح المستقبل. وعلى الجانب الآخر من العالم، بلغت قيمة سوق الذكاء الاصطناعي في الصين 68 مليار دولار في عام 2022، مع توقعات بتجاوزها حاجز 150 مليار دولار بحلول 2030. هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات اقتصادية؛ بل هي شواهد على تحول تاريخي تقوده الثورة الصناعية الرابعة، حيث تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي والمعزز، وأنظمة الطائرات المسيّرة، وتحليل البيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء رؤى جديدة تُعيد صياغة العلاقات بين القوة والتكنولوجيا.

*الاستعداد لمعركة الهيمنة الرقمية*

إن التحول من السيطرة الجغرافية إلى الهيمنة الرقمية يتطلب استعدادًا مدروسًا وخطوات جريئة لمواجهة المخاطر واستثمار الفرص. وللتصدي لتحديات الحروب الرقمية وصراعات القوة القائمة على البيانات، يتعين على الدول تبني استراتيجيات شاملة ترتكز على محاور أساسية:
1.بناء بنية تحتية صلبة:
الاستثمار في بنية تحتية رقمية متقدمة يشكل العمود الفقري للتنافس في هذا العصر. شبكات إنترنت فائقة السرعة، ومراكز بيانات متطورة، ونظم اتصالات آمنة ليست مجرد رفاهية، بل ضرورة لضمان الاستدامة الرقمية. وفقًا للاتحاد الدولي للاتصالات، بلغ معدل انتشار الإنترنت عالميًا 66% في عام 2022، إلا أن الفجوة الرقمية ما زالت قائمة، حيث لا تتجاوز النسبة 46% في الدول النامية. سد هذه الفجوة هو شرط أساسي لتحقيق العدالة الرقمية.
2.تعزيز المهارات الرقمية:
إن تسليح الأفراد بالمعرفة والمهارات اللازمة للإبحار في الاقتصاد الرقمي يمثل حجر الزاوية لأي استراتيجية تنموية. يجب إعادة صياغة الأنظمة التعليمية لتصبح التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في صميم المناهج الدراسية. تشير تقارير اليونسكو لعام 2021 إلى أن 23% فقط من المدارس على مستوى العالم تدمج المهارات الرقمية في مناهجها. هذه النسبة تحتاج إلى تضاعف لضمان جاهزية الأجيال القادمة.
3.تحصين الأمن السيبراني:
مع ازدياد الاعتماد على الأنظمة الرقمية، تتزايد التهديدات التي تستهدف استقرارها وسلامتها. لابد من تطبيق سياسات صارمة للأمن السيبراني تحمي البيانات الحساسة والبنى التحتية الحرجة من الهجمات الإلكترونية. تشير التقديرات إلى أن تكلفة الجرائم السيبرانية على الاقتصاد العالمي قد تصل إلى 10.5 تريليون دولار سنويًا بحلول عام 2025. التعاون بين الحكومات والقطاع الخاص هو طوق النجاة أمام هذه التحديات.
4.إطلاق بيئات الابتكار:
إن إنشاء مراكز أبحاث وحاضنات تكنولوجية يمثل قاطرة للتحول الرقمي. فمن خلال دعم الشركات الناشئة وتحفيز البحث والتطوير، يمكن للدول أن تتصدر ميادين التكنولوجيا المتقدمة. وتجربة إسرائيل في "سيليكون وادي" خير مثال، حيث جمعت شركاتها الناشئة استثمارات بقيمة 15 مليار دولار في عام 2022 وحده.
5.تعزيز التعاون الدولي:
التحديات الرقمية بطبيعتها عابرة للحدود، مما يستدعي استجابات دولية منسقة. الشراكات بين الدول تتيح تبادل المعرفة والخبرات، مما يسهم في التصدي للتهديدات المشتركة واستغلال الفرص الجماعية. الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال وضع خطة "العقد الرقمي" التي تهدف إلى تعبئة استثمارات بقيمة 1.8 تريليون يورو لتحقيق التحول الرقمي بحلول عام 2030.

*العراق والتحول الرقمي*
بالنسبة للعراق، تبدو الحاجة إلى التكيف مع هذه الحقائق الرقمية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2022، فإن مؤشر التبني الرقمي في العراق يبلغ 0.49، وهو أقل من متوسط منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا البالغ 0.56. هذه الأرقام تكشف عن فجوات كبيرة تتطلب استراتيجيات وطنية جادة.
من الضروري صياغة رؤية عراقية شاملة للتحول الرقمي تشمل بناء شراكات مع قادة التكنولوجيا العالميين، واستثمار رأس المال البشري المحلي لتطوير حلول مبتكرة تتناسب مع خصوصية البلاد. من خلال تبني تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، يمكن للعراق تحديث قطاعات أساسية مثل الصحة والتعليم والخدمات العامة، وتحقيق قفزات تنموية كبيرة.

*تحدٍ عالمي وفرصة تاريخية*
يمثل العصر الرقمي اختبارًا مصيريًا للدول، فخيارات اليوم سترسم معالم المستقبل. السباق نحو الهيمنة الرقمية ليس مجرد منافسة تقنية، بل هو معركة استراتيجية تحدد مصير الأمم في القرن الحادي والعشرين.
إن إدراك أهمية هذه الهيمنة والعمل على تحقيقها ليس ترفًا، بل ضرورة للبقاء والازدهار في عالم لا يرحم إلا الأقوياء. القرار بأيدينا، والوقت للعمل قد حان.
أمس, 13:42
عودة